من الوحدة الوطنية إلى التجانس!



هل يمكن أن يكون الشعب شعبًا واحدًا؟

قالها السوريون في شعاراتهم اﻷولى، وهم محقون بذلك، لأنهم حلموا به طوال حياتهم، على مر العصور، ولأن هذا الشعار يحمل في طياته جذوة التحرر، والمطالبة بالعدالة والمساواة لجميع السوريين، وهذا ما كانوا يفتقدونه منذ عقود. كما قالوها لأنهم يعرفون أن النظام سيعمل كلّ ما في وسعه على تحطيم وحدتهم الوطنية، في مواجهته.. فهل كان هذا الشعار خاطئًا؟

الأنظمة المستبدة رفعت –بدورها- شعارات الوحدة الوطنية، ورص الصفوف، وطالبت بأن يكون الشعب على قلب رجل واحد؟ وكان هذا الرجل الواحد -عمليًا- هو القائد الواحد، الحاكم بأمره، وولي الزمان والمكان! الذي لا يكون عادلًا إلا في ظلمه وفساده وإذلاله.. ولم تكتف تلك الأنظمة المستبدة بشعار الوحدة الوطنية؛ بل جعلته ملحقًا أو جزءًا من شعار الأمة العربية الواحدة! لكن ما إن ثار هذا الشعب العربي، حتى بدأت تلك الأنظمة بتأليب قسمٍ منه (الشبيحة والموالين والبلطجية)، ضد قسم آخر (المتظاهرين والمحتجين السلميين)، متلاعبة بمكوناته، مجتهدة في تمزيق وحدته الوطنية التي كانت مقدسة، والتي باتت تشكل خطرًا عليها، واضعة الجيش والقوى الأمنية في مواجهته، ومستخدمة الدين والطائفية والعصبيات القبلية والعشائرية، والأمراض الاجتماعية المختلفة.

لا يمكن –طبعًا- أن يكون أي شعب واحدًا، في ظل الظلم الاجتماعي وغياب العدالة! فما الذي يربط الفلاح بـ البيك، والعامل بـ الرأسمالي، والعبد بـ السيد، والفقير بـ الغني، والجندي بـ الجنرال.. وما الذي يجمع المظلوم بالظالم، والسائل بالمسؤول، والحارم بالمحروم، والجائع بالشبعان، والتاجر بالفاجر، في ظل غياب الحد الأدنى من النزاهة والضمير والعدل الاجتماعي والمساواة وسيادة القانون. والحكم في ذلك لا يستند فقط إلى الماركسية واللينينية ونظرية الصراع الطبقي، ولا إلى الثورة الفرنسية وشعاراتها، وشرعة حقوق الإنسان وعدالتها، بل إلى الثورة السورية المغدورة التي عشنا ملحمتها، والاستبداد السياسي والديني العجيب، الذي واجهها، والذي لم يشهد له التاريخ مثيلًا!!

لو دققنا في الأمر واسترجعنا الماضي؛ لرأينا بشكل جلي أن الشعب السوري لم يكن -يومًا- شعبًا واحدًا! وكيف يمكن أن يكون! وقد صُنف -منذ البداية- (أي، منذ نصف قرن ويزيد)، على أساس التقسيم الحاد “بين الخيار والفقوس”: موال/ معارض، حزبي/ غير حزبي، تقدمي/ رجعي، مناضل/ عميل، يميني/ يساري، صديق/ عدو..؟! وهل ثمة ما يجمع الموالي “المناضل” -الذي يملك الحقوق كاملة، ويتهرب من واجباته الوطنية، ويستطيع فوق ذلك أن يسرق ويظلم ويقتل ويزوّر، ويتجاوز القوانين والأعراف كلها، دون رادع أخلاقي- والمعارض “المدسوس” المحروم –عمليًا- حتى من حقوق المواطنة والعيش الكريم، والذي إذا حاول أن يعبّر عن احتجاجه مشافهة، كانت عقوبته الردع بالسجن والتهميش والسحل والقتل.. ما الذي يجمع المثقفين الوطنيين الشرفاء الحالمين بالحرية ودولة القانون والمؤسسات، مع العبيد والمرتزقة والشبيحة والمخبرين!؟

إن مقولة الوحدة الوطنية لا يمكن تحقيقها بمعزل عن العقد الاجتماعي، وفي ظل العدالة والمساواة والحرية، وحماية حقوق الناس وواجباتهم الوطنية.. (وهذا ما أراده السوريون حين ثاروا، وقالوا: واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد)، لكن وحدة هذا الشعب لا تعني شيئًا في غياب الديمقراطية، ولا تفضي -في ظل الاستبداد والدكتاتورية- إلا إلى شيء واحد، هو “القطيع المتجانس”.


غسان الجباعي


المصدر
جيرون