مفهوم المفهوم



قد يحدث وأنت تقرأ كتابًا أو مقالًا ما، عن موضوع ما، مكتوبًا باللغة العربية أو مترجمًا إليها، قد يحدث ألا تفهم شيئًا مما تقرأ. وستشعر ربما أن خلايا دماغك، على عددها الهائل، لم تصل إلى العدد المطلوب لفهم المستوى العميق الذي يسعى إليه الكاتب أو الكاتبة، خاصة إذا كان الكتاب كتابًا تحليليًا تركيبيًا رؤيويًا، تتداخل أنساق علامته في بؤرٍ حيّزيّة مفاهيمية، تشكل تناصًا تداوليًا مع أصول النظريات الخاصة بمنحى ما من مناحي الحياة. مفهوم؟!

ولكن؛ ثمة اقتراحات أخرى لعدم الفهم ذاك، أحدها أن المكتوب/ المقروء هو بذاته غير مفهوم، وعدم الفهم هذا ليس (أو ليس فقط) بسبب ركاكة الكاتب في اختيار المفردات وبناء الجملة العربية، ولا ضعف المترجم في ذلك أيضًا، أي قد لا يكون السبب هو الركاكة عمومًا، بل طبيعة اللغة نفسها وعلاقتها بالمجتمع الذي ينتجهما (اللغة وطبيعتها). السبب قد يكون في انفصال اللغة عن الناس، بمعنى آخر: أن تصبح المفردة (وبالتالي الجملة وطريقة بنائها) حاملًا لمعنى غير موجود بين الناس.

اللغة، بوصفها وسيلة أساسية من وسائل التواصل بين أفراد البشرية، تتطور باستمرار وفق حاجة هؤلاء الأفراد الذين يتطورون باستمرار بدورهم، كما هو حال كل ما يحيط بهم، فإنتاج البشر الذي يغيّرهم ويغير محيطهم، يخلق منتجات جديدة بحاجة إلى أن تُعرَّف باللغة. هذه المنتجات تمتد من منتَج مادي بحت (كالكمبيوتر مثلًا)، إلى منتَج مجرد بحت (كالأفكار مثلًا)، وبين هذين القطبين تَنتُج علاقات جديدة بين الفرد ونفسه، وبين الأفراد بعضهم ببعض، وبينهم وبين محيطهم، وهذا كله (المنتجات المادية والمجردة والعلاقات الجديدة) بحاجة إلى كلمات تعبّر عنه، هذه ربما هي بذرة “المفهوم”، إذ يصبح الغامض أو غير الجلي أو غير الواضح أو العسير على المعرفة؛ يصبح “مفهومًا” بدخوله كمفردة في اللغة.

بناء على ذلك، يمكننا الاستنتاج أن عدم فهمنا (أو صعوبته) لكثير مما يرد في الكتب والمقالات، ليس بالضرورة بسبب غبائنا فقط، والعياذ بالله، ولا بسبب تكبر كتّابنا المتكبرين، بل لأننا مجتمع غير منتِج في هذا العالم، نحن نستقبل فقط، ولا أقصد طبعًا أننا لا ننتج برادات بردى، أو بسكويت غراوي، بل أقصد أننا لا ننتج معرفة جديدة تضاف إلى البراد أو إلى البسكويت، لم ننتج شيئًا في الرياضيات منذ الصفر ربما، ولا في العلوم الاجتماعية (العمران) منذ ابن خلدون (حتى محمد عابد الجابري حين حلل العقل العربي اعتمد على “مفاهيم” خلدونية)، فما بالك بعلوم تعتبر حديثة، كاللسانيات والنظرية النقدية والتحليل النفسي والفيزياء الكمية والخلايا الجذعية، أو بفنون كالمسرح والسينما والرواية.

القصد من ذلك ليس الإدانة (مع أننا نستحقها)، بل محاولة فهم عدم فهم المفاهيم بسهولة، إنها ببساطة ليست مفاهيمنا، بالتالي لا تحمل التراكم الدلالي الذي تحمله بالنسبة إلى منتجيها، والكتّاب العرب لم يساعدوا في تجاوز هذه العقبة، وإنما كرسوها من خلال استخدام هذه المفاهيم صعبة الفهم بكثافة، بل أصبح من لا يستخدمها إما سطحيًا لا يستحق الوقوف عند أفكاره، أو شعبويًا يكتب صحفًا صفراء بحثًا عن جمهور، أو صار مشوِّها للثقافة… إلخ، كل ذلك دون محاولة إنتاج مفاهيم تشبهنا، وحتى بعض المحاولات لإنتاج مفاهيم جديدة، نابعة من ثقافتنا فشلت، لأن المفاهيم تأتي من الإنتاج، ونحن غير منتجين. نحن -تقريبًا- نراوح في المكان معرفيًا، منذ إجهاض محاولة النهضة أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم، والتطور لا يأتي من المراوحة في المكان.


عمر الجباعي


المصدر
جيرون