on
هل يتحول اللاجئون السوريون إلى شتات؟
يستخدم مصطلح الشتات (Diaspora)، للإشارة إلى المهاجرين من بلد ما إلى بلدان أخرى عديدة، والمستقرون نسبيًا في بلدان المهجر، حيث يقيمون ويعملون ويكوّنون الأسر، وقد يعودون أو لا يعودون إلى وطنهم الأصلي. أما اللاجئون فيقيمون مؤقتًا في البلدان التي لجؤوا إليها بانتظار انتهاء الظروف التي أدت إلى لجوئهم، والعودة إلى وطنهم. هكذا يدور الحديث عن الشتات الفلسطيني والشتات اللبناني والشتات الأرمني… إلخ، بعد سنوات طويلة من الهجرة أو التهجير القسري، بينما يتحدثون عن اللاجئين السوريين أو لاجئي الروهينغا مثلًا، نظرًا إلى حداثة عملية التهجير، والأمل في عودة هؤلاء اللاجئين إلى أوطانهم.
في ورشة عمل أكاديمية، عقدت الشهر الماضي في باريس حول أوضاع الشتات السوري واللاجئين السوريين في مناطق العالم المختلفة، بدا كأن اللاجئين السوريين في أعقاب الثورة السورية يتحولون بالفعل إلى شتات، ربما باستثناء اللاجئين في الدول المجاورة لسورية (لبنان والأردن وتركيا). بل هناك ما يشير إلى أن أعدادًا كبيرة من هؤلاء في طريقهم للتحول إلى شتات، بانخراطهم في أعمال مستقرة أو شبه مستقرة، ومحاولاتهم الدؤوبة الاندماج في المجتمعات المضيفة.
كان لافتًا للنظر، في الأوراق البحثية المقدمة، أن السوريين في البلدان التي يسود فيها القانون، وتُحترم فيها حريات التنظيم والتعبير، ينظمون أنفسهم ويطرحون قضيتهم حيثما أمكنهم ذلك. ففي الولايات المتحدة الأميركية، حيث كان السوريون الأميركيون من أكثر مجموعات المهاجرين اندماجًا ونجاحًا، بدأ اللاجئون السوريون بعد الثورة الاندماج في المجتمع، والانخراط في مؤسسات ومنظمات هدفت في البداية إلى تقديم الدعم والمساعدة للمحتاجين، لكنها سرعان ما تحولت إلى التعبير عن آراء المنخرطين فيها ومواقفهم السياسية، ولا سيّما تجاه المسألة السورية. ولم يقتصر نشاط بعض تلك المنظمات على تجمعات السوريين في الولايات المتحدة، بل امتد إلى محاولة التأثير على الهيئات التشريعية والتنفيذية في الحكومة الأميركية. كان تأثير المهاجرين الجدد في مجتمعات السوريين في أميركا شديدَ الوضوح.
وفي الدول الأوروبية، حيث لم يكن للشتات السوري صوت مسموع قبل الثورة، يحاول اللاجئون السوريون الاندماج في المجتمعات المضيفة، وإسماع قضيتهم لشعوب تلك البلدان بوسائل عديدة. فهم يبرهنون على جدية في العمل، وينظمون التظاهرات والتجمعات لحشد التضامن مع قضية الشعب السوري، ويشاركون بفاعلية في المنظمات الإغاثية ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من منظمات المجتمع المدني، بل يعملون على إقامة روابط وأطر وممارسات عابرة للدول الأوروبية، بغية توفير أساس لارتباط أوسع بين الجاليات السورية في تلك الدول.
وعلى الرغم من تأثير انتشار حزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي، في بلدان أميركا اللاتينية، ولا سيما في البرازيل والأرجنتين، وبالتالي وجود أكثرية من الموالين للنظام السوري، فإن ديناميات الثورة السورية، وما نقله لاجئو ما بعد الثورة من معلومات ومشاعر، تركت آثارًا ملموسة على توجهات السوريين في تلك البلدان تجاه المسألة السورية. كما عمّق تحولُ الثورة إلى صراع مسلح الانقسامات في التركيبة الطائفية للشتات السوري في أميركا الجنوبية (أكثرية من المسيحيين والعلويين، وأقلية من السنة). لكن عملية إدماج اللاجئين في المجتمعات المضيفة، وبمساعدة الأقارب وأبناء المنطقة من المقيمين القدامى وذريتهم، تجري على قدم وساق.
أما في تركيا، فيتميز وضع اللاجئين السوريين بعدد من الخصائص، أهمها أن نحو 70 بالمئة من الملايين الثلاثة الموجودين في تركيا دخلوا البلاد بصورة غير شرعية، وليس لديهم وثائق رسمية، وأن أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، وأن نحو 280 ألفًا منهم يعيشون في 25 مخيمًا للاجئين، بينما يتوزع الآخرون على المحافظات التركية التي صاروا يشكلون في بعضها نحو ربع السكان الأصليين. وتبعًا لأوضاعهم المعيشية (وجود عمل مستقر، مكان الإقامة، العلاقة مع المنطقة السورية التي هاجروا منها..) ينقسم اللاجئون السوريون بين الراغبين في الاستقرار والاندماج في المجتمع المضيف، وبين الذين ينتظرون العودة إلى مناطقهم (وقد عاد بعضهم بالفعل إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام شمال سورية).
ومن المعروف أن رؤوس أموال سورية كبيرة دخلت تركيا مع حركة اللجوء (قدّرها بعض الباحثين بنحو عشرة مليارات دولار). وقد وظفت هذه الأموال في مشاريع صناعية وتجارية وخدمية في العديد من المدن التركية (أبرزها غازي عنتاب وإسطنبول وبورصة ومرسين). ويمكن الافتراض أن أصحاب هذه المشاريع والعاملين فيها من اللاجئين لا ينوون العودة إلى سورية، في الأفق المنظور على الأقل (تقدر الإحصاءات الرسمية عدد السوريين العاملين في تركيا بشكل نظامي بنحو 650 ألف شخص، بينما تقدر نسبة البطالة بنحو 50 بالمئة). فضلاً عن وجود نسبة كبيرة من الناشطين السياسيين والإعلاميين المعارضين للنظام السوري الذين لا يمكنهم العودة قبل سقوطه مع أجهزته الأمنية.
وفي مصر، بالرغم من صعوبات الدخول إليها، نشط السوريون في إنشاء استثمارات صناعية وتجارية وخدمية صغيرة ومتوسطة، ونجحوا في كسب تعاطف الشعب المصري نظرًا إلى مهنيتهم وجديتهم في العمل. ولأنهم يتمتعون بالمزايا نفسها التي يتمتع بها المواطن المصري تقريبًا (في التعليم والصحة وحرية التنقل والإقامة والعمل)، فإن معظمهم ينزع إلى الاستقرار، ولا يطمح إلى العودة إلى سورية، إلا لعوامل عاطفية ووجدانية.
وعلى الرغم من العراقيل العديدة التي يواجهها السوريون في الأردن، أمام محاولات العمل والاستقرار، فإن أعدادًا كبيرة منهم نجحت في الحصول على فرص عمل وملاذات سكنية خارج المخيمات. ومع ذلك تظل أكثريتهم تتطلع إلى العودة إلى مناطقهم الأصلية، وبخاصة مناطق محافظة درعا والجنوب السوري بوجه عام.
أما اللاجئون السوريون في لبنان، فتنعكس على أوضاعهم العلاقةُ التاريخية المأزومة بين لبنان وسورية، ولا سيما تلك الناجمة عن تصرفات القوات العسكرية والأمنية السورية خلال فترة تواجدها الطويلة في لبنان وردّات أفعال اللبنانيين تجاهها. فضلًا عن انعكاس الانقسام السياسي اللبناني، وانخراط “حزب الله” علنًا في القتال إلى جانب نظام الأسد، على أوضاع اللاجئين السوريين، ولا سيما الفئة الأكثر هشاشة منهم. ومع ذلك، يمنع “حزب الله” عودة اللاجئين إلى المناطق التي سيطر عليها (كالقصير مثلًا)، في سياق سياسة التغيير الديموغرافي التي ينتهجها مع النظام السوري. فإذا أضفنا إلى هؤلاء الذين لا يتمكنون من العودة أو يمنعون منها التجار والصناعيين الذين انتقلوا مع رؤوس أموالهم للعيش في لبنان، وبعض أصحاب المهن العليا، يغدو واضحًا كم ستكون عودة قسم كبير من السوريين في لبنان مستبعدة.
لفت نظري، في الأوراق البحثية التي تضمنت كلها (عددها 12 ورقة) نتائج استبيان موحد، وُزّع على عيّنة من أصحاب الكفاءات السورية في مناطق اللجوء المختلفة، اتفاقُ جميع المستطلعة آراؤهم على الآتي:
لن يعود أحد إلى سورية إلا بعد اطمئنانه إلى تحقق الأمن (بمعنييه: وقف القتال والعنف، والأمن السياسي والقانوني). الجميع يشترط التخلص من الفساد، لكي يقرر المساهمة في إعادة بناء المجتمع. الجميع يطالب بنظام سياسي ديمقراطي تعددي يضمن المواطنة المتساوية. الجميع يفضل اللامركزية الإدارية، ويرفض تركز السلطات في يد السلطة التنفيذية المركزية. وفي هذا السياق يغلب تأييد المجالس المحلية المنتخبة بشرط توفر الحرية والنزاهة.مع تعقد الوضع في سورية، وخروجه من أيدي السوريين، وتعدد الجهات الدولية والإقليمية المتصارعة في سورية وعليها، يبدو أن تحقق مثل هذه الشروط بات بعيد المنال، وصار احتمال تحوّل معظم اللاجئين السوريين إلى شتات أكثر ترجيحًا.
خضر زكريا
المصدر
جيرون