هل أصبح التعليم الديني بديلًا عن تعليم البعث!



(مجموع، انتبه. استعد: “طلائع”. استرح: “بعث”.. رتلًا ترادفْ؛ أسبلْ. قائدنا إلى الأبد … “الأمين حافظ الأسد”).

شعار ردده كل السوريين معًا، في بداية حياتهم التعليمية والتربوية في سورية. فالتغيير الجذري الوحيد الذي حدث في سورية، بعد ثورة البعث، هو انتقال التعليم من أسلوب الكتاتيب المشيخيّة التلقينية، إلى أسلوب التلقين البعثي. ومن قرأ رواية جورج أوريل (مزرعة الحيوان)؛ يعرف أن التلقين لا يكون إلا لمجتمع يُروّض ويُلقن، ليبقى مستعبَدًا.

شكّلت بعض المناطق المحررة من نظام الأسد فرصةً، لتكوين حالة سورية مغرية وتجربة ثورية تقدمية؛ فإذا بنا نُردُّ على أعقابنا حنينًا إلى الأسدية الأولى التي استحكم سمّها في أرواحنا. ويكاد المراقب المحايد يُدهش من شدة التطابق بين حالتنا الجديدة وحالة النظام، وقد تبدّلت الصور والشعارات اللفظية فقط، وبقي العقل هو العقل، والروح هي الروح، والمقاومة هي المقاومة.

بات أطفالنا في مدارس المناطق المحررة يسمعون صوت “الله أكبر”، إيذانًا بتجمع الطلاب في الباحات، بدلًا من سماعهم صوت الجرس. وفقًا لما ورد في حديث العالم السلفي (الألباني): “الجرس مزمار الشيطان”!

وأصبحت الإجابات على (انتبه، استعد، ترادف، استرح) هي (الله، محمّد، الله أكبر)، وأصبح دعاء الرسول (أصبحنا وأصبح الملك لله) بديلًا عن (حماة الديار)، وصار شعار (قائدنا للأبد، سيدنا محمد) بديلًا عن (قائدنا للأبد، الأمين حافظ الأسد).

يُروى أنّ شيخًا سلفيًا دخل على الشيخ المعاصر محمد الغزالي، وقد وجده متلبسًا بالجرم، وهو يهز يديه طربًا على كلمات أم كلثوم، فقال له: شيخ، وتسمع أم كلثوم! فعدل الغزالي جلسته قائلًا: وماذا أصنع لك؛ إذا كان الله قد حرمك متعة الذوق والتمتع بسماع الصوت؟

اسمع، يا أيها الرجل، هلك المتنطعون. لقد قالها النبي ثلاثًا، وهو يعنيكم أنتم الجفاة القساة، وايم الله، لن يُنصر هذا الدين على يد الحمقى!

وقريبًا من ذلك، قال أيضًا الغزالي القديم: من لم يهزه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره؛ فهو فاسد المزاج ليس له علاج.

“هلك المتنطعون” حديث صحيح، وصف به النبي الكريم محمد (ص) تلك الفئة المتدينة التي تتشدد في الدين، وتغالي فيه، وتُحمِّل النصوص ما لا تطيقه، زيادة ونقصانًا. فلم يُرو في مدارس الإسلام، التي سبقت مدارس المناطق المحررة بـ 1400 سنة، أن تكون للتلاميذ شعارات وصور كتلك التي نشاهدها في مدارس المناطق المحررة.

الفصل بين الذكور والإناث في القاعات الدراسية، بدعوى حرمة الاختلاط، لن يُنشئ إلا جيلًا منغلقًا معقدًا. وتحجيب الفتيات، وهنّ في الصفوف الدراسية الأولى وإلباسهنّ الجلباب، لن يجعلهنّ طبيبات المستقبل ومهندسات العصر، بل سيحقق الفهم الموتور للنص القرآني (وقَرْن في بيوتكن ولا تبرجنَ تبرج الجاهلية الأولى).

والتركيز على تحفيظ القرآن وحساب مواقع آياته وأرقامها، بدلًا من حفظ جدول الضرب والحساب، لن يخلق إلا جيلًا من الهُبل والمحاربين. واستبدال حصص الرسم والموسيقا بحصص حفظ الأناشيد الإسلامية، سيخلق جيلًا فاقدًا للحس الجمالي وعديم الذوق الإنساني.

إنّ أسلمة العملية التربوية والتعليمية لن تخلق جيلًا يليق به أن يكون جيل الثورة، جيل الحرية التي صدحت بها حناجر السوريين وموسيقا القاشوش.

قد يكون من الممكن فهم أسلمة الثورة وعسكرتها، أما أن تجري أسلمة العملية التربوية والتعليمية؛ فهذا ما لا يجب السكوت عنه ولا التساهل فيه، لا سيما أن لا أمل في سورية إلا في هذا الجيل الذي يُربّى اليوم. نحن بحاجة إلى جيل يبني المصانع التي أحرقت والصوامع التي تهدّمت والجوامع التي قُصفت والمدن التي دُمّرت هُجر أهلها. جيل يزرع الحقول التي تصحّرت والأشجار التي تفحّمت وسنابل القمح والأقطان التي سُرقت.

يقولون: قامت ألمانيا من الحرب، ولا يدركون أنّ القيام ما كان ليكون لولا التأسيس الصحيح والعميق للأمة الألمانية. لم يعرفوا أيضًا أن معجزة قيام اليابان من الحرب كانت من سماء العقل وليس من عقل السماء.

سنغافورة، جنوب أفريقية، الهند، تركية، تجارب تضرب مسامعنا بسؤال: هل بمدارس القرآن تنهض الأمم؟

حالة “التنطع الديني” التي يعيشها السوريون، في الداخل والخارج، مخيفة جدًا ولا تبشّر بخير، فمُحال أن ينصر الله دين الكسالى على دين العلم والعمل.

هل كان النبي محمّد في حاجة إلى أن يكون بديلًا للتمجيد عن حافظ الأسد؟ أليست هذه المقارنة موحية بفساد ذوقنا المعرفي والأدبي؟

لقد قامت الفلسفة البروتستانتية على الربط بين الإيمان والعمل، بل جعلت العمل هو التجلي الحقيقي للإيمان ولصحة الإيمان، وهنا يصبح الكسل دين الكذابين المخادعين. وهو ما جعل عالمًا كبيرًا كـ (ماكس فيبر) يستعرض أثر البروتستانتية ودورها في نهضة أوروبا، وذلك عندما أصبح النشاط المهني أهم من النشاط الديني.

وبالمعنى نفسه يقول أحد المفكرين الإسلاميين الكبار: المسلم خلف مكنته أو المزارع خلف محراثه، هو في مهرجان عبودية لله.

“هلك المتنطعون“، كما قال الرسول، وربّما هلكت الثورة وخفَّ بريقها، وفقدت جاذبية الشعب نحوها، بسبب هؤلاء الهالكين المهلكين.

.


منصور حسنو


المصدر
جيرون