استراتيجية إعدام الخيارات



عمومًا، إن “إعدامَ الخيارات” أمام الشعوب، هو استراتيجية قديمة، مارسها الحكام والملوك تاريخيًا، بقصد فرض خضوع الشعوب المهزومة من جهة، وتنصّل صاحبها من مسؤوليته عن القتل والتدمير والتهجير، وبالتالي من محاسبته على أفعاله المنحطة والقذرة من جهة أخرى. وهي الاستراتيجية نفسها التي سلكها النظام السوري، ومارسها في إعدام الخيارات أمام الشعب السوري والثورة السورية، للمقاصد نفسها.

وقد ساعد النظامَ في استراتيجيته هذه ما يسمى “القوات الحليفة والقوات الرديفة”، اختياريًا وعن سبق إصرارٍ وترصد، ساعدوه لدرجة أنهم حلّوا محله. كما ساعده أيضًا أعداؤه موضوعيًا من دون أن يخططوا لهذه المساعدة؛ بحيث تأتي نتائج فعلهم وفكرهم، لتصب الماء في طاحونة النظام، على العكس تمامًا من الأهداف الموضوعة، وأحيانًا ساعدوه ذاتيًا؛ أي بالعمالة.

يرى دارسو الاستراتيجيات الحربية وأصحابها أمثال صن تسو وميكافيلي وهوبز وكلاوزيفتز ونابليون وبسمارك ولينين وخالد بن الوليد وصلاح الدين وطارق بن زياد… أن الشرط اللازم وغير الكافي، لاستراتيجية إعدام الخيارات هذه، هو النصر الذاتي والسريع والحاسم؛ فعند النصر الذاتي والسريع والحاسم فقط، يوصي هؤلاء الاستراتيجيون بإعدام كافة الخيارات أمام العدو، والإبقاء على الممر الإجباري الذي يقود إلى الاستسلام والخضوع. ولكن عند غياب صفات الذاتية والسرعة والحسم عن النصر؛ فإن الجميع يعرف أن الحرب ما زالت مستمرة بأشكال مختلفة.

بممارسة هذه الاستراتيجية، يُقامر مُمارسها بأن تنعكس عليه سلبًا أيضًا؛ فمن يُمارس هذه الاستراتيجية تُفرض عليه أيضًا الممرات الإجبارية التي ربما تقود إلى هزيمته وخضوعه بشكل يعاكس أهدافه. ومن المعروف أنك عندما تجبر خصمك على سلوك ممرات إجبارية؛ تنتصر عليه، وهذا ما تقوم عليه لعبة الشطرنج؛ أي إجبار الخصم على نقلات إجبارية تقود إلى هزيمته. ومن هنا يكتسب السؤال عن الممرات الإجبارية للنظام مشروعية لا يستهان بها: ألم تفرض قوة الثورة السورية على النظام السوري ممرات إجبارية؟ وهل كان استخدام النظام للسلاح الكيمياوي ترفًا؟! وهل استخدم السكود والبراميل والطائرات والمدافع… بطرًا؟! وهل ارتهن للروسي والإيراني وللميليشيات… من باب التسلية؟! أم كان مجبرًا على ذلك بقوة الثورة، ووطأة الحفاظ على السلطة، بأي شكل من الأشكال؟

ولكن تبقى المفارقة التي يعيشها الشعب السوري هنا ماثلة أمامنا، وهي:

بالرغم من أن “انتصار” النظام على الشعب السوري ليس انتصارًا ذاتيًا ولا سريعًا ولا حاسمًا، فإن إعدام الخيارات أمام الشعب السوري هو الذي يطفو على السطح، مُخفيًا تحته القسم الأكبر من الممكنات والخيارات المتاحة. فبين القطبين الحديين: خضوع الشعب للنظام وثورة الشعب على النظام، ثمَّة عددٌ لا منتهٍ من الحالات والخيارات والممكنات. وبالرغم من غياب فروق الذاتية والسرعة والحسم من الانتصار المزعوم للنظام، تصبح الخيارات معدومة أمام الشعب السوري، ويصبح الشعب السوري في حالة يأس! فلماذا نتوهم أن النظام انتصر انتصارًا ذاتيًا وسريعًا وحاسمًا، والواقع غير ذلك؟ أو بصيغة أخرى: لماذا نعيش الهزيمة واليأس، طالما أن انتصار النظام غير ذاتي وغير سريع وغير حاسم؟

لا شك أن استراتيجية إعدام الخيارات هذه تقوم على إعدام الأمل عند السوريين، في التحول الديمقراطي أساسًا، وفي فصل العلاقة الحلولية بين سورية والأسد، أو فصل الدولة عن السلطة أو الدولة عن النظام، وفي تداول السلطة. ويقوم هدفها على تعميم شعور العجز واليأس عند السوريين؛ ليحصل النظام من وراء هذا الإعدام للخيارات على إذعان الشعب السوري وإخضاعه.

وهي الاستراتيجية التي تظهر في إعدام الخيارات التي قام بها النظام، خلال الأعوام السبعة المنصرمة مباشرة، وقبل هذه السنوات السبع بشكل غير مباشر، كما تظهر في كافة التكتيكات والتفصيلات والممارسات؛ الحربية والسياسية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية. والدليل على هذه الأطروحة هو أننا نرى فحوى هذه الاستراتيجية في المصالحات والتسويات والمفاوضات، كما نراها في النزوح واللجوء والتهجير، وكذلك بالاعتقال والتصفيات والمحاكمات الميدانية والعسكرية والمدنية، وأيضًا بالقصف بالبراميل والكيمياوي والقتل والتهديم، إضافة إلى المعارك والحروب والاشتباكات. وكذلك في مفاوضات جنيف وأستانا وسوتشي، التي رأى العالم كيف لم يترك النظام شيئًا أو خيارًا للتفاوض عليه. إن النظام يُقوّض أي أمل، لدرجة أنه يحوّل أي بارقة ضوء، قد تلمع في آخر النفق، إلى ضوء قطار يدهس جميع الحالمين الذين يظنونه ضوء الشمس في نهاية النفق. إن إعدامَ الخيارات رسالةٌ واحدة بلغاتٍ متعددة، مفادها أنْ لا خيار آخرَ أمامكم أيها السوريون، وعليكم الخضوع من جديد للنظام الذي ثرتم عليه.

بالنتيجة؛ إن النظام يقدّم نفسه كالمنتصر نصرًا ذاتيًا وسريعًا وحاسمًا، بينما انتصاره في واقع الحال غير ذاتي وغير سريع وغير حاسم. فكيف يوفق النظام بين النصر الخارجي والجزئي والبطيء والمتأرجح والمبعثر، وبين استراتيجية إعدام الخيارات التي تشدد على الذاتية والسرعة والحسم؟ أعتقد أنه يوفق بين هذه المتناقضات، من خلال إيهامنا أنه منتصر أولًا، ومن خلال استمرائنا أن لا خيار أمامنا ثانيًا، ومن خلال غياب استراتيجية اختراع الخيارات عندنا ثالثًا.

والحق يقال، إن الظروف السورية معقدة جدًا، ولكنها مؤقتة وتاريخية وقابلة للتغيير أكثر من كونها قيودًا طبيعية وبيولوجية وأنثروبولوجية حتمية. ولذلك فإن المعرفة تغيّرنا وتحوّلنا، ومنها معرفة حدود “انتصار” النظام وفروقاته. لقد وقعْنا في قبضة هذه الاستراتيجية، وعلينا تعديل قبضتها في ظروف حاسمة، ووفق استراتيجية جديدة.

لا لومَ وشماتة وعتب على من انعدمت الخيارات أمامه أبدًا، ولكن علينا جميعًا التفكيرُ بخلق خيارات جديدة، والعملُ في ضوء عدم انتصار النظام الذاتي والسريع والحاسم. إذن، لا انتصار ذاتيًا ولا سريعًا ولا حاسمًا للنظام، ويجب ألا يؤدي هذا الأمر إلى الخضوع ولا إلى اليأس، بل بالعكس يجب أن يؤدي إلى فتح خيارات جديدة، قد تقلب السحر على الساحر.


شوكت غرز الدين


المصدر
جيرون