الرواية نسق من التفاصيل المتصارعة



في بلادنا من الصعب أن يعيش الكاتب من عمله! أعرف ثراء الحركة الفكرية في سورية، وأكنّ احترامًا كبيرًا للأدب السوري

كان يبحث طوال الوقت عمّا يجعله مخلصًا لأدبه، اتجه إلى عالم الصحافة كي تعينه على كتابة الرواية، عمل أمين مكتبة، كي يبقى قريبًا من سحر الكتب والروايات، وقبل ذلك بزمن، ترك كلية الزراعة دون أن يكمل دراسته فيها، ولم يصبح مهندسًا زراعيًا، كما أرادت أسرته؛ إذ اتجه صوب دراسة الفلسفة في كلية الآداب.. من مؤلفاته: (هاجس موت)، و(الرجل العاري)، و(حياة مستقرة)، و(أيام النوافذ الزرقاء)، و(ناس وأماكن)، وغيرها..

هذه مقدمة لا نريد منها التعريف به، بقدر ما هي تحريض لعين القارئ، كي يغوص معنا في رحلة داخل قلب وعقل الروائي عادل عصمت الذي التقته (شبكة جيرون الإعلامية)، وكان لنا هذا الحوار:

– بداية، دعني أسألك: هل كل أحداث رواياتك من وحي التخيل الفني، أم أن فيها صورًا من واقعك ومواقف من حياتك؟

= عندما يبدأ الكاتب في نسج عمله، فإنه يعتمد على خبرته وعلى مشاهداته وتأملاته في ما يحدث له وحوله، هذا هو المصدر الواقعي للروايات، والكتابة هي عملية تحويل تلك الخبرات إلى عمل فني يعيد فيه بناء تلك الخبرة، في نسيج خيالي مختلف في سياقه وفي حوادثه، عمّا عاشه المرء. الروايات هي خليط من المعايشة والبناء الخيالي والجمالي في الوقت نفسه.

– “لقد حوّل ترابَ حياتنا إلى معدن نفيس”، هكذا تحدثتَ ذات يوم عن أديب نوبل نجيب محفوظ، فهل لك أن تحدثنا عن علاقتك بعالم نجيب محفوظ، وبخاصة أن روايتك (حكايات يوسف تادرس) قد فازت بالجائزة التي تحمل اسمه، وتمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة؟

= لخّصت في كلمتي أثناء استلامي الجائزة علاقتي به. لقد تعلمت الكثير من حياته وطريقته في التفكير، فهو -كما ذكرت- قد حوّل تراب حياتنا إلى معدن نفيس، بمعنى أنه حول الحوادث التي نعيشها يوميًا إلى أعمال فنية. من يرد أن يعرف تاريخ مصر، وهموم أهلها على مدار قرن من الزمان؛ فليقرأ نجيب محفوظ، لقد تعمّق في تأمله لحياة الناس في بلادنا، حتى جعل مشاكل الإنسان الكبرى في كل مكان في العالم، تلمع في جوفها، هذا من ناحية، أما من ناحية حياته ونظامها، فقد أوضح لنا بطريقته الفريدة في الحياة القيمة الهائلة للنظام والمثابرة والإرادة، عرّفنا كيف يمكننا أن نحول حياتنا -ذلك الهلام العصيّ على السيطرة بسبب العشوائية التي نعيشها- إلى نظام يمكن أن يكون مثمرًا.

– مع تنقلك بين وظائف عدة بجوار العمل الادبي؛ أسألك هل يستطيع الكاتب أن يعتاشَ من كتاباته التي يبدعها فقط، أم أنَّ الأدب وحده لا يطعم خبزًا، والكاتب بحاجةٍ إلى عمل مساعد كي يعتاش منه؟

= في بلادنا، من الصعب أن يعيش الكاتب من عمله، حتى نجيب محفوظ نفسه، الذي كانت كتبه توزع بشكل جيد في بداية الستينيات، دفعه ذلك إلى أن يستقيل من وظيفته لكي يتفرغ للكتابة، إلا أنه أدرك بعد قليل أن ذلك صعب، فقد جاءت مصادرة رواية (أولاد حارتنا)، لكي يعيد حساباته ويعود إلى الوظيفة مرة أخرى، قائلًا: إن الكاتب في بلادنا لكي يكون حرًا وينتج ما يريد من أدب، عليه أن يبحث عن عمل إلى جانب فنّه، فلا يمكن أن يعتمد الكاتب على إبداعه فحسب. قد يكتب رواية تُصَادر؛ فيجوع هو وأسرته، ولا توجد سوق رائجة للكتب تكفي لكي تكون مصدر عيشي، وفي الوقت نفسه ليس هناك مناخ للحرية، كي تكون آمنًا في ما تكتب، فقد لا يعجب بعض الناس عبارات في كتابك، فتسجن عامًا أو اثنين، بسبب كلام يقوله الناس على المقاهي بطريقة عادية.

– استأجر الكاتب خيري شلبي مدفنًا يبتعد فيه عن الناس كي يتفرغ لإبداعه، أما سارتر فقد أبدع كتابه (الوجود والعدم) في مقهى باريسي، ماذا عن طقوس إبداع عادل عصمت؟

= تنظيم الوقت مهمّ جدًا، بخاصة لمن يفكر في كتابة الروايات. الرواية تحتاج إلى عمل طويل يستمر شهورًا طويلة وربما أعوامًا؛ لذا فمن المهم للكاتب أن يواظب يوميًا على العمل. وقد تعلمت من فترة مبكرة أن أقوم في الصباح الباكر لكي أعمل ساعة قبل النزول إلى عملي، أكتب تخطيطًا للمشهد أو الحدث الذي أعمل عليه، ثم أنزل إلى العمل، وفي المساء أعمل ساعة أخرى. لا بد أن يكون هناك نص أعمل عليه، هذا يؤمن عملي اليومي.

– أنت مسكون بالتفاصيل في كتاباتك، هل هذا صحيح؟

= أتذكر حديث نجيب محفوظ عن أن الرواية تيّار من التفاصيل، وكلما كانت التفاصيل أكثر دقة، كانت الرواية أكثر اقترابًا من الحقيقة. التفاصيل هي التي تبني المَشَاهد وتترك أثرًا بأن ما نقرأ حقيقي مثل الحياة، يمكنك أن تقول إن الرواية هي نسق من التفاصيل المتصارعة.

– قلتَ ذات مرة إن الكتابة من أجل الجوائز كانت من أهم الأسباب التي خربت الأدب. لكن ألا ترى أن للجوائز جوانب إيجابية لا يمكن إنكارها، سواء على الأدب أو الأديب؟

= طبعًا؛ فالجوائز لها أثر طيب، لأنها تحمس الشباب على أن يخوضوا مغامرة الكتابة، وتمنح فرصة للكتاب المجتهدين أن يحصلوا على عائد مادي، يساعدهم على إنتاج أعمالهم، لكن كلامي كان يتركز حول السلطة التي تقيمها الجوائز، وكيف تدفع بعض الكتاب أن يكتبوا قصصهم على مقاس الجوائز، هذا مدمر للمواهب، ويجعل الكاتب يقلد النماذج الفائزة التي تأخذ سطوة في الوسط الثقافي، وبهذه الطريقة تعمل سطوة الجوائز على مسخ الكاتب وتحرمه من إبداع فن أصيل، بل يكتب كتابة منسوخة، فيتحول الكاتب –عندئذ- إلى مستهلك لذلك النمط من الروايات، وليس منتجًا لأفضل ما يمكنه من تجارب فنية.

– يرى مكسيم غوركي أن “الرجل الحيّ هو الذي يبحث دائمًا عن شيء”، فما الذي يبحث عنه عادل عصمت، بين طيات الكتب وعبر أنفاس الحرف؟

= أريد أن أتعلم وأعرف، تدفعني إلى الكتب -كتابة وقراءة- رغبة في الفهم، محاولة لكي أجيب عن أسئلتي. ألا ترى أننا في لغز كبير على المستوى الفردي والاجتماعي والإنساني؟

– ختامًا؛ ما مدى اقترابك من الأدب السوري؟

= أكنّ احترامًا كبيرًا للأدب السوري، وقد نشأت وتربيت على المجلات والكتب التي صدرت في دمشق في السبعينيات والثمانينيات. أعرف المدى الكبير لثراء الحركة الفكرية في سورية، أعرف وأتابع أسماء بعينها مثل السوريين في الداخل ومن الكتاب المغتربين خارجها.


أحمد مصطفى الغـر


المصدر
جيرون