أستانا 9: ملفات برسم الحسم



ينعقد اجتماع (أستانا 9)، في ظل تطورات جديدة مغايرة عن الاجتماعات السابقة؛ فهذا الاجتماع يأتي بُعيد تقلص مناطق خفض التوتر إلى منطقة واحدة، بعد خروج الغوطة الشرقية من المعادلة وخروج ريف حمص الشمالي، فضلًا عن منطقة الجنوب السوري التي تخضع اسميًا لأستانا، وفعليًا للتفاهمات الروسية – الأميركية.

كما يأتي الاجتماع بُعيد نشر القوات التركية عشر نقاط مراقبة، في محافظات إدلب وحلب وحماة: (قرية، سلوى، قرية تكلا، جبل عقيل، تلة العيس، قرية تل طوقان، قرية سرمان، عندان، منطقة الزيتونة، مورك، الراشدين الغربية).

أهمية هذه التطورات أنها قلصت مساحة التفاوض والاختلاف بين الثلاثي الراعي للاجتماع؛ ففعليًا لم يبق سوى ملف إدلب وملف المعتقلين والمفقودين الشائك.

بالنسبة إلى الملف الأول، يُشكّل تثبيت تركيا للنقاط العشر خطوة متقدمة، لجهة تعزيز وتثبيت خطوط الاشتباك في إدلب، بعدما كانت الخارطة العسكرية شبه غامضة عقب هجوم النظام على ريف المحافظة الشرقي قبل أشهر، والتصريحات الإيرانية المتكررة حول إطلاق معركة إدلب.

إن تثبيت خطوط الاشتباك من شأنه أن يضع فاصلًا عسكريًا بين قوات المعارضة وقوات النظام، وهذا مطلب تركي – روسي في المقام الأول؛ لاستبعاد إدلب عن المعارك وجعل مصيرها خاضعًا لتفاهمات أستانا فقط، في ظل استجابة روسية للمطلب التركي باحتواء فصائل المعارضة وتحويل مناطق إدلب وريف حلب الغربي و(درع الفرات)، إلى إدارة مدنية تشرف على كافة نواحي الحياة باستثناء الناحية العسكرية.

أما ملف المعتقلين، فهو الملف الشائك الذي يشكل اختبارًا حقيقيًا للقدرة الروسية على إيجاد صيغ لحله، في ضوء رغبة النظام بجعل هذا الملف خارج أستانا ومتروكًا للتفاهمات الدولية، لأنه ورقة تفاوضية مهمة في مرحلة الاستحقاق السياسي.

يبدو أن الروس أدركوا أن النظام السوري سيتلاعب في هذا الملف، ويحاول تمييعه، خصوصًا أنه غامض وفضفاض من جهة معرفة أعداد المعتقلين وهوياتهم والمفقودين، على عكس قضية وقف إطلاق النار، حيث الجغرافيا واضحة، وفرقاء الصراع معروفون، وحدود التماس محدّدة إلى حد بعيد.

على الرغم من عدم حصول تقدم في مجموعة العمل التي أنشأت الاجتماع السابق للإشراف على ملف المعتقلين والمفقودين، فإن الأمانة تقتضي الاعتراف بأن المعارضة استطاعت، بدعم تركي وبدعم من الأمم المتحدة، انتزاع اعتراف روسي به.

حاول الروس والإيرانيون بداية الأمر إخضاع الملف للقوانين الدولية لأسرى الحرب، أي نسف مفهوم المعتقلين والمفقودين والإخفاء القسري لصالح مفهوم أسرى الحرب من كلا الطرفين، وهذا يعني أولًا مساواة الضحية بالجلاد، ويعني ثانيًا نسيان عشرات وربما مئات آلاف المعتقلين والمفقودين.

لكن المعارضة نجحت، بضغط تركي وأممي، في انتزاع اعتراف روسي بوجود معتقلين ومفقودين، وبالتالي أحيل الأمر إلى مجموعة عملٍ مهمتها التنسيق بين الدول الراعية لأستانا والمنظمات المعنية بهذا الشأن كمنظمة الصليب الأحمر الدولية ومنظمة الهلال الأحمر السورية.

ويُشكّل هذا الاعتراف التطور السياسي الثاني، بُعيد القرارات الدولية المعنية بالأزمة السورية والتي تقدم سندًا قانونيًا لهذه المسألة، فقد دعا البند التاسع من قرار مجلس الأمن 2268 الصادر في شباط/ فبراير 2016، “جميع الدول إلى أن تستخدم نفوذها لدى الحكومة السورية والمعارضة السورية، من أجل تعزيز عملية السلام وتدابير بناء الثقة، ومن ضمن ذلك الإفراج المبكر عن المحتجزين تعسفًا، ولا سيما النساء والأطفال”.

كما دعا البند الثاني عشر من القرار 2254 “جميع أطراف الأزمة السورية، وفي مقدمتهم النظام، إلى الإفراج عن أي محتجزين تعسفيًا، لا سيّما النساء والأطفال”، ودعا القرار أيضًا الفريقَ الدولي لدعم سورية إلى استخدام نفوذه على الفور تحقيقًا لهذه الغايات.

مع ذلك، سيعمل النظام جاهدًا لتأخير هذا الملف والهروب منه، لأنه أكثر الملفات إدانة له، ومن خلال المعتقلين يمكن توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا ما يفسر مطالب وفد النظام، قبيل اجتماع (أستانا 7) بضرورة الاتفاق على عدم رفع دعاوى قانونية في المحاكم الدولية من المعتقلين الذين سُيفرج عنهم.

يخشى في هذا الصدد أن تقوم موسكو بطرح مسائل جانبية في اجتماع (أستانا 9)، للهروب أو على الأقل للتشويش على ملف المعتقلين، مثل ما يطرح عن تفاهم روسي تركي لفتح طريقي حلب – غازي عنتاب وحلب – دمشق.

لا شك أن في فتح أوتوستراد حلب – دمشق فائدةً للمواطنين، سواء في مناطق المعارضة أم في مناطق النظام، فهو أهم شريان تجاري، ويُعوّل عليه في تنشيط الحركة الاقتصادية، بتقليل تكاليف نقل البضائع وتسريع ووصولها، وتسهيل تنقل المسافرين، وربط شمال البلاد بالجنوب، لكن من الناحية السياسية سيستفيد منه النظام بالدرجة الأولى.

تشير هذه المعطيات، إضافة إلى إمكانية فتح معابر تجارية بين مناطق المعارضة والنظام، إلى حالة من الستاتيكو العسكري في الشمال الغربي من البلاد، يستفيد منها الروس والإيرانيون والنظام للتركيز على مواجهة الوجود الأميركي، في حين تستفيد منه تركيا لترتيب حضورها الداخلي في سورية، والعمل ببطء على حل ملف “هيئة تحرير الشام”.


حسين عبد العزيز


المصدر
جيرون