سبعينية النكبة.. ذروة الفاجعة



كثيرة هي الكتابات التي ستتناول سبعينية النكبة الفلسطينية، سواء أكان من جهة ممارسات العصابات الصهيونية أم من جهة التخاذل العربي والدولي، وستبدأ من الحديث عن “صفقة القرن” المزمع ترتيب أوراقها، إلى قضايا الاستيطان، ونقل السفارة الأميركية للقدس، وصولًا إلى خطوط التطبيع السري والعلني مع دولة الاحتلال. يبقى أمرٌ لا بدّ من الانتباه إليه، في غمرة استذكار سبعينية النكبة الفلسطينية، وهو المرور على مآس لا تقلّ فجاعة عن نكبة الأمس البعيدة، التي تتوالد كل لحظة من نسل المنكوبين واللاجئين الأوائل الموزعين في شتات الأرض.

كان يُرمز إلى وجود اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لجوئهم بأنهم عناوين بارزة لنكبةٍ مستمرة وحقٍ لن يضيع، نكبةٍ عايش أجيالها فصول نقل روايات وشهادات النكبة الأولى، إلى معايشة نكبةٍ سمعنا عنها في كتب التاريخ المعاصر، روى أهلها شهادات عنها ومنها، وظلّ سؤالها يؤرق العقل: كيف أُنجزت ونفذت النكبة؟ وكيف استطاع الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية تمرير الفاجعة؟

مثلما يُمرر اليوم طاغية جبان جرائمَه المتعددة والمتشعبة، في نكبة شعب آخر، يمكن استعادة فصل النكبة الأولى، والإجابة عن أسئلة التآمر والوظيفة التي كثفت معاني النكبة.

لا شك، أن الإجابات التي أتى عليها مؤرخون عرب وغيرهم، لتدوين النكبة من أفواه أصحابها ومن سلوك أبنائها، وثورية السبل والنضال الذي أسمع العالم قضية الشعب الفلسطيني، كانت كثيرة، لكن هناك اليوم فاجعة تحوم حول نكبة الفلسطينيين، ليس لأنها بلغت عقدها السابع محاطة بمخاطر هي بالأصل موجودة، منذ ما قبل الخامس عشر من أيار/ مايو 48، بل لأن المنكوبين أنفسهم في مخيمات سورية، نالهم شيء مختلف من النكبة، حقق ذروة الفاجعة بالنسبة إلى قضية فلسطين؛ حيث يتعرّض أشقاؤهم السوريون لأبشع عمليات القتل والتهجير والتطهير العرقي. مع أن كثيرين يرددون كلمة النكبة دون تدقيق للمعنى، والمعنى هنا يكمن في كل تفصيل الجرائم التي ارتُكبت في سورية، وهي توجز النكبة، مصطلحًا وقرائن، وتترك أثرًا عميقًا في مجمل القضية الفلسطينية.

هل نريد أن نعرف ما هي النكبة؟ يكفي أن يغمض المرء عينيه ويتخيل ما أحدثته عصابات الهاجانا وتسيحي والبلماخ وشتيرن والأرغون، قبل سبعين سنة، وأن ينظر مليًا إلى جرائم الفرق المذهبية والطائفية لنظام الأسد، وإلى طائراته ودباباته وبراميله المتطورة في الوحشية، وإلى جيشٍ تحوّل إلى فرق وعصابات، يغيرون جميعًا على السوريين، يمكن -عندئذٍ- التعرف إلى نكبة الأمس، إذا ما رُبطت فصولها وأحداثها مع نكبة السوريين في السنوات الماضية.

النكبة هي في جموع ملايين اللاجئين، داخل وطنهم وفي دول الجوار، وفي ملايين الضحايا، وعشرات آلاف المذبوحين على أيدي جلاد السوريين، النكبة في سحق المنكوبين بعد سبعين عامًا، وحرق جثثهم، وإزالة مخيماتهم وذاكرتهم، والفتك بكل ما بناه اللاجئ.

لننظر مليًا في الأمر، هل ما يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون في سورية أقلّ وحشية من نكبة الأمس واليوم؟ بالطبع، لا. أمام تصاعد حالة وحدة الجريمة لضرب المنكوبين مجددًا، للمساهمة في طمس قضيتهم بجريمة أكبر وأعلى شأنًا، تعطي العقل الصهيوني ذرائع مواصلة الجريمة؛ تبقى ذروة الفاجعة أن جزءًا من المنكوبين الضحايا تحولوا إلى مساندين لفاشي، يُحدث نكبات وفواجع بحق أبناء جلدتهم، هنا ثمة حالة تسترعي الانتباه: هل ما جرى في دير ياسين قبل سبعة عقود -مثلًا- يختلف عمّا وقع بالأمس فقط، عند حاجز العروبة في مخيم اليرموك من مجزرةٍ راح ضحيتها عشرات من اللاجئين الذين قتلتهم قوات النظام السوري، في أثناء محاولتهم الخروج من المخيم، وبعيدًا عن بروباغندا النكبة كشعارات مستخدمة من أطراف عدة، ترتبط “وجدانيًا” مع سلوك النظام السوري، إذا استمرت حالة بعض المنكوبين من الحركة “الوطنية الفلسطينية”، في بث أيديولوجيا النكبة وإنكار الدم والاستخفاف بأبناء شعبها وبأرواح أشقائهم من السوريين أو غيرهم؛ فستبقى فاجعتنا بالنكبة ليست سبعينية بل مئوية، لن تفيد معها كل البكائيات واللطميات التي تخفي نكبة الأشقاء وتتبرأ منها.

طالما راهنت الحركة الصهيونية على كسب العقول والقلوب في الشرق والغرب، لتمرير النكبة وصفقاتها، وإن الطاغية في دمشق وسلوكه أحد تلك الرهانات، ضمن إيقاع مضبوط السلوك، وهو يكفي لإغناء الذاكرة الفلسطينية والعربية والإنسانية لتفسير النكبة وفهمها في ذروتها السبعينية اليوم، ودليل مرحلة سابقة ولاحقة وآتية، ارتسمت ملامحها في الأفق المنظور.

النكبة لن تنتهي فصولها السبع، دون التخلص من طغاة ومستبدين يحمون النكبة، ويقومون على رعايتها لتُعمر طويلًا، دون ذلك؛ ستبقى ذروة الفجائع قائمة بين ظهرانينا.


نزار السهلي


المصدر
جيرون