كيف أصبح رفيق الشامي قصاصًا؟



كان أحد أوجه الاحتفال، بمناسبة “يوم أوروبا” هذا العام، احتفاء البلغار بالنصوص الأجنبية المترجمة إلى لغتهم، عبر تنظيم فعالية ضخمة بعنوان (ليلة الأدب)، شملت سلسلة من القراءات الأدبية لمقاطع مختارة من أعمال أربعة عشر كاتبًا أوروبيًا، قامت بها مجموعة كبيرة من الشخصيات الثقافية المعروفة، في أمكنة مختلفة من العاصمة صوفيا، وثلاث عشرة مدينة بلغارية أخرى، في توقيت واحد امتد ما بين السادسة والعاشرة ليلًا.

كانت واحدة من المفاجآت السارة، وأنا أتصفح نشرة (ليلة الأدب)، أنّ بيت “منظمات المجتمع المدني” في صوفيا، برعاية (معهد غوته) يستضيف الفنان البلغاري الشاب ديميتر نيكولوف، ليقرأ مقاطع من رواية رفيق شامي (السيدة التي باعت زوجها في سوق البراغيث أو كيف أصبحت قصاصًا)، وهي الرواية التي نقلتها المترجمة داريا خرالانوفا إلى اللغة البلغارية، وصدرت عن دار أكفاريوس عام 2016.

المفارقة السارة، والمحزنة في الآن ذاته، لم تبرح ذهني، وأنا اتجه نحو قاعة القراءة للإصغاء إلى الترجمة البلغارية لإحدى روايات أديب سوري الأصل، ألماني الجنسية، يعيش منذ قرابة خمسة عقود في قرية بولاية راينلاند بالاتينات، وتعيش دمشق في قلبه وذاكرته وعلى أوراقه، يقرؤه الأوروبيون ويعجبون بنتاجه ويكرمونه، وبالكاد يعرفه القراء العرب، ويتجاهل ذكرَ اسمه الإعلام السوري الرسمي، لا لشيء سوى أنه ليس من أولئك الكتاب الذين يعتبرون أن الدكتاتورية وطنهم، وكل من يعاديها خائن، كما أدلى هو بنفسه في أحد الحوارات الصحفية معه، وكأنه يعبّر عن لسان حال آلاف المثقفين السوريين من المغيبين والمنفيين قسرًا أو طوعًا.

هاجر الشامي في بداية سبعينيات القرن العشرين إلى ألمانيا، وزاول مهنًا كثيرة لتغطية نفقات دراسته الجامعية، إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء، وعُين في كبرى الشركات الألمانية، غير أنه قرر أن يستقيل من عمله ويتفرغ للأدب. بدأ الكتابة بلغته الأم، ثم راح يكتب باللغة الألمانية منذ عام 1982، وعُرف بنتاجه الغزير، وتُرجمت مؤلفاته إلى 28 لغة، كما نال نحو 33 جائزة، بينها جائزة هيرمان هيسِّه عن روايته (الكاذب الصادق) عام 1994، وجائزة هانز إريش نوسَّاك عن مجمل أعماله عام 1997، وجائزة جورج جلازِر الأدبية عام 2011. أما روايته (الوجه المظلم للحب) الصادرة عام 2004، فقد تصدرت قائمة المبيعات في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا طوال ستة أشهر.

رواية (السيدة التي باعت زوجها في سوق البراغيث)، الصادرة بالألمانية عن دار كارل هانسير عام 2011، خصصها رفيق شامي للحديث عن سيرته الشخصية ما بين سورية وألمانيا، وعن رؤاه حول فعل الكتابة، ومجمل العوامل التي صاغت لغته ومخياله الأدبي، وتتكون الرواية من اثني عشر فصلًا، اختار منها الفنان ديميتر فصل البداية لأمسية القراءة الأدبية، فصل يبدأ بالسؤال: كيف أصبحت قصاصًا؟ وتنقلنا إجابة الشامي إلى بيئته الأم وظروف نشأته، فهو مسيحي الديانة، اسمه الحقيقي سهيل فاضل، وُلد في معلولا عام 1946، وعاش طفولته وشبابه الأول في دمشق القديمة، ووالده كان خبازًا.

يستمع الحفيد إلى حكايات جده ومعاركه مع الجان، ويرافقه إلى أسواق المدينة ومنتزهاتها، وتفتح ذاكرة الطفولة المشهد على دمشق القديمة بتفاصيلها الساحرة، وأسرارها الخفية، بناسها وبيوتها ومعابدها، تقاليدها وأعرافها، وإرثها الثقافي الشفهي من الأساطير والخرافات الشعبية والأقوال المأثورة. رحلة مثيرة للدهشة نقطعها مع الكاتب، على متن لغته السردية الرشيقة التي لا تخلو من المفارقات الساخرة والتأملات الفلسفية وبعض الومضات الشعرية، وكنتُ أصغي بشغف إلى حكاية الشامي، وأتجرع الشوق الذي يذيب قلوب ملايين المهجرين من سورية.

بعد انتهاء القراءة الأدبية، حييتُ الفنان نيكولوف، وسألته عن إحساسه بالراوية؟ أجابني أنه حين قرأها تمتع بكل تفصيل ورد في ثناياها. ثمّ توجهتُ إلى مدير (معهد غوته) السيد إينزيو ويتزل، وسألته عن سر الاهتمام برواية الشامي في يوم أوروبا، فقال: رفيق شامي أديب مبدع، وقصاص ممتع، يحمل الجنسية الألمانية، ويكتب باللغة الألمانية. كما ذكر لي أنه يفكر بدعوته إلى صوفيا خلال الأشهر القادمة، إن سمحت ظروف المعهد بذلك، فقد سبق له أن زار سورية قبل نحو عشرين عامًا، وتجول في أحياء دمشق، واستمع إلى الحكواتي في مقهى “النوفرة”، ولمس عن قرب ما يصفه الشامي في كتاباته.

خرجتُ من قاعة القراءة، وأنا أسأل نفسي: هل سألتقي قريبًا برفيق شامي في صوفيا؟ ربما، لا أملك الإجابة، ما أعرفه أن الشامي يتابع عيشه ونشاطه الإبداعي في بلدٍ منحه الأمان وحرية التعبير، وأنه أطلق مشروع (سلسلة السنونو) لدعم الكتاب العرب، وجمعية (شمس) لحماية أطفال سورية بالتزامن مع ولادة “الربيع العربي”، وهو لا يزال يحلم بالعودة إلى وطنه، وقد انتصر على نظام الدكتاتورية الحاكمة. وحين سُئل في حوار له مع (المدن): ماذا يستطيع الكاتب السوري أن يقدم لثورة الحرية؟ أجاب: يمكن للكاتب والمثقف عامة أن يقدم الكثير، وأول ذلك أن يقف من دون “إن” و”لعل” و”سوف” إلى جانب شعبه، يرافقه، ويفرح بفرحه، ويتألم لألمه، وألا يخشى الأخطاء، وينفر من الظواهر السلبية في الثورة، فكل ثورة تطلق العنان، ليس فقط لطاقات الشعب الخيّرة، بل عنان المجرمين الذين انتظروا هذه الفسحة لينهبوا وليعيثوا الفساد. الديكتاتورية تنظف الشارع من هذه المظاهر، وتحتكر وحدها الوحشية البربرية، وتخفيها خلف الجدران وفي أقبية النظام ومعسكراته وصحفه الصفراء، بمساعدة جيش جرار ممن أسميهم مرتزقة الكلمة.

المصادر

http://www.goethe.de/ins/eg/prj/uak/mag/aut/ar14471862.htm

https://www.almodon.com/culture/2014/8/17/


تهامة الجندي


المصدر
جيرون