عن التخوين وإسرائيل وإيران



أثار الاعتداء الإسرائيلي المتكرر على الأراضي السورية، والرد الإيراني (المعتدي بدوره على الأراضي السورية والسوريين)، ثمّ الردّ الإسرائيلي عليه، سجالًا واسعًا بين السوريين، بين مؤيد ومعارض، بين مخوّن لمن يقبل بهذا الاعتداء، ومخوّن مضاد لمن لا يقبل بهذا الاعتداء؛ لأنه يحصل بين عدوين للشعب السوري!

والحال أن هذا السجال ليس وليد الضربات الأخيرة، بل هو يتكرر مع كل اعتداء إيراني أو إسرائيلي، ولكن الملفت هنا هو ثبات “التخوين” بين السوريين حول الأمر إياه، دون أن يرتقي نقاش السوريين قيد أنملة، وكأن “العقل السوري” (إن صح التعبير) راقد في لا وعيه، يجتر نفسه وهزائمه.

الملفت هنا أيضًا، أن جميع المتساجلين يعلنون أنهم يريدون النظام الديمقراطي نظامًا بديلًا لنظامهم الدكتاتوري من جهة، ويتبنون الديمقراطية كقيمة عليا في سجالهم اليومي من جهة ثانية؛ الأمر الذي يضعنا في مواجهة سؤال: كيف تتوافق الديمقراطية مع التخوين؟ وما هي المعايير الفاصلة حقًا بين الخيانة وحق إبداء الرأي؟ ومن يضع تلك المعايير؟ من يحددها؟ وهل باسم الديمقراطية يمكن أن نقبل بالخيانة؟

تقوم الديمقراطية في جوهرها على قبول المختلف في الرأي أيًا كان، إذ يكفل النظام الديمقراطي لأي فرد أن يعبّر عن رأيه ويكفل الدستور والقانون حماية هذا الفرد، إن تعرّض لأي اعتداء بسبب رأيه هذا. ومقابل ذلك، يكفل الدستور والقانون حقّ كل من يتسبب له هذا الرأي بأذى أو ضرر، سواء معنويًا أو ماديًا، يتم تحديده من قبل القضاء الذي يكون موكلًا بحماية الدستور والقانون اللذين يتمّ وضعهما بعد توافق وطني أو حكومة تأتي بمعايير ديمقراطية متفق عليها، بحيث يعترف الجميع بنزاهتها وقبولهم الاحتكام لهذه النتائج، لأنه من دون هذا القبول، تفقد اللعبة السياسية والديمقراطية جوهرها، وهذا يتم أغلب الأحيان في ظل انتقال ديمقراطي متفق عليه.

لا شك أن الحال السابق يبدو حلمًا بالنسبة إلى السوريين، فنحن إزاء سلطة فقدت كل شرعيتها، وبالتالي فإن المعايير أو العقد الاجتماعي الذي كان يجمع بين السوريين والسلطة بات فاقدًا للشرعية وغير معترف به، بما يعني ذلك أن كل ما يصدر عنه من ضوابط ونواهٍ ومعايير لم تعد محل إجماع، بما في ذلك العدو الذي عادة ما يتم التوّحد الوطني حوله معاداته، وهو ما كان (العدو) “إسرائيل” قبل اندلاع الثورة السورية، فهل بات هذا العدو اليوم موضع شكّ لدى السوريين اليوم؟ وهل باتت إيران عدوًا بديلًا أم بات لدينا أعداء كثر، منهم إيران و”إسرائيل” بطبيعة الحال؟

من حيث المبدأ، لا شك أن أغلب السوريين ما زالوا ينظرون إلى “إسرائيل” باعتبارها عدوًا، وهي فعلًا كذلك، لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بطبيعة هذه الدولة أولًا، باعتبار أنها دولة عنصرية تقوم وقامت على الإبادة والقتل والتهجير، وهي في ذلك تتشابه مع النظام القاتل الذي بات التهجير عنوانًا له، وتتشابه من حيث الاستبداد والبنية الدينية للدولة مع إيران التي بات التغيير الديموغرافي والقتل على الهوية الدينية عنوانًا بارزًا لها أيضًا، ما يعني هنا أن أي معاد لـ “إسرائيل” يجب أن يكون معاديًا للنظام وإيران، كي تتسق منظومته الفكرية والسياسية مع نفسها، كي لا نقول الأخلاقية. ومن جهة أخرى، على المستوى السياسي، فإن “إسرائيل” عدو لأنها تحتل أرضًا سورية، وهذا باعتراف الأمم المتحدة التي تطالب قراراتها “إسرائيل” بهذا الانسحاب، وهي أيضًا ترفض إعادة الأراضي الفلسطيينة المحتلة، وتمنع عودة الفلسطينيين المهجرين (كما تعمل كل من إيران وتركيا (مع الأكراد) والنظام السوري مع السوريين)، ما يعني أيضًا أن الواجب الأخلاقي والثوري (باعتبار أننا أصحاب ثورة) أن نقف إلى جانب كل مظلوم من قوة غاشمة، سواء أكانت سلطة مستبدة أم احتلالًا.

لا شك أيضًا، أن كلًا من إيران وتركيا وروسيا وأميركا وأي دولة تتواجد قواتها على الأراضي السورية، تمثل اليوم عدوًا للسوريين، إذ لم تأت أي دولة بإجماع وطني متفق عليه، بل كل منها جاءت لتحقيق مصالحها، وبقبول ضمني من جزء من طائفة أو جزء من قومية ما، أو من قبل سلطة أمر واقع أو حزب. وهنا لا يصح القول أبدًا، بأن القوات الإيرانية والروسية والميليشيات التابعة لهما (حزب الله…) شرعية، لأنها جاءت بدعوة من النظام الحاكم الذي يمثل الدولة السورية، لأن هذا النظام فاقد للشرعية، باعتبار أنّ العقد الاجتماعي (الذي يمثل جوهر الدولة، وتغدو غير موجودة باختفائه) الذي يجمعه مع السوريين قد تبخر، مذ أطلق أول رصاصة ضد السوريين، وبالتالي فإن الاختباء خلف مفردات الدولة والشرعية غير مجدية وزائفة هنا، لأن الدولة هي دولة المواطنين لا دولة النظام، وهي الدولة التي تحمي مواطنيها لا تقتلهم، أي أننا خرجنا من نطاق الدولة إلى نطاق الميليشيا والعصابة الحاكمة.

ثمة سؤال يطرح هنا: إذا كان الأمر كذلك؛ فعلامَ يختلف السوريون إذن؟ ولمَ يخوّن بعضهم بعضًا؟ وأين تكمن الخيانة، إن كان ثمّة خيانة؟

لا يمكن فهم هذا التخوين والتخوين المضاد، دون فهم اللحظة التي يتم فيها والتعقيدات التي يجري في ظلها، فنحن إزاء نظام مستبد مارس أبشع أنواع القتل والإرهاب، شرّد السوريين وهجرهم وهدم بيوتهم، بمساعدة النظام الإيراني الذي أدخل ميليشيات طائفية وقوات إيرانية مارست أبشع الممارسات الطائفية وقتلت وهجرت السوريين، وما تزال تعربد في الأراضي السورية. وهنا في هذه اللحظة التي يُهجّر فيها السوريون (الآن وهنا) من بلادهم ووطنهم ومناطقهم نحو المجهول؛ تأتي “إسرائيل” وتقصف النظام وإيران.

لا شك أنه في لحظة كهذه، ستكون ردة فعل المهجرين والمظلومين والمتعبين فرحًا وترحيبًا بضرب “إسرائيل” لإيران والنظام السوري، لأنه يشعرهم بالانتقام ممن أذلهم وضربهم وهجرهم ولا يزال.

من جهة أخرى، هل هذا الشعور من هؤلاء هو صحيح، سياسيًا أو وطنيًا؟ بالتأكيد ليس صحيحًا، لكنه مبرر ومفهوم، إذ ليس مطلوبًا من هؤلاء في لحظة كهذه أن يكونوا أنبياء أو آلهة، فهم بشر في نهاية المطاف، وفرحهم هذا لا يعني قبولهم بأن “إسرائيل” لم تعد عدوًا للسوريين، بل هم فرحون على مبدأ “اضرب الظالمين بالظالمين”، دون أن يكون هذا المبدأ صحيح هنا، سياسيًا أو إجرائيًا أو حتى أخلاقيًا، ولكن ليس مطلوبًا منهم في لحظة كهذه أن يكونوا أنبياء، ما يعني قطعًا أن هؤلاء ليسوا “خونة”، وليس بالمقابل من يدين القصف الإسرائيلي هو خائن أيضًا، إذ يتهم البعض ممن لا يقف مع هذا العدوان بأنه يقف جانب النظام وإيران!

ولكن هنا في هذه اللحظة، يبرز دور النخبة وأهمية دورها، إذ لا يجوز للنخبة أبدًا أن تنزلق مع الجمهور المقهور وتتماهى به، بل دورها يكمن في تفهم ردة الفعل هذه، والعمل على ردعه وإظهار خطئه، إذ لا يجوز أي تخوين أو تخوين مضاد هنا، ولن يجدي أساسًا لأنه يزيد الطين بلة، يزيد الفرقة بين السوريين، ويضع سدودًا أمام الحوار الذي ينبغي أن يبقى مفتوحًا، في ما يخص مسائل حساسة وجوهرية كتلك، بعيدًا عن سيف التخوين، إذ يحق للجميع حرية القول وإبداء الرأي والمشاعر أيضًا، حتى لو تعلّق الأمر بـ “إسرائيل”، وهذا ما يوصلنا إلى الديمقراطية مرة أخرى، إذ يظهر من السجالات السورية أن كل فئة تفهم الديمقراطية وفق وعيها، وتريد أن تقسرها ضمن إطار فهمها هي للديمقراطية. ولعل إطلالة سريعة على مفهوم العدو توضح لنا ذلك، إذ لا شك أن الكرد يعتبرون تركيا عدوًا لهم، فيما يعتبر الشيعي الملتزم دينيًا كلا من الرياض وأنقرة أعداء، فيما يعتبر السني السلفي إيران عدوًا لا يجوز إقامة أي علاقة معه، فيما يعتبر اليساريون والقوميون أن “إسرائيل” هي العدو الأوحد، ولا يجوز قبول أي عدو آخر معه، وكل من هؤلاء يخوّن من لا يعتبر عدوه هو “العدو الأوحد”!

هذا في ما يخص قضية واحدة، فما بالك حين ندخل قضايا المرأة والإرث والهوية الجنسية ووو.

يغيب عن بال هؤلاء أن الديمقراطية تعني، قبل أي شيء آخر، قبول حق المختلف بالرأي بما في ذلك الرأي الذي لا نتوقعه ولا نعرفه، ليس فقط قبوله بل حمايته دستوريًا وقانونيًا، فهل حقًا نحن قابلون بالديمقراطية في وعينا وسلوكنا؟


محمد ديبو


المصدر
جيرون