تهويمات مونودراما كحل عربي



-“كانت ستي تقول إنو الكحل بيخبي الدموع جوات العين”

-“لما بتصير حيطان البيت من لحم ودم… وبيصير للذاكرة إبرة وخيطان”

لا تستطيع بمفردك تنظيف الشارع المسرحيّ من أكياس القمامة السوداء، لكنك -بالتأكيد- تستطيع أن لا تكون أنت كيس قمامة.. كنا نقول ذلك في حضرة نظام الأبد، وقبل مآسي الحرب التي جلبها، ونستطيع اليوم -إن شئنا- أن نرى زهرة في كومة الخراب هذه؛ حيث يتحول الوطن، بما فيه من بيوت وبشر وشجر وأسوار وحدائق، إلى تلّة هائلة من الخردة والأكياس السوداء، أو أن نرى في هذا الركام المريع كسرة مرآة أو عين طائر جارح تعكس احمرار السماء، أو بقايا سوار زجاجي أزرق يعاكس أشعة الشمس.

لن أتحدث عن الحكاية، ولن أبحث عن الهدف اﻷعلى لهذا العرض المسرحي الرشيق، فالتفكير بإخراج مسرحيّة في هذه الظروف المتآمرة مع الموت والدمار، الممانعة للحياة والحب والإبداع، وداخل قاعة منسيّة في حي قديم من أحياء باب توما، هو بحدّ ذاته حكاية وهدف.

والحكاية هنا بسيطة كبساطة ذلك الإطار الخشبي الوحيد الذي ما إن ندخل إلى قاعة العرض حتى نراه مشنوقًا في الفضاء، ليتحول بعدها إلى نافذة وحيدة تطل منها امرأة وحيدة، تارة علينا نحن الذين أتينا على الرغم من الحواجز كلها، كي تتأكد من وجودنا معها؛ وتارة أخرى على ذكرياتها وروحها وحياتها التي أصبحت بلا معنى، عندما قررت الرحيل..

الحكاية بسيطة كحقيبة سفر ضخمة، أو خرقةٍ ملوثة بدماء الحب، أو ثوبٍ عتيق ممزق علقته امرأة -بحرص- في خزانتها/ الحقيبة/ الذاكرة.

الحكاية عن امرأة شابة، قررت أن تهاجر إلى بلد آخر، بعد أن خسرت كل شيء في بلادها، الأهل والحب والأمان.. والهدف اﻷعلى كان محض سؤال بسيط بدوره:

هل بات الرحيل عن الوطن أمرًا عاديًا؟

قد يبتسم البعض لكلمة وطن! ظنًا منه أن الوطن هو هذا الخراب؛ هذا الفضاء الدكتاتوري الرصاصي الذي يلطخ ثيابك وروحك بالقذارة والدم والبارود، أينما توجهت. وطن البيروقراطية الغبية والفساد الوقح الذي لم يسمح للمخرجة الشابة سوزان علي بعرض مسرحيتها الأولى على خشباته الرسمية، المكتظة بأعشاش العناكب والخفافيش، فقط لأن هذه المسرحية فازت بمنحة من (اتجاهات- ثقافة مستقلة).

لا أتحدث هنا عن تراب الوطن، فالتراب بات رمادًا، ولا عن سماء الوطن، فهو اليوم ينام بلا نافذة ولا سماء، ولا أتحدث عن حضن الوطن، فهو مليء بالسكاكين والعقارب والدخان..

لقد أثبتت سوزان، وهي شاعرة معروفة وصاحبة ديوان (المرأة التي في فمي)، مقولة أن المخرج المسرحي -بطبعه- شاعر، أو ساحر يحوّل الكلمات إلى صور ومشاعر إنسانية تنبض بالحب والحنين والصدق. لكن الشعر في عرضها لم يكن ينتمي إلى الأدب والفلسفة والتورية، بل كان معجونًا بالحدث الدرامي وتطوره، معبرًا عن مكنونات الشخصية التي جسدتها روجينا رحمون، وتمكنت من تحويل الشعر -في النص- إلى مشاعر حياتيّة بسيطة، لكنها عميقة ومؤثرة.

لقد نجحت سوزان كمخرجة هاوية، كما نجحت كمؤلفة مسرحية (وهذا نصها الأول)، في تحويل الشعر إلى دراما، وقيادة عرضها والسيطرة عليه، بجميع مكوّناته، علمًا أنّ هذا النوع المسرحي “المونودراما” يشكل تحديًا حقيقيًا لأي كاتب أو ممثل أو مخرج محترف، فكان اختيارها للممثلة دقيقًا، وقد لعب ذلك دورًا كبيرًا في سطوة العرض، حيث تمكنت روجينا -وهي خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية- على مدار ساعة تقريبًا، أن تجذبنا إليها وتدخلنا إلى عالمها الغني، وتعدينا بمشاعرها وهواجسها.. وهذا ليس بالأمر الهين، فهو يشي بفهمها العميق لشخصيتها وقدرتها على تبنيها وتجسيدها. ويعود الفضل في ذلك -طبعًا- إلى النص وإلى الإخراج الذي تمكن بجدارة من إدارتها وتبرير أفعالها وتنقلها بين فكرة وأخرى، مهيّئًا لها العوالم والمناخات المناسبة والصحيحة، بدءًا بالمكان “غاليري مصطفى علي”، مرورًا بالديكور والإضاءة والملابس والموسيقى والأغراض المسرحية، وليس انتهاء بالقاعة البسيطة المليئة بالكراسي البلاستيكية، والتي لعبت -مجتمعة- دورًا حاسمًا في انسجام العرض وتحويله إلى قطعة فنية متناسقة..

ما أدري أكان ذلك كحلًا عربيًا أم وحلًا، لكننا -على أي حال- شاهدنا عرضًا مسرحيًا، يبشر بولادة كاتبة ومخرجة مسرحية سورية واعدة.


غسان الجباعي


المصدر
جيرون