أين ثوار 1968؟ لقد رحلوا منذ زمن طويل



قبل خمسين عامًا، نزل مئات الآلاف إلى شوارع باريس. لكن التغييرات السياسية والاقتصادية التي طالبوا بها لم تتحقق قط.

عام 1968، العديد منا، نحن الشباب في شوارع أوروبا الغربية، الذين أطلقنا على أنفسنا اسم الثوار. المحتجون في باريس، 1968. صورة: جاك ماري/ وكالة الصحافة الفرنسية.

في عطلة نهاية الأسبوع، جلستُ في مقهى باريسي، أرتشف قهوتي وأقرأ في صحيفة (ليبراسيون) ذكريات عن أحداث أيار/ مايو 1968. قبل خمسين عامًا من اليوم، نزل أكثر من 300 ألف شخص إلى هذه الشوارع مطالبين باستقالة الرئيس شارل ديغول، كانت واحدة من ذروات التمرد. إحدى اللافتات المرفوعة عاليًا بين الحشود: “أولئك الذين في السلطة هم في تراجع! الآن يجب أن يسقطوا!”.

اليوم، الشيء الذي لا بدّ من قوله عن عام 1968 هو أنه كان بالفعل تحررًا، وإحساسًا بالحرية، لكنه كان فشلًا أيضًا. عام 1968، شعرت كما لو أن العالم الأوروبي قد استعاد الحياة مجددًا بعد سبات طويل. تغيّرَ المجتمع والأفكار والثقافة فيما بعد إلى ما هو أكثر تحررًا (ليبرالية). قبل كل شيء، ازدهرت مساواة المرأة، لكن السلطة السياسية والاقتصادية لم تتغير. ربما من هم في السلطة كانوا في حالة تراجع عام 1968، وبالتأكيد أيضًا حالة ديغول، لكنهم لم يسقطوا، بل سرعان ما أعيد انتخاب معظمهم.

بعد أيار/ مايو 1968، بشكل عام، أتت الانتخابات بانتصارات لليمين، لا لليسار. كان جورج بومبيدو (فرنسا)، وريتشارد نيكسون (أميركا)، وتيد هيث (بريطانيا) في السلطة بحلول عام 1970، استمر فرانكو في حكم إسبانيا، بدأت حقبة أندريوتي في إيطاليا، دبابات ليونيد بريجنيف سحقت ربيع براغ (1968)، فقط في ألمانيا الغربية، حيث في عام 1968، جرت تصفية حساب مع حقبة ما بعد 1945، ووصل ويلي براندت، الديمقراطي الاجتماعي، إلى السلطة كأحد ممثلي التغيير.

لم ينعكس الفشل السياسي لعام 1968 في الانتخابات اللاحقة فقط. كان الفشل أيضًا تاريخيًا على نطاقٍ واسع. بعد نصف قرن، ربما من الصعب أن نفهم كم مثَّل عام 1968 في ذلك الوقت بالذات انبعاثًا سياسيًا، ومدى الحاجة القوية إلى إعادة بعث اليسار مجددًا بعد الحرب. في جميع أنحاء أوروبا، وخاصة في فرنسا، كانت الأحداث عبارة عن إعادة تأكيد واعٍ في كثير من الأحيان لشكل من أشكال سياسة اليسار الثورية ذات الجذور والأصداء العميقة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كانت هذه السياسة تطمح إلى تحريض الطبقة العاملة المحبطة، نحو عهد جديد من النزعة الكفاحية. حدث ذلك في الشوارع والمصانع، وهاجمت الشرطة وغيرها من مؤسسات السلطة، واستخدمت في بعض الأحيان العنف المصحوب برومانسية، ولفتت الانتباه مباشرة إلى ميراث ثورتي 1789 (فرنسا)، و1917 (روسيا).

تم تحفيز جزء من هذا، من خلال ما كان يسمى آنذاك حركات العالم الثالث، وخاصة في كوبا وفيتنام. لكن في النهاية، لم تطح هذه الثورة أيّ شيء تقريبًا. لم تكن أحداث باريس انبعاثًا للثورة الفرنسية ولا الروسية. كان أيار/ مايو 1968 أقلّ من البداية لشكلٍ جديد من السياسة، وأكثر من النهاية لنموذجٍ قديم. كان له الكثير من القواسم المشتركة مع ربيع الشعوب المهزوم عام 1848 أكثر من الإنجازات المشكوك فيها لليعاقبة (الجناح الراديكالي في الثورة الفرنسة بزعامة روبسبير، م.) أو للبلاشفة (الجناح الذي تولى السلطة في روسيا بزعامة لينين، م.)

“بعد عام 1968، استُنفدت التقاليد الثورية في أوروبا إلى حد بعيد”. امرأة شابة تتحدى شرطة مكافحة الشغب في باريس في أيار/ مايو 1968. صورة: Sipa Press/Rex Features

نحن جميعًا ما نزال نعيش مع هذا الإرث. بعد عام 1968، استُنفدت التقاليد الثورية في أوروبا إلى حد بعيد. لم يتم إسقاط أي دولة ديمقراطية في ذلك حين أو لاحقًا. وقد تحولت الجماعات السرية، وبشكل أساسي في ألمانيا وإيطاليا وإقليم الباسك، إلى عنف أكثر شدّةً. إحياء الجيش الجمهوري الإيرلندي في إيرلندا الشمالية. لكن حتى هذا لم يدُم. في النهاية صمتت البنادق في نهاية المطاف. بدلًا من ذلك، كانت الدول التي تغيرت بشكل جذري في أوروبا هي الدول الاستبدادية، وليس الدول الديمقراطية التي يفترض أنها أقلّ قمعية.

في عام 1968، العديد منا، نحن الشباب في شوارع أوروبا الغربية، الذين سمينا أنفسنا بالثوار. لم يعد أي رصين يقول هذا منذ ذلك الوقت. ومع ذلك، وكما يظهر عهد جيريمي كوربين، فإن التعلق الرومانسي بجوانب تلك النزعة الثورية القديمة لا يزال لديه جاذبيةً للبعض.

ما أحتفظ به من تجربة بريطانيا البسيطة لعام 1968 هو نزعة العصر الأوروبية. كانت الأفلام التي شاهدناها أوروبية، وكذلك المؤلفون السياسيون الذين أثاروا حماستنا. كانت باريس لا تزال أعظم مدينة في أوروبا. عام 1968، هاجمنا “وايت هول” مرددين هتاف “هو تشي مينه” في “باريس، ولندن، وروما، وبرلين/ سنقاتل وسنربح”. لاحظ الإشارة إلى أربع مواقع أوروبية.

في الواقع، قاتلنا قليلًا لكننا لم نربح. في عام 1968، شعرت بالصدمة عندما أدان جيورجيو أمندولا، الشيوعي الإيطالي المحترم الطلاب الثوريين على أنهم أعداء لحركة العمال. اليوم، أقترب كثيرًا من وجهة نظر أمندولا. أدرك أن اللحظة الثورية قد ولَّتْ، وأرى أن مستقبل اليسار يكمن في النزعة الإصلاحية والتحالفات، وفهم كيفية عمل الحركات التقدمية في الدول الديمقراطية. بعد عام 1968، أمضى أمندولا بقية حياته السياسية في الضغط للحصول على تنازلات مبدئية، ضمن حركة اليسار لتمكينه من الحكم. هذا لم يتغير.

يمكن القول إنه ليست رومانسية المتاريس من ولّت فحسب، حتى فكرة الحركة الشعبية نفسها موضع تساؤل، والسياسة البرلمانية جدًا تعني القليل، وحتى المظاهرات السلمية لا تغيّر الحكومات.

كان الميثاقيون/ الشارتريون (حركة الطبقة العاملة الداعية للإصلاح السياسي في القرن التاسع عشر، م.) يتجادلون حول ما إذا كانوا يستخدمون “القوة المادية” أو “القوة الأخلاقية” لتحقيق أهدافهم. شهد عام 1968 وفاة سياسة القوة المادية، ولا ينبغي أن نتأسف عليها ونندبها. إن مشكلتنا الحقيقية اليوم هي أن سياسة القوة الأخلاقية ضعيفة للغاية أيضًا.

اسم المقال الأصلي Where are all the revolutionaries of 1968? They’re long gone الكاتب مارتن كيتل، Martin Kettle مكان النشر وتاريخه الغارديان، The guardian، 17/5 رابط المقالة https://www.theguardian.com/commentisfree/2018/may/17/revolutionaries-1968-long-gone-paris-marched عدد الكلمات 850 ترجمة أحمد عيشة


أحمد عيشة


المصدر
جيرون