الأسدية والنموذج الإسرائيلي



مكرهًا أضحى السوري، وهو يقارن بين النظام الأسدي وعدوه التاريخي “إسرائيل”. ما كان لهذه المقابلة أن تتمّ في مواجهة عدو تاريخي ليس للسوريين فحسب بل للعرب جميعًا، كونه نظامَ احتلال واستيطان يعتنق عقيدة إبادة الأغيار، وإحلال الصهاينة اليهود في أرضهم، عبر الجريمة المنظمة التي ارتكب فيها ولا يزال مئات المجازر، منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى اليوم، وليست مجزرة غزة آخرها. النظام الأسدي الذي استحوذ على السلطة في سورية استولى على مقدرات الشعب السوري، وصادر واقعه ومستقبله، وجيّره لخدمة النظام الذي تأسس على اعتبار المواطنين السوريين أغيارًا، فانتهج سياسة القمع والقهر والحكم بالقوة، وصولًا إلى ارتكاب المئات من جرائم التطهير الطائفي والسياسي، وإحداث تغيير ديموغرافي بصورة منظمة.

إذا كانت “إسرائيل” عدوًا طبيعيًا تاريخيًا؛ فإن النظام السوري عمل على استعداء الشعب، ونجح في ذلك. ومنذ نصف قرن، يمارس سياسة السطو على القرار الوطني، وعلى مقدرات الدولة والمجتمع، ويسرق أراضي المواطنين وجهودهم، إضافة إلى اعتماد منهجية القتل وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات. لقد احتلت الأسدية الدولةَ السورية، تدريجيًا، في السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات، ثم قطعت كل صلة لها مع قوانين التطور الطبيعي، في المرحلة التي تلت مجازر حماة وتدمر، لتضع يدها على كل شيء جذريًا، بصورة متفردة تاريخيًا.

طوال تلك العقود المريرة، كان النظام الأسدي يمارس الإكراه والإذلال، تحت ذريعة مقاومة الاحتلال الصهيوني، المشجب الذي عُلّقت عليه كافة القضايا الوطنية المهمة، لصالح قضية فلسطين، لكن النظام الذي انكشفَت أكاذيبه مبكرًا كان يفعل ما بوسعه للتقرب من “إسرائيل”، وكان يقوم بكل ما تعجز عنه من ملاحقة القوى والتنظيمات الفلسطينية، في مصادرة قرارها، وإعاقة مشروعها التحرري، وزج المناضلين في المعتقلات، وتصفيتهم. لقد جهد في تشتيت المقاومة الفلسطينية وتشرذمها، بدءًا من مواقفه في أيلول الأسود، ووصولًا إلى تدمير مخيم اليرموك، بما يمثله من معان ورؤى ونضالات الفلسطينيين والسوريين معًا. لقد انحاز النظام الأسدي كليًّا إلى خدمة المشروع الإسرائيلي، فلم تتخل عنه الدولة الصهيونية، والتي توصي بالحرص على استمراره حتى اليوم.

لم نكن نحتاج إلى تطورات النزاع والمواجهة بين “إسرائيل” وإيران، كي نتلقف رسائل تل أبيب إلى الأسد. لكن رسالة ليبرمان تؤكد مجددًا أن دور “إسرائيل” محوري في توجيه الموقف الدولي من طاغية دمشق، وتتجاوز ذلك إلى الوعد بإمكانية القيام بدور ما لتغيير المزاج العام. هذا يعني شيئًا واحدًا، وهو مزيد من الجهود لخنق انتفاضة السوريين وثورتهم.

تدافع “إسرائيل” عن النظام الأسدي، وتحثّه على التخلص من إيران، وهي تدرك تمامًا أن ليس بوسعه القيام بذلك، وأنه غارقٌ في محاكاة النموذج الإسرائيلي، في العسف والجور، كمثال يرتقي إلى درجة التشرب الكامل للمنهجية الإسرائيلية. مقارنة السوري اليوم تُفاضل في درجة البشاعة في ارتكاب الجرائم، بحيث تبدو مجزرة كفر قاسم، أو جنين، جرائم صغيرة محدودة أمام مجزرة بانياس، أو أمام مجازر الأفران وأسواق الخضار، وتدمير الأحياء.

كانت “إسرائيل” -وما تزال- تُعاقب ناشطي الثورة الفلسطينية بتهديم منازل ذويهم، ولكن بعد أن يُخرجوهم منها، كذلك تعلّم القذافي من “إسرائيل”. لكن الأسدية كانت تدمّر المساكن والأحياء والمدن فوق ساكنيها، وتلاحق الفارين منهم بالرصاص، وتقتل المئات بأسلحة محرمة دوليًا.

استخدمت “إسرائيل” سياسة الحصار والتجويع في الضفة وفي قطاع غزة، واستخدم الأسد، ببشاعة لا وصف لها، الأساليب نفسها بقوة أشد. وصف الأسد السوريين الثائرين بأنهم “جراثيم”، ورأى حاخامات “إسرائيل” العربَ أفاعي وعقارب.

في مقاربة أخرى، رأى شبيحة النظام وكل أطياف مؤيديه، في تدمير الأحياء والمدن السورية تطهيرًا لها، وأن الأراضي يجب تجريفها، وزراعتها بالبطاطا. تمامًا كما يدعو الصهاينة اليوم إلى تجريف غزة، وتحويلها إلى مرآب للسيارات، فيما يجهدون بوسائل مختلفة، إلى تحميل الفلسطينيين أنفسهم تبعات كل ما يحدث، وأنهم يلقون بغزة إلى الجحيم، وهي النظرة المتقاربة مع تحميل مؤيدي النظام وشبيحته، المعارضة السورية، نتائج ثورتهم من أجل الحرية، وأن المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام هي مناطق منتجة وحاضنة للتطرف والإرهاب.

أوجه التلاقي في الممارسات الإجرامية الأسدية – الصهيونية، كثيرة، إلى درجة دفعت “إسرائيل” إلى اغتنام الحدث السوري، وتوظيفه بما يخدم دعاواها السياسية: الأسد يقوم بقتل الفلسطينيين ودكّ مخيم اليرموك، ولا تجب مساءلتهم عما يفعلونه داخل حدود “دولتهم”.

في مطلع صيف 2012، بدأ النظام بتدمير مناطق، والإبقاء على ركامها (ورش ومنازل في حرستا – الطريق الدولي) على الطريقة الإسرائيلية في القنيطرة، كي تكون رسالة للسوريين وعبرة لهم، وما يزال يقوم بذلك حتى اليوم.

لو كان النظام السوري وطنيًا؛ لما كانت هذه المقاربة ممكنة بأي حال. لكن الثورة السورية أسقطت كل الأقنعة. وحازَت الأسدية بجدارة على كل صفات وسمات العصابة، تنظيم إجرامي مأجور لخدمة مشاريع الآخرين، في سورية والمنطقة.


عبد الرحمن مطر


المصدر
جيرون