on
فيلم “سوريون” حيث تواصل السينما السوريّة سقوطها
تبدأ حبكة فيلم (سوريون)، من تأليف وإخراج باسل الخطيب، وإنتاج المؤسسة العامة للسينما، بطرح تساؤلات يستفزّها تلاحق المشاهد الأولى ذات الطابع القصير. ثمة تشنّج يستطلع مساحة القصة منذ البداية، ليصير من الصعب تداركه لاحقًا، حيث يحترق بيت يوسف (محمود نصر)، ويحتضن زوجته الميّتة، ثم يطلق الرصاص على شخص مكبّل، ويهرب. فيما ترفض ابنة عمّه زينة (ميسون أبو أسعد) الذهاب إلى المستشفى مع عمها (رفيق السبيعي) لتلقّي العلاج. نراها تعيش في مكانٍ معزول، تحيطه أنساق الأشجار، وفي الدقيقة 14 تظهر مجموعة من النازحين، يعبرون تلك الغابة، حيث وجه النهر المكسو بطحالبٍ خضراء، والقارب الذي ظهر في بداية الفيلم، وعلى متنه يوسف وزينة نراه مكسورًا، وقد ارتاح على الضفة المهجورة. لكن مقتنيات اللقطة المتحرّكة للمشاهد الخارجيّة لم تنجح في تثبيت شغف المتابعة؛ إذ يظهر عقمُ النص المكتوب على الفور، ويظلُّ كذلك طيلة 110 دقائق مدّة الفيلم.
ولا تجتهد الحبكة في تحويل الواقع القاتم إلى سينما مضيئة؛ بل تستطرد بملاحقة أشلاء الحياة داخل سورية، ورميها كمجسّمات حسيّة داخل المشاهد، واللقطات. ثم تقترح تلاقي مصاير أبطال العمل تحت الظلال الوارفة للصدفة، حيث تعمل ريما (كاريس بشار) مصورة فوتوغرافيّة، نراها تزور مخيّمًا داخليًّا للنازحين، قبل أن تصل بالمصادفة إلى حيث يعيش يوسف، وقد حاول صاحب الفيلم الإفادة من حضور الصورة الفوتوغرافية، وقوّة سيمياء عناصرها، فراح يوظفها في كوادر كاملة، كلما كانت ريما تلتقطها بكاميرتها. ولعلّ تمرير الصور الفوتوغرافية داخل الفيلم السينمائي يثبت لحظاتٍ بعينها، ويُلبسها حضورًا دلاليًّا كثيفَ المعنى.
يهرب الخطيب من حبكتهِ الفقيرة إلى لقطات متحركة، يحاول من خلالها مراكمة المنتج البصري للكاميرا، على حساب جفاف المكوّن الدرامي المكتوب في الحبكة، وهذا نجده مكرّسًا على سبيل المثال في مشهدٍ داخلي خلال زيارة ريما لمدرسة مهدّمة، وهي تقارن بين الخراب القائم في المكان، وبين حياة الطلاب داخل المدرسة سابقًا، كما يميل الفيلم إلى تهويم الحبكة، فلا يوجد ما يدل على الجهة التي قصفت مكانًا بعينه، بل يظهر وكأنه دمارٌ عابر، يكتنزهُ قلب الفيلم المُثقل بالدمار في أغلبِ مشاهده، وكذلك يظهر النازحون كما لو أنهم أحد المستلزمات البصريّة لبناء عددٍ من المشاهد لا أكثر.
في الدقيقة 31 من الفيلم، تظهر فاديا التي تعمل نادلة، والتي تحب فراس، الجندي في الجيش السوري، لكن هذا الخيط سرعان ما ينقطع داخل مسار السرد السينمائي، وكأن توظيفه جاء ليخدم اسم الفيلم فقط، إذ يعرض الفيلم تصنيفًا غير مباشر للسوريين، يرتضي أن يكونوا نماذجًا نمطية وفق رؤية النظام السياسي لهم، حيث يوسف السوريّ الذي فقد عائلته وبيته ثم حبيبته، وريما السوريّة التي تعمل رغم احتمالات الخطر التي تحفُّ بيومياتها، ثم فاديا السوريّة الشابة تعمل وتدرس، وتنتظر حبيبها المجنّد، ثم تفقده. أما الحبكة الأساسية فتقوم على خطّين دراميين ضحلين، الأول تمسكه زينة والثاني يسير مع ريما. ثم يحضر يوسف لزيارة زينب، وتنكشف لنا مشاعرها القديمة تجاهه، وتطلب منه البقاء إلى جوارها. فيما تقع ريما في كمينٍ محكم، وهي على الطريق، إذ تنفجر عبوة ناسفة قريبًا من سيّارتها، ويصاب رفيقها ياسر (جابر جوخدار) برصاصة قنّاص، وهنا لا يتردّد الفيلم بتقديم مشاهد الدمار كوجبةٍ بصريّة أساسية يتناولها أبطالهُ من دون انقطاع، ولا نفهم في أيّ المناطق من سورية يتحركون، أو يعيشون.
وعلى طريقة بناء الحبكة الهوليودية، تنجح ريما في نقل ياسر إلى مكانٍ آمن، لكنه يفارق الحياة، ثم تخزّنه كصورة فوتوغرافيّة داخل كاميرتها، وحين تحاول تلمّس طريقها للهرب، يظهر يوسف فجأة، وكذلك يظهر القناص مجددًا، ولا نفهم واقعيّة المشهد، وتحوّله إلى مطاردة سريعة في بناءٍ مهدّم، تنتهي بأن يسدد يوسف ضربة على رأس القناص، ثم يشنقه، ويتعرّف على ريما!
في مشهدٍ لاحق، تتعثّر ابتسامة فاديا بوجه والدتها الحزين حين تصل إلى بيتها، وهنا يظهر المونتاج كحلٍّ إخراجي، حين يقدّم تفسيرًا بأن يلصق مشهدًا يظهر فيه فراس، وقد وقع أسيرًا لدى إحدى فصائل المعارضة المسلحّة. تحاول الحبكة إذًا أن تقيم مفاهيم جاهزة إلى جوار الدمار الذي طغى على معظم أماكن التصوير، حيث يكتشف يوسف أن عزّام (محمد حداقي) يعمل مع فصيل المعارضة المسلّح الذي أسرَ فراس ثم ذبحه. يسأله يوسف: كم دفعوا لك!، وهل خدّروك؟! عزّام إذًا مقولة جاهزة للسوري الخائن، حسب منطق صاحب الفيلم، وكذلك الفصيل المسلّح فهو مقولةٌ جاهزة للشر والشيطان، كما أنّ أبا يوسف مقولة جاهزة للأمل.
أتكأ الخطيب كثيرًا على المشاهد الخارجية النهارية (خاصةً المشاهد التي جمعت يوسف وزينة) ليهرب من كسل الحبكة التي كتبها، مستعينًا بكاميرا متحركة ليكسر بها إيهام الثبات، والترهّل الملتصق بجسد الحبكة الأساسي، منتبهًا إلى جماليّة الطبيعة الموضوعة داخل كوادر متحرّكة، وقدرتها على تلوين مساحة الدمار الواسعة في معظم المشاهد التي ظهر فيها أبطاله.
في الدقيقة 70، تصل الحبكة إلى ذروتها، فيستدرج عزّام والد يوسف ليصير رهينةً لدى فصيل المعارضة المسلّحة، بهدف إجبار يوسف على المجيء إليهم. كما تنهار صحة زينة فجأة، ثم يتوجّه يوسف ليحرر والده، فيقبض عليه الجيش النظامي، لأنه لا يحمل بطاقة هويّته. لكنهم سرعان ما يطلقون سراحه لأن رائدًا في الجيش يعرفه، وهنا يسجل الفيلم هفوة تبيّن عجالة كتابة نصّه وعدم تدقيقه بما يكفي، حيث يقول أحد المجنّدين للرائد إنهم ألقوا القبض عليه ليلًا، وكانوا قد اعتقلوه فعليًا داخل مشهد نهاري في الدقيقة 80، لكن يوسف يتأخر في إنقاذ أبيه، فيجده ميّتًا عندما يصل إليه، وهنا يستعير صاحب الفيلم صفات البطل الهوليودي -أيضًا- ليسبغها على يوسف؛ إذ قرّر اقتحام مقر كتيبة مسلحة بمفرده! ورفض مساعدة الرائد حين اقترحها عليه!
ليس صعبًا تقصّي أثر ضعف بناء الحبكة وفقرها، ليس فقط على مستوى التفاصيل، كأن لا تجد زينة حطبًا للتدفئة، فتكسّر بعض أثاث المنزل لإحراقه، وهي التي تعيش في غابة واسعة، بل على المستوى الكلّي لبناء الحبكة دراميًّا، حيث تتوارى عناصر التشويق، ويسود عوضًا عنها الكيان المتوقّع للحدث، فتقصف مروحيّة مقرَّ الكتيبة المسلحّة المعارضة، ويموت عزّام، ومعه يموت كلّ المعارضين المسلحين، وينتصر الجيش النظامي، ثم تموت زينة على ضفة النهر، لينتهي الفيلم بالمشهد الذي بدأ منه، حين أبحر يوسف وزينة في قارب، وتعود ريم إلى بيتها، ويقرر يوسف أن يبني بيته المهدّم من جديد.
ينتمي فيلم (سوريون) إذًا، إلى نسقِ الأفلام التي اعتاد النظام إنتاجها منذ أعوام، وهي لا تخضع لمعايير جودة المحتوى، بقدر ما تشبه المقررات المدرسية، لجهة نمطيّتها في فهم الواقع كدرجة لونٍ ثابتة، وكادرٍ لا تتغيّر مكوّناته أو أبعاده، وكأنها ترجمة بصرية لشعارٍ لا تحيد عنه.
أيمن الشوفي
المصدر
جيرون