ظاهرة التعفيش.. بشار ابن أبيه



(التعفيش)، ظاهرة انتشرت خلال سنوات الثورة السورية، وأصبحت من الظواهر الاجتماعية المعممة والممنهجة بشكل كبير لدى شبيحة الأسد. حيث يقف نظام الأسد متفرجًا على آليات انتشارها، بل إنه يشجع شبيحته عليها في معظم الأحيان، حتى باتت هذه الظاهرة مقلقة للناس؛ فأي إنسان يهاجر قسريًا، سيتوقع بالضرورة أن يقوم شبيحة النظام بتعفيش منزله بقضه وقضيضه.

حول هذه الظاهرة، تحدّث الاختصاصي النفسي عبد الرحمن دقو إلى (جيرون) قائلًا: “بدأت هذه الظاهرة بفعل انتشار مفهوم الغنائم، لدى بعض الفصائل الإسلامية، ثم انتقل ذلك السلوك إلى قوات النظام وحلفائه وتشكيلاته العسكرية، بالنهج والأسلوب ذاته، ولكن بمسمى آخر وهو (التعفيش). وكونه يمتلك القدرة العسكرية والأمنية؛ استطاع أن يوظف هذا الفعل كسلاحٍ، لا يقلّ عن سلاح القتل والتدمير، في مواجهة المعارضة بكل أشكالها المدنية والعسكرية”.

يرى دقو أن الشعب السوري كان ضحية استخدام النظام لمفهوم (التعفيش) المشابه لنظيره (الغنائم) المستخدم من بعض قوى المعارضة. وكلا المفهومين متشابهان، من حيث الأسلوب والأهداف. ويضيف: “تُعدّ هذه الظاهرة منهجية، بمعنى هي مشرّعة سياسيًا؛ ذلك أنها استجابة لتعليمات رسمية أمنيّة لتحقيق أهداف مدروسة، كتوفير معززات مادية (حوافز، إغراءات) لمتابعة القتال لدى القوات النظامية، وهذا يؤدي إلى استلاب المسؤولية القانونية والأخلاقية من المقاتل، طالما كان هذا السلوك مسموحًا به”.

وتساعد ظاهرة (التعفيش) -بحسب الاختصاصي النفسي دقو- “في توفير غطاء مادي لسد العجز المالي المترتب على المؤسسات العسكرية والأمنية، تجاه الملتزمين معها من جيش وأجهزة أمنية وتشكيلات مقاتلة. وبالتالي اعتبار ما تستحوذ عليه كتعويضات مجزية ماديًا”.

من جهة أخرى، يرى دقو أن “هذه المنهجية في التعفيش تعدّ سلوكًا انتقاميًا من الحاضنة الشعبية للمعارضة أيًا كانت، هدفه تفقيرها وتدمير ممتلكاتها، بشكل يُحدث انعكاسًا سلبيًا على مواقفها السياسية والشعور بالخسارة الفادحة التي تصيبها جراء التعفيش”.

الكاتب السوري عبد الباسط حمودة يرجع هذه الظاهرة إلى الثمانينيات، “خلال الحملة الأمنية لمنازل المعارضين من وطنيين ديمقراطيين وإسلاميين، وبرزت بشكل أكبر، عندما دخل الجيش حماة 1982 وقام بتدميرها وسرقة المصاغ، وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه، بعدما قتل أكثر من ربع سكان المدينة وعطب أكثر من الربع الآخر، بإشراف مباشر من المجرمَين: حافظ وأخيه رفعت”.

يقول حمودة لـ (جيرون): “أردتُ من ذلك أن أشير إلى أن الظاهرة/ الجناية قديمة ولصيقة بنظام آل أسد وبعثهم الفاسد والمُفسد، إلى أن جاءت ثورة الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011، كي يشاهد شعبنا نتائج كل تلك المشاريع التعفيشية الأسدية مطبقة، منذ الأيام الأولى للثورة، من سرقة وقتل ونهب للمنازل التي يدخلها الأمن الأسدي وجيشهم الإرهابي”.

أضاف: “لم يكتفِ أمن النظام وجيشه بالسرقة فحسب، بل قاموا بفتح أسواق لبيع المسروقات؛ وقد تحوّل هؤلاء الزعران إلى ميليشيا نهب محمية وفق القانون الأمني الذي يمنع مساءلة أي أزعر منهم عن ممارساته وجرائمه. كانت وحشية آل أسد، خلال الثمانينيات، مشروعًا عمليًا لتطبيق ما علمه المجرم والجاسوس الأول لمؤيديه، كي يتمّ تطبيقها بشكلٍ أشمل على شعبنا، حين ينتفض بثورة شاملة للحرية والكرامة”.

تساءل حمودة: “من أين جاء كل هذا الكم من المُفسدين والمُعفشين والبعثيين اللصوص؟!”. ورأى أن “من الضروري أن نعترف بأنهم من أبناء جلدتنا وبلدنا، ممن نخر الفساد وسوء التربية الأخلاقية والوطنية ذواتهم، ودُفعوا إلى الانحراف بفعل العصا والجزرة الأسدية، وتغول أجهزة الأمن العابثة بمصير البشر والحجر، وصولًا إلى توسل ذلك من شعارات كاذبة. وهذا يؤكد أننا لم نكن شعبًا موحدًا، كما كنا نعتقد ونزعم، ولم يكن لدينا دولة، بالمعنى الحديث للكلمة، وبالتالي فهويتنا لم تكن سوى رغبة أو أمنية تبخرت عند أول امتحان حقيقي للحرية في سوريتنا”.

في الموضوع ذاته، يرى المحامي والكاتب السوري ثامر الجهماني أن ظاهرة التعفيش ليست حديثة في المجتمع السوري، بل هي قديمة قدم النظام الأسدي، وباتت لصيقة به منذ عشرات السنين. وقال في حديث إلى (جيرون): “تعود الظاهرة إلى سياسة منهجية، استعملها حافظ الأسد لتثبيت حكمه كأداة مهمة من الأدوات لزيادة عدد الموالين المستفيدين من وجود هذا النظام، الذي استغل الفاسدين أصلًا وإفساد غير الفاسد بالأصل. لذلك كانت أكبر جريمة ارتكبها النظام السوري هي إفساد المجتمع”.

تابع الجهماني: “مرّت ظاهرة التعفيش بثلاث مراحل، خلال عمر النظام: الأولى كانت خلال تمدد سلطة رفعت الأسد وشبيحته (سرايا الدفاع) في مدينة دمشق، أثناء فترة سيطرته عليها، إبان محاولة الانقلاب على شقيقه. حيث تمّ تعفيش سوق الذهب والبيوت الفخمة والمشاريع الكبرى. والثانية كانت في لبنان شاهد فيها كلا الشعبين السوري واللبناني بطولات الجيش السوري، في تعفيش كل شيء في لبنان حتى حنفيات الحمام”. أما الفترة الثالثة -بحسب الجهماني- فكانت في الكويت، عندما شاركت الفرقة السورية القوات الأميركية في تحرير الكويت، وعادت الحافلات محمّلة بالعفش الكويتي.

الباحث السوري سليمان الشمر يرى أن ظاهرة (التعفيش) اجتاحت الواقع السوري، وشكلت صدمة في الوجدان الجمعي. وقال لـ (جيرون) موضحًا: “يبدو أن لهذه الظاهرة بُعدًا ثقافيًا وتاريخيًا في المجتمعات العربية، يعود إلى عقلية العشيرة التي تمجد الغزو والغنيمة والسبي. وقد تابعنا بدهشة نهب المقار الحكومية في العراق، عقب الغزو الأميركي (مدارس- إدارات – بنوك). ولا أعتقد أن وراءها توجهًا سلطويًا منهجيًا، بل هناك غض طرف كوسيلة تشجيع وربط للمعفشين بالنظام، ولو لمرحلة معينة. ذلك أن الظاهرة لم تقتصر على القوى المنظمة، بل إن هناك مدنيين كثرًا شاركوا في هذه الظاهرة”.

يعتقد الشمر أن الخطورة تكمن في أن هذه الظاهرة قلّما لاقت رفضًا من المجتمع، حتى إن هناك إقبالًا على شراء السلع المعفشة، لرخصها تحت ذريعة الحاجة، إضافة إلى عدم اقتصارها على طرف المواليين فقط.


جيرون


المصدر
جيرون