ما مصير الاستعصاء السوري



توحي المؤشرات الميدانية السورية في الفترة الأخيرة بانتهاء الاستعصاء السوري لصالح النظام، أو تحالف النظام بأفضل التقديرات، نظرًا إلى تتابع الأخبار التي تدور حول انسحاب قوات المعارضة المسلحة من البلدات الخاضعة لسيطرتها، نحو الشمال السوري غالبًا، أو عقد بعض الاتفاقات مع النظام من خلال الوسيط الروسي، من أجل إلحاقهم بقوات النظام، أو الإبقاء على سيطرتهم داخل تلك البلدات، بعد اعترافهم بشرعية النظام السوري.

غير أن اعتبار انتصارات تحالف النظام أو الروس الأخيرة مؤشرًا على اقتراب حلّ الأزمة، يعبّر عن تخبط وتشويش في فهم الأزمة وفهم حالة الاستعصاء، وبالتالي في تحديد نهايتهما. فقد ساهم توالي الأحداث والمآسي السورية في حجب جزء مهم من صورة الوضع السوري؛ إذ انطلقت الأحداث من حالة استعصاء سياسي بين النظام والثورة الشعبية، حتى تطورت وأدّت إلى استعصاء آخر عسكري، نتج عن تضافر عدة عوامل خارجية وداخلية، حرصت جميعها أو معظمها على تجنب الخوض في الأزمة السياسية بين النظام والثورة الشعبية ولو بشكل بسيط، بل إنها حاولت إفراغ الثورة من جوهرها الأساس؛ كحالة ثورية شعبية تسعى لتأسيس دولة العدالة والحرية والمساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية.

وعلى ذلك؛ فقد سار كلا الاستعصاءَين في مسارين منفصلين بشكل كامل، وإن تقاطعا في بعض الظروف والأوضاع، وخصوصًا في بدايات التسلح الشعبي الذي تمثل في اندفاع العديد من السوريين نحو حمل السلاح، دفاعًا عن أنفسهم وعائلاتهم ومدنهم، كردة فعل شعبية بسيطة وعفوية على إجرام النظام بحق السوريين، الذي لم يدخر وسيلة بهدف قتل وتدمير الثورة، من حملات التشويه والتخوين والتحقير الإعلامي والسياسي بحق الثورة ومؤيديها، إلى الاعتقال والقتل تحت التعذيب، وأخيرًا عبر القنص والقصف عبر جميع وسائل القتل الجماعي المنهجية أو الفردي كالتشبيح.

وتبع ذلك مرحلة شهدت تصاعد الإجرام الأسدي، وتصاعدًا في وتيرة نمو وتشكيل قوى المعارضة المسلحة، وخصوصًا الإسلامية والأصولية والجهادية، التي أثبتت الأيام والسنوات الماضية مدى تناقضها مع الثورة وأهدافها، ومع السوريين عمومًا؛ كيف لا وهي عبارة عن أداة عسكرية يتحكم فيها داعموها الإقليميون حينًا، والعديد من الأجهزة الاستخباراتية المسؤولة عن تشكيل هذه المجموعات، وعلى رأسها المخابرات السورية والإيرانية والتركية أحيانًا أخرى. وقد عكست هذه المرحلة تجاهلًا محليًا وعالميًا لجذر المشكلة السورية أو الأزمة السورية، أي جذر الاستعصاء السوري، المبني على استمرار النظام في الحكم بالرغم من فقدانه غالبية مشروعيته الشعبية، وعجز النظام والثورة عن حسم الأمور لصالح أحدهما. وبالتالي بات التركيز الداخلي والخارجي ينصبّ على الصراع العسكري، ويتناسى جذر هذا الصراع وحامله الاجتماعي.

إذن؛ فقد دخل الوضع السوري في أتون صراع عسكري طويل ومرير، بين تحالف النظام من جهة، وبين مجموعة من القوى العسكرية المعارضة المحسوبة على الثورة من جهة أخرى. ويستمرّ هذا الصراع نسبيًا حتى الآن أو حتى الماضي القريب، نتيجة لعجز أي من الطرفين عن إلحاق هزيمة نكراء بالطرف الآخر، على الرغم من حجم التفوق البشري والتقني والتكنولوجي، لصالح تحالف النظام، وعلى الرغم من التخبط والتصادم القائم بين المجموعات المعارضة، انعكاسًا لتخبط وتصادم داعميهم من جهة، وتنفيذًا للمخططات الاستخباراتية المكونة لبعض منهم كما ذكرنا سابقًا. حيث يرجع سبب عجز النظام وجميع حلفائه، وخصوصًا في المرحلة السابقة للتقارب الروسي التركي والخليجي نسبيًا، إلى قوة الحاضنة الشعبية الثورية وجذريتها، والتي كانت وما زالت تقف عثرة أمام جميع المخططات الدولية والمحلية الرامية إلى حرف الثورة وتدميرها، وتحويل القضية السورية من ثورة شعبية إلى حرب طائفية فقط. وطبعًا لا يمكن لنا إنكار وجود العديد من المظاهر الطائفية، لكنّها لم تنجح في تجريد الثورة من أهدافها الوطنية، ومن خطابها الوطني العابر للطوائف وللاختلافات العرقية، الذي نلمسه في كل فعل احتجاجي شعبي داخل سورية، وخصوصًا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

لذا، فمن المجحف رد الاستعصاء السوري إلى حالة التوازن العسكري التي ظلت قائمة حتى التقارب الروسي التركي، بل لا بدّ من رده إلى سببه الرئيس، والمتمثل بالاستعصاء السياسي، استعصاء النظام والثورة الشعبية، الذي يحول دون رضوخ السوريين لبقاء الأسد، ودون القبول باستمرارية حكمه في المستقبل المنظور، حيث يندفع الكثير منهم، وخصوصًا من لا يخضع لسلطة الأسد وحلفائه الطائفيين، من أجل التأكيد على الروح الثورية التي كانت سائدة في 2011، والتعبير عمّا لمسه السوريون في  السنوات الماضية من غدر، وخذلان العالم لهم ولثورتهم العادلة والمشروعة.

كما يعبّر العديد من السوريين، داخل مناطق النظام، عن تخوفاتهم من المرحلة المقبلة، على الرغم من حجم الانتصارات العسكرية المحسوبة على النظام، وكأنهم يرون أنها مرحلة أشد قسوة وخطرًا عليهم وعلى سورية، من كل ما مضى، نظرًا إلى تعدد قوى الإجرام والطائفية والاحتلال المتنفذة داخل سورية اليوم، وإلى تآكل شعبية الأسد ورموز حكمه. وهو ما يوحي باستمرار الاستعصاء السياسي، إن لم نقل إنه قد أوغل في التعقيد، حتى بات حلّه وفكّ عقدته عملية شائكة وصعبة، تتطلب طول النفس والمثابرة في العمل. فنحن اليوم على مشارف مرحلة إعادة بناء الهوية والذات السورية، بعد أن هدمت سنوات الصراع الماضية أي إمكانية لإصلاح وترميم الجسد والنفس والوطن الذي قولبه نظام الأسد، من خلال العمل على تجهيل وأسر المجتمع السوري كاملًا، حتى أصبح هدم كل ما سبق خطوةً أولى من أجل إعادة بنائه على أسس قد تكون جديدة أو قديمة، إلا أنها يجب أن تكون نتاج عمل ونقاش وإجماع السوريين، وأولها استعادة حرية سورية من جميع القوى المتحكمة فيها اليوم.

في النهاية، وعلى الرغم من النجاح الروسي في السيطرة على معظم الأراضي والثروات السورية، وضمان وحماية المصالح الإقليمية والدولية داخلها، ونوعًا ما خارجها أيضًا، إلا أن هذا النجاح مبنيّ على رمال متحركة قادرة على ابتلاع كل ذلك، في أي لحظة يتمكن السوريون فيها من مزج إراداتهم السياسية وقوة عزيمتهم، مع ما راكموه من وعي سياسي وتنظيمي، في السنوات الثورية السابقة؛ من أجل حل الاستعصاء السوري بقواهم الذاتية، وبالطريقة الوحيدة التي تكفل مصالح سورية والسوريين، والتي تبدأ من انتصار الثورة.


حيّان جابر


المصدر
جيرون