إدغار موران، عن الحضارة وضرورة تغييرها



عن دار نشر لوب الفرنسية، صدر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 كتاب (حان الوقت لتغيير الحضارة)، وهو سلسلة حوارات أجراها الصحفي دينيس لافي مع الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران.

ميزة الكتاب أنه شمل خلاصة أفكار موران، منذ بدء عمله السياسي والفكري بداية أربعينيات القرن الفائت، وهو الذي خاض الحرب العالمية الثانية، واشترك مع رفاقه بالحزب الشيوعي الفرنسي في المقاومة ضد النازيين، ويقف منذ أكثر من سبعين عامًا مع قضايا الفقراء والمظلومين والضعفاء، بتغير صفاتهم وانتماءاتهم عبر تلك السنوات: (عندما كنت طفلًا، لم يكن العدو في الغرب هو العربي أو المسلم، بل كان اليهودي)، مدافعًا عن حق المسلمين في العيش بحريّة، وخوض تجربتهم الثقافية الذانية (لقد تعايش الأوروبيون أكثر من 1800 سنة مع ظلامية الكنيسة، مرورًا بأسوأ لحظة إجرام ديني، متمثل في محاكم التفتيش، ولم يطور الغرب ديمقراطيته إلا منذ نحو مئتي عام، فلماذا نطلب من المسلمين أن يقطعوا، بسنوات قليلة، ما قطعته أوروبا بمئات السنين)، فالمشكلة -حسب موران- ليست في الإسلام بحد ذاته، فالمشترك بين الأديان التوحيدية الثلاث أكثر من المختلف، سواء بنقاطه المضيئة، أو الظلامية، لكن المشكلة هي في الظروف التاريخية التي تعرض لها المجتمع المسلم الذي لم يلتقط أنفاسه منذ أكثر من ثلاثة قرون، من احتلال عثماني أنهكه، إلى أوروبي قسم أرضه، إلى أميركي نهب ثرواته، وجعل من بعض مناطقه الجغرافية رقعة لحروبه.

لكن موران متفائل بإمكانية (تأسيس وتعزيز إسلام أوروبي غربي، يقبل الحريات الخاصة، ومفاهيم المساواة مع المرأة، وتقبل فكرة وجود أشكال مختلفة للزواج)، ويعتقد موران أن الأوروبي عامة، والفرنسي بشكل خاص، لم يستوعب إلى الآن مشاكل الدولة الحديثة، وأساليب حلها، مستشهدًا بمشروع نزع الجنسية الذي طرح للنقاش في البرلمان الفرنسي: (فهل تتخيل أن الانتحاري، المستعد للموت، يمكن أن يغير قناعاته؛ إذا عرف بإمكانية سحب الجنسية الفرنسية منه؟ وما مدى أهمية الجنسية لشخص ذاهب لحتفه؟). لكن الفكرة ترجع بالأصل -حسب موران- إلى فترات العصور الوسطى الظلامية، حينما كانت فكرة (الحرمان) سائدة لدى الكنيسة الكاثوليكية، وكانت السيف المسلط على المعارضين لحكمها، فالبشرية لا تتعلم من تجاربها. حتى اليهودي الذي تعرض للظلم خلال الحقبة النازية، وخضع لأبشع جرائم التاريخ في التصفية بغرف الغاز، لم تمنعه هذه الجرائم من طرد الفلسطيني من أرضه، كما لم تمنع الفرنسي الذي ذاق قهر الاستعمار الألماني، وعرف مرارة الاحتلال الأجنبي لباريس، وخاض تجربة المقاومة للاحتلال، لم تمنعه من الإبقاء على احتلاله للكثير من عواصم بقية الدول، وأن يسحق ثورات مقاومتها!!

أما عن نظرته إلى الحالة الإنسانية العامة، فيعتقد أنها أسوأ فترات التاريخ ظلامية، فالتفتت، والكره، والرغبة في الانفصال عن الآخر، هي الحالة السائدة حاليًا، على عكس السنوات السابقة (حتى الاتحاد السوفييتي، كان قائمًا على فكرة توحيد الناس من أجل عالم أفضل)، ففكرة الاتحاد، والنضال المشترك، كانت سائدة خاصة في فترة (الثلاثين المجيدة)، وشملت حتى دول العالم الثالث، التي شكلت اتحادات مختلفة، على عكس الجو السائد حاليًا، القائم على كره الآخر، والرغبة في البعد عنه، أو التخلص منه، داعيًا الأوروبيين والبشرية جمعاء إلى تأسيس هوية مشتركة جامعة أسماها (مجتمع المصير communite de destin)، طالما أن البشر يتقاسمون المصير نفسهم، ولهم الاحتياجات نفسها، ولديهم الهواجس والقلق نفسيهما، فلماذا لا يشكلون مجتمعًا واحدًا؟ في ردّ على اليمين المتطرف، أو حتى الوسط الماكروني الجديد، الذي يرى أن فرنسا (غير قادرة على تحمل بؤس البشرية) أو بمعنى آخر، غير معنية بهذا البؤس.

وفي تشخيصه للحالة الأوروبية الراهنة، يرى أن المشكلة المجتمعية ناشئة من عاملين مختلفين: الأول هو البربرية الجماعية barbarie de masse)) القائمة على تمجيد الذات القومية، أو الدينية، أو العرقية، والرغبة في استعباد أو قتل المختلف، وهي بربرية ذات منشأ أوروبي أساسًا، سواء بنسختها النازية، أو الفاشية، ولها امتدادات عالمية، كتجسداتها في الثورة الثقافية في الصين التي راح ضحيتها الملايين، والغولاغ الروسي، ومجازر الخمير الحمر في سريلانكا، و(داعش) حاليًا في العراق وسورية.

فـ (داعش) هي جزء من حالة عامة، قائمة على عدم الاعتراف بالآخر، وهي ليست مشكلة إسلامية، بل مشكلة عقلية، نفسية عامة. ولا تقتصر فقط على المجتمعات المسلمة، أو الشرقية، كما يحاول الادعاء والترويج لها، اليمين العنصري في أوروبا.

أما العامل الثاني، فهو هيمنة ثقافة الحساب والأرقام (calcul et chiffre)؛ فكل القيم البشرية أصبحت خاضعة لمبدأ الرقم والقيمة، من تنمية، وبطالة، ومستوى رفاهية، وسعادة، ودراسات كمية، أصبحت تحول العالم كله إلى رقم، مهملة الإنسان بجوانبه الروحية، والسيكولوجية؛ ما جعل مرض “الاحتراق الوظيفي” burn out هو داء العصر في أوروبا.

إدغار موران، في 96 من عمره، لكنه ما يزال غزير الإنتاج، دائم الحضور في المشهد الثقافي الفرنسي، وهو مساند دائم لقضايا الأقليات في فرنسا، ومدافع عن إمكانية تأسيس هوية فرنسية – بشرية عامة، تمّحي فيها الفروق بين الناس، ومتابع لتأطير نظريته حول التعقيد والفكر المركب، ومهاجم “إسرائيل” وأسلوبها الوحشي في طرد الفلسطينيين؛ ما أوقعه في الكثير من الإشكالات القضائية مع اللوبي الصهيوني هنا في فرنسا.

جاء الكتاب بلغة مكثفة وراقية، وبعدد صفحات مختصر (117 صفحات) مزينة بعدد من رسوم الفنان باسكال ليماتر، وقد كانت موفقة جدًا في التعبير عن الهواجس والمخاوف التي طرحتها تلك الحوارات؛ ما جعل الكتاب عملًا متكاملًا، يستحق القراءة، والترجمة إلى اللغات الأخرى.


أحمد عسيلي


المصدر
جيرون