البطش البطش



– رصاصة.

صديقي جميل الخُلق، ذو تربية صالحة ومنبت طيب، شهم ومُحب.

جاب أبوه أصقاع الأرض كدًا كي يستطيع إطعامه وتعليمه وأخوته، كبر صديقي وحاز شهادة جامعية علمية كبيرة وازنة، لكنها بقيت أصغر وأخفّ من جواز السفر، وإذ عجز عن النهوض بمتطلبات حياة كريمة في وظيفته الحكومية، وتحت وطأة قيمه الأخلاقية العليا المشروطة بحفاظه على نظافة كفّه؛ آثر متابعة المسيرة المكتسبة بدوره لإطعام وتعليم أولاده، وإعانة والديه. صديقي المسافر نجح في المهمة، وأخذ يساعد إخوانه النبلاء الحاملين الصفات الأخلاقية الحميدة المكتسبة ذاتها، المتعلمين تعليمًا عاليًا، العالقين في مطحنة الوطن، ويعينهم على صعوبات الحياة. صديقي وأبوه وإخوانه وأبناؤهم، يدركون ويقرّون بأن سورية أغنى من كل جهات السفر، لم يعيشوا في صندوق مغلق، لقد رأوا العالم كيف يتقدم، بماذا يتطور، اختبروا أسباب نهوضه، ويعلمون أن بلدهم أعرق من خلجان البحار السبعة، بقي أن أقول إنهم كلهم… شبّيحة الآن. صديقي رصاصة في مخزن ذخيرة كبير.

– مسدّس أخرس.

تمثال جِبس حبيس وسط زحام الحياة وحسب، حتى بعد أن أصبح صنمًا داخل سياج حديقة عامة، لو تمعّنتَ في عتمة عينيه الفارغتين؛ فسترى بصمة اليقين الذي ملأها، موجودة حتى اللحظة، سترى داخل كتلته الصماء الرمادية الباهتة رجفان سطوح قلبه الكلسي المكعّب الصلد، سترى محاولات نبض.

من أعطاه ذاك اليقين الشائه، من أعانه على تصديق المستحيل؟

نضَبَ زفير البلاد نهائيًا، فقط شهيق الرعب المستمر بلا توقف صدى السؤال المختمر المنتفخ الفائض على جهاتها الأربعة. ضجيج حضور الحقيقة المنسيّة أيقظ البداهة من جديد، بالأحرى ظهّر الجواب المُقتطع من شريط المحاكمة العقلية الأولية، بعد أن شارف على اليقين بحتمية مغلوطة، فعاد محاولًا الاستقامة كما ينبغي.

التقط العقل أنفاسه أخيرًا، لا خالد ولا بطّيخ، مات مثل كل البسطاء والعابرين. ومع ذلك بقي صدى بعيد لمرض يتردد: كيف سنكمل باقي حياتنا بلا دكتاتور؟!

هل مشهد الاغتيال هذا مكتمل على هذا النحو؟! لا، الحقيقة أن العقول الشجاعة التي استطاعت الحفاظ على يقينها، بعيدًا من التشوهات والأصوات المطالبة بالبديهيات وتصحيح اليقين الشائه، صرخت قبل 2011 بكثير، وربما لم تتوقف أصلًا وبقيت مستمرة، و(عدد سجناء الرأي في سورية منذ 1970، خير دليل على ذلك). معظم تلك الأصوات بنت يقينها على أسس واقعية عقلانية، مستندة إلى المنطق.

– نزيف.

لماذا لا يرى الأمر كما أراه؟! كيف يختلط عليهم كل هذا الوضوح؟! كيف عادت تشوّهات اليقين للظهور من جديد؟ هذه الاستفهامات، ومثيلاتها وما يدور في فلكها، لم تكن أسئلة! إنها أجوبة نزيف منطق عام معتلّ بالبطش، لم يشف بعد.

استحالة الكمال، النقص الحتمي في كل الأشياء، القصور الطبيعي عن المطلق، يمنح العقل الناقد بالفطرة -مهما بلغت صحته أو تدنّت- القدرة والحق ربما، (بالإذن من ابن رشد) على نقد الفكرة أو الفعل أو الحدث، متسللًا عبر هذا النقص أو القصور الطبيعي، للتدليل على وجهة النظر المضادة، ولدعم صحة موقفه. عمومًا هذا ما يحدث حيال محاكمة أي فكرة على الإطلاق، من هذا الخرق –مبدئيًا- يستطيع العقل إثبات الفكرة أو نقضها في الوقت ذاته.

تقول الفلسفة أستاذة علوم الدنيا: إن القضايا اليقينية، أولى المحاكمات العقلية الصحيحة، ثلاثة أنواع: البديهيات أي الأفكار الواضحة بذاتها التي لا تحتاج إلى برهان. والتجريبيات وهي كل حقيقة تصلنا بالتجربة والخبرة. والحسّيات وهي كل ظاهرة تُدرك بعمل حواسنا السليمة.

إذًا، ما الذي يجعل من حق الحياة الكريمة قضية خلافية حد القتل؟! أين تكمن التناقضات العقلية في قضية الحريات الإنسانية الأساسية؟! هل كان النقص والقصور ضمن الحدود الطبيعية في الحدث السوري القاتل؟!

هل تنطبق تلك المحاكمات العقلية الأولية، على حالة الواقع الاجتماعي الأخلاقي السياسي السوري؟!

هل خضع هذا التقييم واستند أساسًا إلى المحاكمة العقلية فعلًا!؟

يؤكد التاريخ أن التغيير السياسي الاجتماعي بالعموم تضطلع به القلة، إنه فعل القلة داخل المجتمع، بمعزل عن نجاح أو فشل تلك التجارب. وبمعزل عن شكل هذه التجربة ومسار تطوراتها التي تفرضه بالغالب، مجموعة الظروف الموضوعية التي تحيط بها.

تبقى الثورة فعل الحماقة الجليل، ويبقى الخوف من التغيير كتلك الرصاصة العمياء المتسرعة المنطلقة من فوهة مسدس مكتوم الصوت، تشوه المحاكمة العقلية الأولية، تمسخ اليقين، تعيد إحياء أصنام الطغاة، وتعيد تشييد ممالك الصمت عرّابة المذلّة والهوان.

يستطيع البطش والتعسف تغيير بديهيات العقل، تجيير التجارب، وتهشيم الحواس. التخويف والبطش سلاح أمضى من القتل، فالخطاب الحسي المبني على استنهاض الغرائز الاجتماعية بطش، التجويع بطش، الإحباط بطش، تزوير التاريخ بطش، تفاهة المناهج المدرسية بطش، وسائل النقل الرديئة بطش، الطابور في دائرة حكومية بطش، قسائم المازوت بطش، سوء الإنترنت بطش، الوساطة والمحسوبية بطش، انقطاع التيار الكهربائي بطش، تصحير الأرض بطش، تصحير الثقافة بطش، تصحير السياسة بطش، النادي الرياضي الواحد بطش، النادي السينمائي الموجّه بطش، إغلاق دور البغاء بطش، النشيد الواحد بطش، العلم الواحد بطش، الحزب الواحد بطش، احتكار المستوردات بطش، تلميع الأسماء التافهة بطش، دفن الآثار التاريخية بطش، سرقتها بطش، تعويم لهجة محددة بطش، فرض لغة وحيدة بطش، نزيف الأسئلة السخيّ هذا بطش.

من سيذود عن هذا “الوطن” البطش، غير المغلوبين على ذلّهم؟ مرضى اليقين المشوه، ضحايا نقص البداهة المكتسبة.

لو مات الدكتاتور الذي كان خالدًا بعد لحظات من الآن! من سيملأ هذا الرعب بعده بالصمت، غير صديقي الجبان الجميل، الذي أكل البطش بداهته الأولى.


جهاد عبيد


المصدر
جيرون