الثقافة الأميركية



في يوم من الأيام، كانت اللغة مانعًا والثقافة حصنًا، تسلَّحت بهما الشعوب للوقوف في وجه ما أصطلح على تسميته “الغزو الثقافي الغربي” الذي يعدُّ أداةً لفرض سيطرة الغرب ثقافيًا في كل زاوية من العالم. وطوال الوقت، كان يُنظر إلى الكلام عن ممانعةٍ لـ “الثقافة الأميركية”، على أنه ضربٌ من ضروب العزلة، واختيارٌ قبِلَهُ مجتمعٌ ما للبقاء بعيدًا من “الثقافة”، تلك القيمة لا يمكن أن ينجح أي مجتمع، يريد أن يكون له مكانٌ تحت الشمس، إلا إذا اكتسبها. غير أن الأمر يتطلَّب النظر في مصطلح “الثقافة” هذا، وهو المتغير والمتبدل دومًا، وذو الأبعاد الإشكالية، الذي أَوْلاه مُنظِّر السياسة الخارجية الأميركية زبغنيو بريجنسكي أهمِّيةً خاصةً، حين تحدَّث عن تقدير قيمة “السيطرة الثقافية”.

ليس حاجز اللغة محض ذلك الاختلاف بين الشعبين: الأميركي والعربي، أو الأميركي وأي شعب آخر؛ إنه ذلك الشيء الذي لا يمكن لمعرفة لغة الآخر، أن تجعلك قريبًا منه أو أن تفهمه، على أقلِّ تقديرٍ. إنه الاختلاف بالقيم والاهتمامات وأسلوب الحياة التي تجعل الأمر مغايرًا، علاوة على طرائق تشكل الوعي التي تتدخل فيها عوامل ملموسة وأخرى غير ملموسة، يتعذر أن تكون متشابهة أو يوجد بينها رابطٌ، مهما كان حجم هذا الرَّابط.

لا بدَّ أن الحاجز ذاك قد انخفض، مع تراجع مناعة اللغة العربية، ودخول كلمات أجنبية إليها، علاوة على انتفاء الحاجة إلى اللغة، عند استهلاك المنتجات الأميركية، ومنها الثقافة بشكلها المعاصر.

في العودة إلى مصطلح “ثقافة”، وفي البحث في جذر الكلمة والتحولات التي طرأت عليها، وتطوراتها التي تجد تِبعًا لتطور المجتمعات الإنسانية، وحيث لا يمكننا أن نزيد على ما قيل فيه، أو أن نطمح إلى فعل ذلك، لا نحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لندرك أنه مصطلح دائم التغير والإدراك. تغيُّره وإدراكه معتمد على الظرف التاريخي وتطور المفاهيم لدى البشرية، ولا أدلّ على ذلك التغيُّر سوى معرفة أن المعنى الأولي لكلمة ثقافة Culture في اللغة الإنكليزية، كان الفلاحة؛ أي حراثة الأرض والاعتناء بزرعها، ثم تطوَّرَ إلى أن أصبح يُطلق على نشاطاتٍ إنسانيةٍ، من قَبيل الأدب والشعر والموسيقى والدراما وغيرها.

أما في مجتمعنا فقد لازم معنى الثقافة ومقوماتها، المعنى المتعارف عليه هذه الأيام. وهي الثقافة التي استراح العرب واستكانوا، للمقولة التي صكَّتها نُخَبُهم الثقافية والسياسية، المقولة السعيدة المطمئنة إلى أن الثقافة ستبقى صمَّام الأمان وحصْن الشعوب العربية، في وجه النظام العالمي الجديد وغزوه الثقافي. استكانةٌ لم تستمر سوى فترةٍ قصيرةٍ؛ إذ إن هنالك من نقض هذه المقولة، بالقول بترهلها وعدم إمكانيتها الصمود في وجه الغزو، وهنالك من أيَّد هذا القول بالتأكيد على أنها في حالة دفاعٍ، كما حال الذات العربية، وما اللجوء إلى الأفكار الماضوية سوى الدليل على ترهل هذه الثقافة.

كما أن تلك المقولة لم تصمد طويلًا حتى جاءت مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها، موقع (فيسبوك)، حيث جعلت ثقافتنا على المحك، أو ربما صدَّعتها بانتظار انهدامها. فهذه المواقع، الأميركية النشأة، سرعان ما اجتاحت الحدود، وتغلغلت في لاوعي الشعوب، وأدخلت إليه أسلوب الحياة الأميركي، ثم سلبتها إرادتها، حتى أصبح يمكننا القول إنها بدأت تتحكم بأفعالنا. لقد تفوقت على أدوات الدعاية الأميركية التقليدية التي كانت تتجلى بالأفلام والمسلسلات والمطبوعات والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، علاوة على المحتوى الأميركي، الأكثر ثراء، على شبكة الإنترنيت العالمية. تلك الأدوات، قال بريجنسكي عنها، في كتابه (رقعة الشطرنج الكبرى) الذي صدر بالإنكليزية سنة 1997، إنها أدواتٌ لدعم السيطرة الثقافية التي يجب تقديرها حق قدرها، من أجل زيادة نفوذ بلاده التي اكتشف أنها لا تمتلك استراتيجية واضحة. لقد تحقَّق لبريجنسكي حلمه بالسيطرة الثقافية عبر المواقع المذكورة، بل لم يكن يحلم أن أداوت كهذه، يمكن أن تصبح عاملًا أساسيًّا من عوامل النفوذ العالمي الأميركي، عبر تقبُّل الجميع لها. لكن ليت تلك الثقافة كانت، بما تعنيه وما تتضمنه من آداب وفنون، حيث إننا إذا أردنا ترجمة الكلمة، تبعًا لما تتضمنه وتعكسه، يمكننا أن نسمِّيها “أسلوب الحياة الأميركية”، وليس “الثقافة الأميركية”. ومع ذلك، تقبَّل الجميع هذا الأسلوب، إما طائعين أو مُستلبي الإرادة، لا قدرة لهم على رفضه، وإن رفضوه، فهم يفعلون ذلك افتراضيًّا، وعلى تلك الصفحات الزرقاء ذاتها، بينما يتجنَّبون فعله على أرض الواقع، عبر أي شكل من أشكال الاحتجاج التقليدية.

لقد أوصلتنا تلك المواقع إلى درجة استلاب الإرادة، وليست المظاهرات الافتراضية على (فيسبوك)، أو المساهمة في وصول أحد “الهاشتاغات” إلى أعلى مستوى تداولٍ، سوى إحدى تجليات هذا الاستلاب. ويساهم الجميع في تلك المظاهرات الفيسبوكية، احتجاجًا على مجازر جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويوصلون “الهاشتاغ” الذي يتحدث عن جريمة أحد الأنظمة القمعية إلى أعلى مستويات التداول. ويُسعد الجميع بإنجازهم، بل يُقرَّع ويُلام من تخلَّف عن التَّطوُّع والاشتراك في تلك “الغزوات”، ثم يطفئون أجهزتهم الإلكترونية، وينامون على إنجازٍ كبيرٍ، ليصبحوا على حصيلة تعادل الصفر، هي الواقع الذي ليس كما كانوا يأملون. لكن، وللأمانة، لقد شعروا براحة الضمير، فقد فعلوا أكثر من واجبهم، وربما يمكن تصنيف عملهم جهادًا لنصرة الحق، يستحقون عليه الثواب عند ربهم، ولكن كل ذلك جرى في عالم افتراضي، مقارب لعالم الحلم، عالم الوهم، ولا شيء آخر.

هل أصبح (فيسبوك) يسيِّرنا ويتحكم بنا كما يشاء؟ طبعًا. وكيف لا؟ حبيبتك التي كانت زميلتك على مقعد الدراسة، والتي خسرْتَها لأنكَ طلبتَ منها صورتَها، ها هي الآن تعرض صورها، طائعةً، على (فيسبوك) بمختلف الوضعيات الجسمانية وفي أنواع الثياب والتسريحات المختلف. إنها تبثُّ، مباشرة، وقائع الاحتفال بعيد ميلادها، كما تعرض القبلة التي يطبعها زوجها على خدها بمناسبة عيد زواجهما. لقد قرَأَتْ طَلَبَ إدارة (فيسبوك) من مستخدميه تزويدها بصورهم العارية، لكي تتحقَّق منها إن وقع ابتزازٌ على صفحاته، عبر صورةٍ مركَّبةٍ لهم، بواسطة برامج تعديل الصور!

لا ندري إن كان بريجنسكي علم أن الفضاء الافتراضي الأزرق الذي أوجدته مواقع التواصل الاجتماعي، قد حقق أمنياته، فبمساعدته، تصبح منعة الشعوب أقل، وتتآكل ثقافاتها، وتتخلخل لغاتها ويصيب الوهن فكرها، وتصبح التربة خصبةً تتجذر فيها ثقافة الأميركي، ومع الأيام، يصير النَّبْتُ شجرًا، يظلِّل الغزاة الذين سيعبرون لكي يسكنوا مستقبلنا.


مالك ونوس


المصدر
جيرون