الدولة ليست أمّنا ولا أبانا



يطرح أستاذ الفلسفة في إحدى المدارس الفرنسية سؤالًا على طلاب البكالوريا، ويتلخص السؤال في ما هي جدوى بقاء الدولة؟ وهل الدولة ضرورية في وقتنا الحالي؟ وتأتي إجابات الطلاب التي أتيح لي الاطلاع على بعضها مفاجئةً جدًا، إذ يُجمع أكثر من نصفهم تقريبًا، على أن الدولة حين لا تقوم بواجبها، وحين تصبح دولة الشخص، فلا جدوى من بقائها، وعلى المجتمع، أو الطبقة المفكرة فيه، أن تبحث عن بدائل تناسب التطور الكبير الذي طرأ على المجتمعات. المقصود بدولة الشخص هنا هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يرى طيفٌ واسعٌ من اليسار الفرنسي أنه يسعى ليصير ديكتاتورًا، وبخاصة وهو يسعى جاهدًا ليكون ظلًا أوروبيًا للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولا يتوقف الأمر عند غالبية الشارع الفرنسي على ما يرتكبه الرئيس الحالي من أخطاء، قد تُعرّض فرنسا لخطر الانجراف إلى جملة واسعة من الأزمات، ليتطور الأمر لاحقًا وقد يؤدي إلى انفجار لا تُحمد عقباه، لكن الرأي السائد هو أن سنوات حكم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي شكلت البداية الحقيقية لانهيار الدولة الفرنسية، وقد أكمل الرئيس السابق فرانسوا هولاند الكارثة، وها هو ماكرون يتمّ ما بدأاه، ويُحاكم الفرنسيون الرئيسَين السابقين على أنهما لم يقدّما شيئًا يُذكر للجمهورية، بل إن مرحلتيهما الرئاسيتين مرتا وكأنهما لم تكونا، كما رأى كريستوف باربيه صاحب كتاب “رئيسان بلا فائدة”.

طبعًا، هذا الكلام قد يظهر صادمًا للبعض، لكن ما يهمنا هو الآتي، فلو حملنا سؤال أستاذ الفلسفة نفسه، وطرحناه على مجموعة من المثقفين والكتاب والسياسيين موالين ومعارضين في منطقتنا العربية؛ لكانت الإجابات مفجعة، فإضافة إلى الرفض المطلق لمثل هذا السؤال جملة وتفصيلًا، فإننا سنعثر في ثنايا الإجابات على اقتراحات من مثل أن إصلاح الدولة ومؤسساتها سيقودنا بالضرورة إلى التطور المأمول، وقد حدث هذا الأمر حين انبرى عشرات المعارضين السوريين ليدافعوا عن مؤسسات الدولة السورية ومن ضمنها المؤسسة الأمنية، معتبرين أن تلك المؤسسات هي ملك للشعب السوري، وليست ملكًا للنظام، مع أنهم يعلمون، قبل أي أحد آخر، أن ذلك الكلام ليس صحيحًا، وأن الشعب السوري لا يمتلك أي شيء من تلك الدولة، اللهم، إلا ظلام معتقلاتها، لكننا لن نصل إلى إجابة واحدة تقول بضرورة إنهاء هذه الدولة واستحداث نموذج جديد، يكون أقله مناسبًا للحالة التي وصلت إليها سورية، بعد هذه السنوات الطويلة من التمزق. وللطرفة فإن كثيرًا من مؤسسات المعارضة تميل إلى التطرف في إصرارها على استخدام التسمية المعروفة “الجمهورية العربية السورية”، وهي لا تقبل مناقشة هذا الأمر، وترى أن المساس بهذه التسمية هو مؤامرة كبرى تهدف إلى تمزيق الكيان السوري، وكأن الكيان السوري ليس ممزقًا أصلًا.

وقد حدث الأمر نفسه، إبّان الثورة المصرية (ثورة يناير) وفي أعقابها؛ إذ تمكّنت من إجبار الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك على التنحي عن الحكم، لكنّ فكرة الحفاظ على مؤسسات الدولة كانت واحدة من أكبر أخطائها، لأن الجيش، وهو أكبر مؤسسات الدولة المصرية سابقًا وحاليًا، استطاع أن يقبض على الثورة متلبّسة، ويزج بها في معتقلاته لتعيد “الدولة المصرية العميقة” إنتاج نفسها بأدواتها السابقة، بصورة أكثر توحشًا وهيمنة، وخاصة بعد أن أوهمت جمهور العامة أن مؤسسات الدولة شيء ونظام الحكم شيء آخر، فاستطاعت بعد ذلك القضاء على المعارضين، بالطريقة التي باتت معروفة والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.

لكننا لن نمضي في الحديث مطولًا عن الحالة السورية، فهي حالة تمتلك خصوصية على ما يبدو، وهي نموذج متفرد بذاته، فالدولة الأمنية هي التي تهيمن على كل شيء، بدءًا بالحزب الحاكم، وصولًا إلى أصغر مجلس بلدي في ناحية نائية في الشمال الشرقي، لذلك فإن المطالبة بالحفاظ على “الدولة ومؤسساتها” هي مطالبة ساذجة، أو أنها جبانة ولا تمتلك الجرأة لقول هذه الحقيقة.

لكن ما قد يستوقفنا، في ما يمكن أن نحصل عليه من إجابات -طبعًا في حال قيامنا بطرح السؤال أصلًا- إجابةٌ من نوع أن “الدولة هي أمّنا”، هكذا حرفيًا، وهي إجابة فخ، لا تحمل أي قيمة سياسية أو معرفية، لكنها بالمقابل تحمل قيمة عاطفية كبرى، فقولنا إن الدولة هي “أمّ”، يقودنا إلى التعامل معها بطريقة مختلفة تمامًا، وسوف ننساق على مدى عقود من خلال سرديات أدبية وملاحم شعرية، ترسم هذه الصورة الرومانسية للدولة، وتنسينا عملها الأصلي، فالدولة هي مؤسسات وقوانين وأنظمة، تعمل لخدمة المواطن، فأين نحن من هذه الفكرة؟ وهل حقًا ينبغي الحفاظ على دولنا الفاشلة أم أنّ علينا التفكير في حلول تبقي على ما قد تبقى منا؟

أخيرًا، في مشهد طريف بثته إحدى القنوات الفضائية، يهاجم أحد أعضاء مجلس الشعب السوري التابع لنظام دمشق، المعارضين الرافضين لسلطة الأسد، يقول ذلك “النائب”: هؤلاء أولاد عاقّون، خانوا الحليب الذي أرضعتهم إياه سورية. أي حليب وأي شوكولاته يا رعاك الله!!


ثائر الزعزوع


المصدر
جيرون