on
هل ستكون سوتشي نتيجة منطقية لأستانا؟
لم تكن موقعة أستانا، يومًا، موقعةً لخفض التصعيد والقتل في سورية، كما يدعي إعلام الدول المسماة الضامنة لها، بل كانت موقعة لتحقيق غرضين، لا ثالث لهما:
الأول تجميد جبهات القتال ومحاوره، والاستفراد بمنطقة دون الأخرى، وحسم معركتها بنتيجة واحدة وواحدة فقط، هي تهجير سكانها وفرض شروط العمل العسكري عليها، مع قليل من “بهارات” المصالحة والضمانات الواهية، من خلال ملفّي المساعدات الإنسانية والمعتقلين، لكنهما -على أهميتهما القصوى لتلك المناطق- كانا وما زالا ورقة ضغط كبيرة، لا تقلّ أهمية عن الحرب والقنابل والقصف الجوي.
أما الغرض الثاني، فالتمهيد لجولات عمل سياسية تلغي مفاعيل (جنيف 1)، وخاصة تلك المتعلقة بتشكيل هيئة حكم انتقالي برعاية أممية، بما تتضمنه من مرحلة انتقالية ودستور وعقد اجتماعي جديد، إلى العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب، وتحويل الملف السوري إلى طرقٍ معبدة بعجلة العمل العسكري الدبلوماسي الروسية القادرة على فرض شروط نصرها العسكري، وتحويله رويدًا رويدًا إلى حلٍّ يعترف به المجتمع الدولي، يضمن لها مكاسبها ومصالحها الجيوسياسية من حربٍ طالت، على خلاف توقعاتها الأولى، من أربعة أشهر إلى ثلاثين شهرًا، لليوم.
منذ بداية العام 2017، وبعد تهجير سكان مدينة حلب الشرقية، وتحويلها إلى كارثة إنسانية وعسكرية تشبه ما حدث لغروزني، العاصمة الشيشانية ذات يوم، سعت روسيا لعقد مؤتمرات ما سمّي حينئذ بـ “خفض التصعيد” في أستانا، العاصمة الكازاخستانية، لتتكرر بعدها، كما توقعنا، سلسلة من “الأستانات” المتتالية يأتي كل منها، بعد عمل عسكري مكثف في منطقة سورية، واستكمال تهجير تلك المنطقة من أهاليها وسكانها، وفرض شروط العمل العسكري عليها، وها هي اليوم تبلغ ذروتها في تأمين دمشق، والخط الواصل بينها وبين الساحل السوري، باستكمال تفريغ ريف دمشق الشرقي في الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي منه، مرورًا بريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي؛ لتصبح خارطة العمل العسكري مكتملة من دمشق إلى الساحل بلا خطوط تماس داخلية فيها، وانكفاء المعارضة السورية إلى منطقتي إدلب وريف حلب الشمالي شمالًا، ودرعا والقنيطرة جنوبًا، تمامًا كما حددته خطة مركز (راند) للدراسات الأميركية عام 2015، في ما سمي وقتئذ “خطة سلام للحل السوري”.
يذهب كثيرون من محللي السياسة إلى أن خطوات التفاوض القائمة في أستانا ضرورة سياسية وإنسانية معًا، تحت شعار “الواقعية السياسية”، في عدم القدرة على مواجهة المد الروسي العسكري المدعوم بميليشيات المحور الإيراني وملحقاته، مع تراجع في المواقف التركية والخليجية في دعم فصائل المعارضة. هذا إضافة إلى حجم الضغط العسكري الروسي، وإصراره على أخذ منطقة بعينها؛ ما يجعل الحالة المدنية والإنسانية كارثية فيها، تستلزم الذهاب إلى أستانا للحل المؤقت فيها. وإلى اليوم، عقدت تسع جولات منها، كانت نتيجتها ترسيم خارطة جيوبولتيكية واضحة المعالم، تعتبر خطوات نصر عسكري لروسيا حصرًا، في تحصين مواقعها داخل سورية، سواء أكان هذا بعمل منفرد منها أم بنتيجة اتفاق كيري – لافروف، صيف 2015، والذي اعتبر التفاهم الأكبر حول مخرجات دراسة مركز (راند) المشار إليها أعلاه، وتبقى حصة اللاعبَين الإيراني والتركي مشروطة بمدى تفاهم الروس والأميركيين عليها.
ربما من الممكن تبرير الواقعية السياسية هذه من بوابة وحيدة فقط، هي كارثية الحرب على واقع السوريين في موقعٍ ما، من قصف وتدمير وقتل، لكنها أبدًا لم تكن بالواقعية السياسية التي مفادها الإقرار بمعطيات الواقع والبحث في ممكناته، بعيدًا من الرغبات والأهواء التي تكتنف العمل السياسي لليوم. فمعظم المنخرطين في العمل السياسي إلى اليوم يحملون تحليلاتهم وقراءاتهم السياسية، بما تمليه عليهم رغباتهم في رؤية الواقع ومآلاته، وحين تصطدم بالواقع المختلف عنها؛ تتحول إلى آلية تبريرية محض، بدلًا من النقد والبحث في البدائل الممكنة، هي النزعة التبريرية ذاتها التي قادت أحمد طعمة الخضر إلى قوله، في ختام جولة (أستانا 9)، إن المعارضة لا يمكنها أن تكون بديلًا عن النظام القائم، وكأن المطلوب، أو المرغوب فيه، كان أن يحل نظام مكان نظام، نظام عسكري سياسي مكان نظام أمني عسكري بامتياز، لا ثورة تحمل روائز التحرر المجتمعي، وانفتاح إمكاناته، وتحميلها لمضامين عمل سياسية ومدنية وثقافية متكاملة، تستهدف التغيير أولًا في مفهوم السلطة البديل لمفهوم الدولة ومحمولاتها السياسية والقانونية والاجتماعية. وهي النزعة التبريرية والرغبوية ذاتها في رؤية ما قاله رئيس الوفد المفاوض ذاته “الخضر” من أنه رأى تغيرًا ملموسًا لدى الروس في رغبتهم بالضغط على موقف النظام، من مسألة التفاوض والوصول إلى حل يرضي الشعب السوري، كما تضمّنته مخرجات بيان هذه الموقعة، وكما في كل مرة بحلّة من البهارات الزائدة عن حد المذاق الوطني الممكن. جملة من الشعارات باتت مبتذلة بعد هذه السلسلة من التذريرية والتبريرية الفاقعة: وحدة سورية، والحفاظ على استقلالها وهويتها الوطنية، وضمان وصول المساعدات الإنسانية وغيرها، وكأن الروس أو الإيرانيين أو الأتراك في موسم اصطياف سياحي، في الربوة والغوطة وربوع الساحل السوري، لا قوى عسكرية تدير الملف السياسي والعسكري، بحسب مصالحها.
وتحت ذلك الشعار من التبريرية المسماة زروًا واقعية، تخرج توصيات (أستانا 9) بضرورة الاسترشاد بقرار مجلس الأمن 2254/ 2015، وبمخرجات “الحوار الوطني” الناجمة عن سوتشي بداية هذا العام، سوتشي التي كانت مرفوضة، دوليًا وسياسيًا وثوريًا، أن تكون بديلًا عن جنيف، كانت وقتئذ محطة انتظار في المطار، ووقفة احتجاج ساخرة لممثل وفد المعارضة اليوم في أستانا والأمس في سوتشي، ويظنها المراقبون اليوم مقبولة كلية من وجهة نظره. وتغيب عن ذهنه وفكره الممكنات والبدائل السياسية القابعة في التناقض ما بين مشروعين: أميركي من جانب وروسي من جانب آخر، وأن اتفاقهما ممكن على ضرورة زحزحة المواقع الإيرانية من داخل سورية، إن لم يكن كليًا فجزئيًا، وأن مصلحة المعارضة السورية هي العمل على تناقض المشروعين، بقدر اتفاقهما في هذه النقطة، والتوجه باتجاه المبادرات الأوروبية التي تحاول أن تكون حلقة وسط بين كليهما، وهذا ما تترقبه الأطراف المتنازعة، داخل سورية وعليها، تجنبًا لحدوث صدام مباشر بينهما.
رغبوية بعض ممثلي المعارضة السياسية باتت أشبه بلعبة تديرها أكثر من يد، وكلٌّ يضع شروطه فيها ويبني لها جسورًا من أوهام، وإلى اليوم هي النزعة الفوضوية ذاتها التي تقدم كل المبررات للتفريط بحقوق السوريين في المحافل الدولية، فبدلًا من تمسكها بمخرجات (جنيف 1)، مهما كانت النتائج، خاصة بعد عملية التفريغ المنهجية للداخل السوري كآخر الخطوط الحمر غير المسموح بمساسها، تذهب تلك النزعة التبريرية إلى إعادة تكرار السؤال ذاته الذي أجاب عنه آينشتاين يومًا: “لا يمكن حل مشكلة بالأدوات التي أوجدَتها”، لتبقى سوتشي -وفق هذا- نتيجة منطقية لأستانا ومخرجاتها التبريرية إلى اليوم.
جمال الشوفي
المصدر
جيرون