البنية الطبقية وديناميات التقدم الاجتماعي من منظور فلسفي



لا يمكن أن يكون تصنيف الناس في تراتبيات معينة (طبقات)، وفق معايير كمية ونوعية تختلف زمكانيًا بغرض توصيف البنية الاجتماعية-الاقتصادية فحسب، إنما ظهرت نظرية الطبقات وتطورت من الناحية الفلسفية، في سياق تحليل ديناميات التقدم الاجتماعي، لتجنب التصادم الحاد بين طبقات المجتمع. وبخلاف نظرية الطبقات الماركسية التي تقرأ التاريخ على أنه صراع بين طبقتين اجتماعيتين، يحددهما معيار ملكية وسائل الإنتاج في إطار لوحتها الخماسية للمجتمع البشري منذ فجر التاريخ (المشاعية بدون طبقات، الأسياد والعبيد، الإقطاع والأقنان، البرجوازية والبروليتاريا، الشيوعية بدون طبقات)، فإن نظرية الطبقات البرجوازية التبريرية تقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات: (غنية ومتوسطة وفقيرة)، وفقًا لمعيار الثروة أو الدخل أو التعليم أو الصحة أو الغذاء أو الثقافة أو الصلات الاجتماعية، وتحلل ديناميات التقدم الاجتماعي بواسطة الحراك الداخلي في البنية الطبقية والدور التوازني للطبقة المتوسطة، في منع حدوث التصادم بين الطبقتين الفقيرة والغنية، لكن لا أحد يولد في طبقة معينة، والفروقات الناتجة عن الثروة أو الدخل أو التعليم… تنشأ فقط من خلال خبرة الفرد وقدرته على المبادرة. وهذه الخبرة صيرورة دينامية تتحدد بمستوى الوعي الفردي، وتتحدد على نطاق طبقة اجتماعية معينة بالوعي الجمعي.

أزعم أن كل الدراسات العربية المتعلقة بالبنية الاجتماعية، أو بكل طبقة على حدة، لم تخرج قيد أنملة عن سياق المنهج الماركسي الثوري أو عن سياق المنهج البرجوازي التبريري، وكلاهما يقوم على مفهوم المركزية الأوروبية بعيد انفصال الدولة عن الكنيسة، وبالتالي لم تراعِ هذه الدراسات خصوصية البيئات المولدة لبنياتها الاجتماعية، في ظروف مختلفة تمامًا عن ظروف نشوء المركزية الأوروبية. وأخطر الخلاصات التي تتوصل إليها هذه الدراسات ضعف ديناميات التغيير المؤدية إلى تقدم اجتماعي نوعي ناجم عن غياب الحامل الاجتماعي للتغيير، إما لتصدع الطبقة المتوسطة، أو تشوه طبقة البروليتاريا، أو تعسر ولادة طبقة برجوازية صناعية.

ثمة مشكلتان أساسيتان في تلك الدراسات، جوهرهما فلسفي بحت: الأولى مرتبطة بالوعي الجمعي على مستوى البنية الاجتماعية كلها، أو على مستوى كل طبقة من طبقاتها، والثانية وهي نتيجة للأولى تتمثل بسوء فهم تركيبة البنية الاجتماعية ذاتها وتركيبة كل طبقة فيها، أدّتا بالمحصلة إلى التباس واضح حول إمكانات تحريك ديناميات التقدم الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص إمكانية حدوث تغيير نوعي، في الوعي الجمعي وفي بنية المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ينهي وضعية الاستعصاء التاريخي، وفي الوقت نفسه ينتج سيرورات جديدة للتقدم الاجتماعي دينامية ومتميزة. ولا بد من التحذير هنا من مغبة الوقوع في ما أسميه (خداع المتوسطات)، سواء بالنسبة إلى مفهوم الطبقة المتوسطة أو بالنسبة إلى المعايير التي تحددها، وهو خداع يشبه إلى حد بعيد (خداع النقود) يبني الفرد على أساسه قدرته الشرائية مع كل زيادة في دخله النقدي، دون الانتباه إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى دخله الحقيقي.

لم تتمكن أي من النظريتين من أن تكون نظرية عامة في البنيات الطبقية، ولا حتى نظرية خاصة بالمركزية الأوروبية بجناحيها الأطلسي والهادي. لقد وردت النظرية الثلاثية في معرض الرد على الثنائية الماركسية التي فشلت في تفسير منطقي للبنية الطبقية وديناميات التقدم الاجتماعي في المجتمع الأوروبي الحديث، حيث لم تتوسع الطبقة العاملة على حساب الطبقات الوسطى التي يفقرها نمو الصناعة -كما تدعي الماركسية- ولم تتحول إلى طبقة وحيدة تطيح بالطبقة البرجوازية، وتبني مجتمعًا شيوعيًا بلا طبقات، يلغي التناقض بين الطابع الاجتماعي للعمل والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج عبر دكتاتورية بروليتارية تحل محل الديمقراطية التمثيلية. وفي المقلب الآخر، لم تتمكن النظرية التبريرية من تفسير انتماء الغالبية العظمى، من أبناء المجتمع الغربي الحديث، إلى الطبقة المتوسطة وفق المعايير التي تتبناها في تعريف الطبقة المتوسطة -بوجود اختلافات نسبية بين دولة وأخرى في معايير الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- مع أقلية قليلة تنتمي إلى الطبقة الغنية، وإن كانت تستحوذ على جزء مهم من الدخل القومي وأقلية قليلة تنتمي إلى الطبقة الفقيرة، وتعيش على حد الكفاف، ومعظم أفرادها من المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين الذين يسكنون أطراف المدن، ولا يرغبون في الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، لما يحملونه على كواهلهم من موروثات مجتمعاتهم القديمة الدينية والاجتماعية والثقافية.. إن ما يفسر هذه الحالة -وفق المعايير ذاتها- هو قدرة النظام الرأسمالي على تجديد ذاته عبر ديناميات ثورية، لكن ليس في البنية الطبقية إنما في العلم والتكنولوجيا والمعرفة والاتصالات والمعلومات والبنيات المؤسسية والتي تتوزع ثمارها على جميع أفراد ومكونات المجتمع عبر أشكال مختلفة للضمانات الاجتماعية وعدالة التوزيع وإعادة التوزيع وتطوير أشكال مختلفة للملكية الخاصة ذات طابع اجتماعي (الشركات المساهمة)، وبعضها يتكون من مساهمات المجتمع المدني الذي تحوّل إلى شريك فعال للحكومات وللقطاع الخاص في إطار الحوكمة والشفافية، إلى جانب قبول دور اقتصادي للدولة من أجل ضبط آليات السوق، وتنشيط الطلب الفعال لمواجهة القدرات المتزايدة للرأسمالية، بثوبها المتجدد دائمًا، في إنتاج السلع والخدمات، من حيث الكم والنوع، لإشباع الحاجات المتزايدة للمجتمع.

من الواضح أن مفهوم العمل ومفهوم رأس المال تطورا عمّا كانا عليه في القرن التاسع عشر. فالعمل صار يعتمد أكثر على قدرات الفرد ومهاراته ومعارفه (رأس المال البشري)، ورأس المال صار أكثر ويتطبع بالطابع الاجتماعي، وبالتالي لم يعد تقسيم المجتمع الغربي المعاصر إلى طبقتين (بمعيار واحد هو شكل الملكية)، أو ثلاث طبقات (بمعايير عيش أو رفاهية متعددة) يعكس بدقة بنيته الطبقية التي تساعد في فهم ديناميات تقدمه الاجتماعي. ويكون هذا أشد وضوحًا في البلدان المتخلفة من خارج المركزية الأوربية، قبل وبعد تطورها الديمقراطي.

إن سورية جزء من منطقة تمتد من أفغانستان شرقًا حتى المملكة المغربية غربًا، تتميز بنيتها الطبقية ببصمة جيواجتماعية شبيهة إلى حد بعيد ببصمتها الجيولوجية المتشكلة من ثلاثة فوالق زلزالية. وهذه البصمة الجيواجتماعية (السلطة، الدين، القبيلة) تشكل بالمعنى السياسي – الاجتماعي فالقًا زلزاليًا واحدًا، لا تمنع الجغرافيا أي اهتزاز فيه، في أي مكان، من تحرك أو اهتزاز القشرة الجيواجتماعية، في أماكن أخرى نتيجة تشابه بنياته ومشكلاته وصراعاته، مع ما يصاحبها من تشققات واهتراءات بنيوية، تؤدي إلى انزياحات في القشرة الطبقية على جانبي الفالق، في الظاهر تبدو على حساب ما يسمى الطبقة المتوسطة، ولكنها فعليًا تبدو في البنية الطبقية كلها، مع تشققات في الوعي الجمعي فكرية وسياسية، تبلغ درجة الغلو في الصراعات الداخلية والبينية بلبوس دينية تستند إلى أفهام مذهبية ملتبسة وإلى خلافات ماضوية لا معنى لها. وتحت القشرة تتمظهر تشققات البنية الطبقية، من حيث الاصطفاف الاجتماعي – الاقتصادي ومن حيث وعي ذواتها، بصورة طاقة محبوسة تحت القشرة، وكل شق في البنية له اهتراؤه، ويشكل صفيحة مجتمعية دينية أو سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية تتموضع في الفالق كحصن منيع، لكنه شديد الهشاشة، يطلق بين الحين والآخر طاقة محبوسة على شكل اندفاعات ثورية إما انتقالية أو دورانية أو كلاهما. من جانب آخر لا تزال تختلط العلاقات الأهلية بالعلاقات المدنية، فالقبيلة تحظى باحترام أفراد المجتمع وحرصهم القوي للانتماء إليها، مع النظر بعين الريبة والحذر إلى مكونات المجتمع المدني؛ ما يقود في أحيان كثيرة إلى طغيان العلاقات التقليدية على علاقة الفرد بالمجتمع، تنمي لديه نزعة عدائية تجاه العلاقات الحديثة التي تنمو ببطء شديد، في ظل تراجع دور الدولة عن تحديث المجتمع وغياب أي دور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني. كل ذلك يفسر -من وجهة نظري- بدرجة عالية، حالةَ تشظي الوعي الجمعي حيال ديناميات التقدم الاجتماعي، سواء بالفعل الثوري أو التراكمي، في كل دول الفالق، تدفعها، في الأعم الأغلب، إلى النكوص بفعل التشوه البنيوي والاهتراء الداخلي وضغوط العوامل الخارجية، التي تعجز طبيعة ديناميات البنية الطبقية عن مواجهتها، على الرغم من الحاجة الملحة إلى مثل هذه الديناميات للخروج من حالة الاستعصاء التاريخي.

إذن، من منظور فلسفي، يمكن القول إن البنية الاجتماعية في دول الفالق الإسلامي لا تتكون من طبقية ثنائية أو ثلاثية واضحة المعالم تعينها معايير محددة، إنما تتكون من مجموعة صفائح تتجاور على طول وعرض الفالق، كرقعة الشطرنج تتحدد بشكل وبمستوى وعيها الجمعي لذواتها وبالمسافة بينها وبين السلطة والموروث الديني والتقليدي. وأما الانزياحات التي تحدث فيما بينها فهي لا تنجم عن تغير المعايير الكمية في الثروة أو الدخل أو تغيّر المعايير النوعية في التعليم والصحة والغذاء ونوعية الوظائف أو شكل الملكية، إنما تنجم عن تغير شكل ومستوى وعيها لذواتها، بمقتضى تغير مصالحها في سياق ديناميات التقدم الاجتماعي، معه أو ضده. وبالتالي أعرّف الصفيحة على أنها مجموعة من الأفراد تتحدد طبقيًا على أساس وعيها الجمعي تجاه مصلحة مشتركة معينة، فتجد ضمن الصفيحة الواحدة أفرادًا ينتمون، وفق الثنائية الماركسية أو الثلاثية التبريرية، إلى كل الطبقات حيث الغني والفقير والمتوسط والعامل والبرجوازي كلهم ينتمون بالوعي وبالمصلحة إلى صفيحة واحدة تمتد طوليًا من ذروة الهرم الاجتماعي حتى قاعه. وفي هذه الحالة، فإن الأفراد والصفائح هي متغيرات تابعة لتغير كل من الوعي الجمعي والمصالح المشتركة. وفي الوقت ذاته يتوقف التقدم الاجتماعي الكلي على ديناميات التغير التي ينتجها العقل الفلسفي، في كل من البنية الطبقية والوعي الجمعي ومستوى إخلاصه لهذا التقدم. ومن دون هذا العقل الفلسفي؛ لا يمكن إنتاج الفكر، الذي ينتج الوعي الجمعي اللازم لإنتاج قوة مادية طبقية تنتج دينامية مجتمعية تعكس الفكر ووعيه الجمعي، في إطار سيرورة جدلية للتقدم الاجتماعي، سواء أكانت ثورية أم تراكمية، لأنها وقتئذ تؤدي وظيفة تاريخية حتمية، تتقدم أو تتأخر ارتباطًا بنضوج الوعي الجمعي وإعلاء شأو المصلحة المشتركة كقيمة عامة.


مهيب صالحة


المصدر
جيرون