سورية والانتخابات العراقية



بالإضافة إلى العوامل التاريخية والجغرافية التي تربط بين سورية والعراق، أضيف عامل سياسي، منذ بداية ستينيات القرن الماضي، كان من المفترض أن يقرّب أكثر بين البلدين ويوحدهما تحت راية حزب البعث العربي الاشتراكي، كمقدمة لتوحيد بلدان الوطن العربي، وذلك استنادًا إلى أهداف هذا الحزب، باعتبار أن الوحدة العربية هي “الهدف الأسمى”، حسب منطلقاته النظرية.

كان حزب البعث مؤمنًا بفكرة الوحدة العربية لدرجة الشغف، وقبل وصوله إلى الحكم، قبِل بحلّ نفسه ليلبي الشرط المصري من أجل إعلان الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، بما يُعتبر تضحية من أجل حلم الوحدة. لكن، عوضًا من أن يقترب البلدان أحدهم من الآخر تحت حكم حزب البعث، بعد ثورتي 8 آذار/ مارس في سورية و8 شباط/ فبراير في العراق 1963، حدث شقاق مرير بين النظامين البعثيين، وانعكس تباعدًا قسريًا بين شعبي البلدين، لدرجة أن جواز السفر السوري كان يُكتب عليه، في أواخر السبعينيات، بخط اليد: “جميع دول العالم ما عدا العراق”.

تغيّرت أولويات حزب البعث بعد وصوله إلى الحكم في سورية، فأصبح الهدف الأساس هو تثبيت أركان الحكم “التقدمي”، حتى هزيمة حزيران اعتُبرت حدثًا عابرًا، طالما أنها لم تُسقط النظام، فضلًا عن تبلور تيارين متصارعين على السلطة وغلبة أحدهما على الآخر عام 1970، بما سمي بالحركة التصحيحية، ليتم بناء نظام دكتاتوري فردي أضحى ناجزًا في النصف الثاني من السبعينيات، وتحول حزب البعث ذاته إلى أحد الملحقات المنوط بها منح الشرعية الشعبية للنظام الشمولي ذي الطابع الأمني. أما النموذج الدكتاتوري الذي نما على تربة البعث العراقي، فقد اكتمل بعد تسلُّم صدام حسين مقاليد السلطة عام 1979، منذئذٍ، ماتت الحياة السياسية في كلا البلدين، وتمثّل الفرق في الدرجة فقط، وتغولت فيهما السلطة على المجتمعين الأهلي والمدني ومؤسسات الدولة.

لم ينته الشقاق “السوري – العراقي” إلا بسقوط نظام صدام حسين، بفعل القوة الأميركية عام 2003، وكان النظام السوري قد ساند إيران الإسلامية ضد العراق البعثي، في أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، وشارك في التحالف الدولي ضد العراق، بعد احتلال الأخير للكويت عام 1989. بدوره، دعم النظام العراقي تنظيم “الإخوان المسلمين”، نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، في سعيهم لإسقاط النظام السوري. وحتى بعض لحظات الانفراج في العلاقة بين النظامين، كما في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وقيام جبهة الصمود والتصدي بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى تل أبيب (1977)، وتوقيع اتفاقية (كامب ديفيد) للسلام بين مصر و”إسرائيل” (1978)، كانت قد انتهت إلى حالة العداء السابقة أو زادت من حدّتها.

الهدف الثاني لحزب البعث بعد الوحدة هو الحرية، وقد غابت من التداول السياسي، لتعارضها المطلق مع النظامين الشموليين في سورية والعراق، وفي ظل شعار الحرية، غاب التعبير عن الرأي الحر تمامًا، حتى إن المطالبة بالحرية في سورية، بعد الثورة، أحدثت ضربًا من الهستيريا في أوساط النظام وأجهزته. كما اضمحل الهدف الثالث لحزب البعث: الاشتراكية، تدريجيًا، وانقلب إلى احتكارٍ للثروة الاجتماعية من قبل قلة متنفّذة، ولم تعد تُسمع أهداف البعث: الوحدة والحرية والاشتراكية، إلا عبر أصوات التلامذة في ساحات المدارس الرسمية، وفي مستهل الاجتماعات الحزبية.

التشابه بين النظامين البعثيين في سورية والعراق يمتد إلى المآلات المأسوية أيضًا، فليس مصادفةً أن يلحق بالمجتمعين السوري والعراقي مثل هذا الدمار الناجم عن إسقاط النظام العراقي من الخارج أو الثورة على النظام السوري في الداخل، فكلا النظامين لا يعرف التراجع والتكيف مع المتغيرات، إلا إذا خدمت ديمومته، وفي الحالتين يكون التدخل الخارجي والعنف نتيجة منطقية لانسداد آفاق التغيير والخضوع للاستحقاقات التاريخية.

وفي الشأن العراقي الحالي، ترك الانسحاب الأميركي (2011) وضعًا هشًا في العراق؛ بسبب التسلط الإيراني عبر حكومة المالكي، فضلًا عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الأميركان في إدارة هذا البلد بعد احتلاله عام 2003، والتدخلات الإقليمية التي سهّلت مرور الجهاديين إليه؛ ما ترك استياء بين الكثير من العراقيين ومهّد الأجواء لسيطرة (داعش) على مناطق واسعة من العراق عام 2014.

وفي الوقت الذي تمر فيه سورية بالمراحل الأخيرة من الصراع الدولي على النفوذ، قطع العراقيون شوطًا لا بأس به على طريق الاستقرار السياسي بعد الانتخابات الأخيرة التي تم فيها، إلى حد معقول، تجاوز المحاصصة الطائفية عبر تحالفات انتخابية، بانتظار تبلور ائتلاف سياسي لتشكيل الحكومة، حيث سيكون لمجموعة تحالف (سائرون) بزعامة مقتدى الصدر، الفائز الأول في الانتخابات، دور مهم في تشكيله.

لم يكن فوز تحالف (سائرون)، الذي يضم شيعة عربًا وليبراليين وشيوعيين، مصادفةً، فقد قاد التيار الصدري تظاهرات شعبية في العاصمة بغداد ومدن أخرى ضد الفساد الحكومي والنفوذ الأجنبي في العراق، في السنوات القليلة الماضية؛ ما أبرز أيضًا الدور الوطني للسيد مقتدى الصدر في هذه المرحلة من تاريخ العراق.

وفي حال نجح تحالف مجموعة (سائرون)، مع مجموعة (النصر) بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي، في تشكيل حكومة موسعة، وهذا أمر مرجَّح؛ فسيعود القرار إلى العراقيين بدرجة كبيرة، وهذا لن يريح الأميركيين، بسبب دور الصدر في مقاومة الاحتلال الأميركي للعراق، وسيزعج الإيرانيين ويحدّ من نفوذهم، وهم الذين أرسلوا قائد لواء القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، إلى العراق فور إعلان النتائج الأولية للانتخابات، في محاولة للتأثير على تشكيل الحكومة ودعم تحالف موالي لإيران يستند إلى مجموعة الفتح (الحشد الشعبي) ومجموعة المالكي.

يمكن للسوريين الاستفادة من الحالة العراقية في المرحلة الانتقالية، من أجل اختصار الطريق والانطلاق من النقطة التي وصل إليها العراقيون في هذه المرحلة، وذلك تجنّبًا للمحاصصات الطائفية والقومية والتخبط السياسي غير المجدي، والانتقال مباشرة إلى تحالفات سياسية انتخابية متنافسة، نسبية التمثيل، يمكن للمواطن الاختيار بين برامجها بصورة معقولة. الطريق إلى هذه المرحلة تنتظر خطواتٍ تأسيسية مهمة، لعل أبرزها عملية وضع الدستور، الذي من المفترض أن يشكل المفوض الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، اللجنة التي ستقوم بإعداده.


منير شحود


المصدر
جيرون