في الحضيض.. بين خشبة مسرح الحمرا وقبة مجلس الشعب



في مسرحية نالت شهرة واسعة، أسهب الكاتب الصربي برانيسلاف نوشيتش، في الحديث عن البرلمان والانتخابات البرلمانية، بشكل ساخر. وقدّم نصًا أضاف إليه المخرج السوري أيمن زيدان، في المسرحية التي يعرضها على خشبة مسرح الحمرا بالعاصمة دمشق، بعنوان (فابريكا)، إسقاطات عامة تناولت الحالة السورية الراهنة، التي تميزت منذ صعود البعث إلى السلطة، واحتكاره للحياة السياسية، بمجالس نيابية من لون واحد، وبرامج خلبية، وبيانات لا أرضية فعلية لها، ضمن فضاء مغلق، يتحكم فيه الجهاز الرئاسي وأجهزة المخابرات العامة.

يقع مسرح الحمرا ضمن المركز الحيوي وسط العاصمة، ويبعد من “مجلس الشعب السوري” الذي دمّره الفرنسيون عام 1945 بعد مجزرة مروعة، قتلوا فيها العشرات من أفراد حاميته ردًا على استعصاء أعضائه وتمردهم على الاحتلال، مسافة قصيرة قد لا تتجاوز، على مستوى النظر، كيلومترًا واحدًا.

في الاستدلال، لا يختلف الدور الوظيفي الذي يمارسه مجلس الشعب اليوم، عن الدور المناط بمسرح الحمرا؛ فبعد أن كان البرلمان السوري نموذجًا معبّرًا عن الديمقراطية والحريات السياسية، في فترة ما بعد الاستقلال، أو فترة الصعود الوطني؛ تحول في زمن الأسدين، الأب والابن، إلى (فابريكا) تخضع لمعايير حافظ النظام عليها، طوال نصف قرن، عززها بثقافة مكيافيلية عطلت دوره الحقيقي، كما أثرت في وعي المجتمع لطبيعة أدائه، ومهام ممثل الشعب، ووظيفته بشكل عام.

إن القراءة المحايدة، لأداء مؤسسةٍ طالما عرَّفتها قوانين العالم ودساتيره بالمؤسسة التشريعية، تكشف عمق الفجوة التي تفصلها عن وظيفتها الفعلية، بعد أن تحولت من مؤسسة رقابية تتابع أداء السلطة التنفيذية، إلى مسرح محلي، يتحرك نجومه بطريقة أقرب إلى حركة أبطال مسرح الظل، حيث ترتبط الحركة على الدوام، بخيوط تتلاعب بها أصابع من الأعلى، على غرار أداء نواب، في مسرح لم يعرف تحت حكم البعث، غير أسلوب رفع اليد بالموافقة، والتصفيق الجماعي، والإطراء على إنجازات تؤهل سيد الوطن -وفق نائب- ليكون سيّد العالم أجمع.

في موقف لافت، استقال أحد الأعضاء، قبل أسابيع، احتجاجًا على الفساد الذي استشرى داخل جسم الدولة. وأشار في كتاب استقالته، إلى فساد حزب البعث في محافظته: الرقة، حيث تمارس لجان الحزب المحسوبية، والعنصرية “كذا” في تدخلاتها الإدارية؛ ما أدى إلى ظهور حالات فساد، قدّرها بملياري ليرة، دخلت جيوب بعض أعضائها بصورة غير مشروعة.

في خاصية نظامٍ يهيمن على كل شيء، وبرلمان ينطق بلسانه، كان على أعضاء جوقة المجلس أن يقودوا حملة موجهة، في أغرب موقف، ضد زميل لهم، احتج على الفساد، وقدّم عليه أدلة واقعية، محددة. وبدلًا من أن يدقق نواب الشعب في الوقائع المدرجة، كجزء من عمليات فساد أكبر، يقود حلقتها الرئيسية رجال الأسد؛ تم اختصار القضية، بشكلانيتها، حيث ركز الأعضاء على الجانب الإجرائي للاستقالة، ومدى قانونيتها، ووصفهم طريقتها بـ “المستفزة”.

في الواقع، لم تكن المليارات الضائعة، أو المليارات التي زادت من عدد قطط البعث وقطط النظام العائلي السمان، وحالت مع مليارات أخرى مدرجة على قوائم الفساد، دون وصول رغيف الخبز الطازج ولقمة الطعام الكريمة إلى أفواه الجوعى، قضيةً ذات معنى. وكان من الواضح أن الذين فازوا بعضوية البرلمان، عبر قوائم البعث أو ما أطلق عليها “قوائم الجبهة الوطنية”، ويمثلون نظام الأسد أكثر من تمثيلهم لمجتمعاتهم المحلية، مجرد أدوات جرى اختيارها بطريقة بدأها الأب، وواصلها الوريث الابن، عملت على إنتاج ثقافة سياسية مضادة، قوضت الوعي الجماعي، وجمّلت الوجه القبيح لديكتاتورية، مستبدة، تحكم البلاد بقوة المدفع والدبابة.

تشير النهايات إلى أن الفساد، في البرلمان الصوري، لا يختلف عن الفساد الذي يضرب أجهزة الدولة. في كلتا الحالتين، يمثل الفساد أحد مخرجات حكم أقلوي، طائفي، أطاح شفافية العمل السياسي والبرلماني، ووضع مكانها مفاهيم سلطوية، غيبت قيم المساواة والعدالة، وفتحت الباب على مصراعيه، أمام فساد شامل طال السياسة والاقتصاد والإدارة والمجتمع، في آن معًا.

على خشبة مسرح الحمرا، يجري تأويل الفساد النيابي، بصورة أدبية. لكن الوقائع الراهنة، تؤكد أن فساد نظام الأسد، قد أضر واقعيًا بكل شيء. لقد أجهز على البلاد من قبل أن تجهز الحرب عليها، كما حوّلها إلى دولة فاشلة، على مؤشرات الفساد وبيئة الأعمال والشفافية والحريات والرفاهية المجتمعية. دولة تتربع في الحضيض.


علاء كيلاني


المصدر
جيرون