on
من “هذه البصلة سنية” إلى “السنة طيبين متلنا” (2)
محمد
شهاداتمقالات بارزة من "هذه البصلة سنية" إلى "السنة طيبين متلنا" (2)
حين تذوقت جدتي البصل الذي تسبّب في نزول دموعي بسبب حدّة وشدة طعمه الحار، صرخت هي أيضا، وقالت "أوف.. هذه البصلة سنية". وحين لم أفهم معنى كلامها، أوضحت: "هذه البصلة حدّة وحرّة مثل السنة"، وحين لم أفهم بسبب صغر سني (عشر سنوات) تململت من الشرح وقالت: "بس تصير كبير بتعرف لحالك".
24 مايو 2018
لوحة من تصميم كوميك لأجل سورية، وهي صمّمت خصيصا لهذه المادة/ خاص حكاية ما انحكت محمد ديبورئيس تحرير موقع حكاية ما انحكت (النسخة العربية). باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها.
(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)
حين تذوقت جدتي طعم البصل الذي تسبّب في نزول دموعي بسبب حدّة وشدة طعمه الحار، صرخت هي أيضا، وقالت "أوف.. هذه البصلة سنية". وحين لم أفهم معنى كلامها، أوضحت: "هذه البصلة حدّة وحرّة مثل السنة"، وحين لم أفهم بسبب صغر سني (عشر سنوات) تململت من الشرح وقالت: "بس تصير كبير بتعرف لحالك".
وفعلا حين كبرت عرفت، لكن ليس لوحدي تماما، بل بفعل الكلام المتناثر هنا وهناك في فضاء القرية وفي فضاءات الجلسات المغلقة ذات اللون الواحد، حيث يكون الحديث فيها عن الآخر الطائفي والإثني حاضرا بحرية، فيما يختفي هذا الحديث عند حضور الغرباء، إذ يمتلأ هذا الفضاء بأقوال وأمثال من نوع "تعشى عند السني ونام عند المسيحي"، بمعنى أن السني أكله نظيف وقريب من أكلنا ولكن لا يؤمن جانبه للنوم عنده، في حين أن المسيحي أكله غير نظيف لأنه يأكل الأرنب والخنزير، وهي محرمة عند المسلمين والعلويين، في حين يؤمن جانبه للنوم عنده لأنه لا يقتلك في حين أنه يمكن للسني أن يفعل ذلك وفق الاعتقاد السائد، إضافة إلى عبارات من نوع: "عدو جدك ما بيودك" و"بحياتن ما حبونا ليحبونا هلا"، و"إذا سقط الحكم ليرجعونا على الجبال وليصير الدم للركب"، وتنسب العبارة الأخيرة في الفضاء الشعبي لكتاب الجفر لعلي بن أبي طالب باعتبارها تنبؤ عن المستقبل القاتم القادم، إذ يخاف قسم من العلويين أن تستعاد سيرتهم مع الهجرة والهرب والتخفي، إذ تتناقل الذاكرة جيلا بعد جيل مرويات عن ابن تيمية والعثمانيين (السنة) الذين حلّلوا قتل العلويين وهجّروهم من المدن إلى الجبال.. تعاش هذه الذاكرة كأنها حاضرة، فهي ترمى في سياق الحديث اليومي، وكأنه أمر حصل في الأمس القريب لا الماضي البعيد. ودائما تتبع تلك المأثورات بحوادث ليس معروفا صحتها من كذبها، أن فلانا نام عند عائلة من السنة وفي الليل قتلوه و...
في فضاء القرية التي ترعرعت بها، كان شتم عمر بن الخطاب وأبي بكر وعثمان أمرا شائعا جدا، إلى درجة أن أطفال القرية يتعلمون تلك المسبات دون أن يدركوا أو يعرفوا معناها تماما، إذ تسمع ببساطة طفلا يقول لآخر: "الله يلعنك وجهك بيقطع الرزق متل وجه عمر وأبو بكر". وهناك نكتة كانت تروى في القرية، تقول أن أحد رجال الدين سأل شابا معروفا بلسانه السليط عن رأيه بأبي بكر وعمر وعثمان، في إحدى الجلسات الدينية التي تعتبر مقدسة، فقال: "إيري وإير كل شي موجود بهي الحضرة بقوط (كس) أمهاتهم". نكتة كهذه تروى بشكل طبيعي، وبشكل دائم ليضحك الحاضرون على إيقاعها ثم يتابعون نحو نكتة أخرى وكأن شيئا لم يكن، وذلك في سياق حديث عام، أي ليس بالضروة أن يكون حديث الجلسة مخصصا للطائفية أو غيرها، إنما ضمن سياق حوار شعبي عام، إذ تأتي تلك النكتة أو هذه العبارة ضمن الحديث بشكل طبيعي ليتم الانتقال إلى موضوع آخر.
التحرر في الوعي لا معنى له إن لم يقرن عبر التحرر بالتجربة التي وحدها المعبر نحو تحرر حقيقي، يكشف زيف أو صدق ما في الرأس
لم يقتصر الأمر على السنة فقط، فحين يحضر ذكر الإسماعيلين، تسمع عبارة "سمعولي" بشكل طبيعي في فضاء الحديث مترافقة مع تعبيرات مشمئزة على وجه قائلها كدلالة على الاحتقار والكره المضمر لهذه الطائفة التي لا يتورع بعضهم عن القول أنهم أشد عداءا "لنا" من السنة، مع وجود اعتقاد لدى البعض بأنهم يعبدون فرج الأنثى، مع وجود مرويات شعبية تقول بأن الإسماعيليين حين يموت أحدهم تجلسه المرأة بين فخذيها، وتقول: "شيخ مسعود يا شيخ مسعود منك طلعنا وعليك منعود".
ثمة نكتة تروى، وهي أن شيخا علويا اتصل في الهاتف ليعزم رجل دين علوي إلى حضور العيد الذي لا يسمح لأحد من غير العلويين بحضوره، وبعد اتصاله رد عليه الطرف الآخر، فبادر للقول قبل أن يرد الطرف الآخر: " يا أخي الشيخ ابراهيم بيشرفنا نعزمك على العيد يوم الجمعة عنا بالبيت"، فرد الطرف المقابل: "غلطان بالرقم يا عمي هون ضيعة...(ذكر اسم ضيعة معروفة بأن سكانها اسماعيليون)، ثم أغلق الخط. أعاد الشيخ الاتصال مرة أخرى، وكالعادة قبل أن يرد الطرف الأخر قال له:
- احذر شو صار معي من شوي؟
- ماذا؟
- كنت عم دق لأعزمك على العيد، قمت دقيت لها العكاريت السمعولية
- والله يا عمي بعدك عم تحكي معن!
كان الشيخ دون أن ينتبه قد أعاد الاتصال إلى الرقم السابق نفسه. وهذه النكتة مزدوجة الدلالة، فهي تشير إلى جهل الشيخ العلوي باستخدام التكنولوجيا وإلى كره العلويين للإسماعيليين.
طبعا تحضر الطوائف والأقوام الأخرى في الحديث الشفوي العام، عبر عبارات كثيرة نذكر منها: "العمى شو يهودي"، وهي تقال حين يقوم شخص بفعل شائن جدا، أو عبارة "العمى شو كردي" للدلالة على عناد شخص ما. إلا أن شيطنة السنة والإسماعيلين تبقى الأبرز والأكثر حضورا إذا ما قورنت بالآخرين.
عبارة "العمى شو يهودي" تقال حين يقوم شخص بفعل شائن جدا، في حين أنّ عبارة "العمى شو كردي" تقال للدلالة على عناد شخص ما. إلا أن شيطنة السنة والإسماعيلين تبقى الأبرز والأكثر حضورا إذا ما قورنت بالآخرين.
يتوزاى مع هذه الثقافة الشفوية السائدة سلوك عدم الاختلاط مع الطوائف الأخرى ومعاشرتهم إلا في حدود ضيقة، فمثلا يندر أن يتم إقامة علاقات اجتماعية مع أناس من طوائف أخرى (إلا فيما ندر)، حتى لمن يسكنون المدن ويختلطون بشكل يومي مع الطوائف والأقوام الأخرى في السوق والعمل، ناهيك عن كون أنّ الزواج غير محبّب، دون أن يمنع ذلك حدوث زيجات هنا وهناك، إذ ينبذ من يقوم بهذا الفعل، في حي يكون النبذ للفتاة التي تتزوج شابا من طائفة أخرى أشد من نبذ الشاب، مع ملاحظة أن الأمر عند العلويين لا يصل إلى مرحلة القتل حين تتزوج فتاة ما شابا من طائفة أخرى كما هو الأمر حاصل عند بعض الطوائف والأقوام الأخرى، وربما يعود الأمر للنظرة الدونية التي تنظرها الديانة العلوية للمرأة بشكل عام، فالمرأة أدنى من الرجل في المرتبة وهي لا تتعلم الدين السري للعلويين.
الاحتكاك مع الأخر
عاملان أساسيان ساعدا في تفتّحي المبكر وخروجي من الطائفية وهذه النظرة الشعبية للطوائف والأقوام الأخرى، الأول، باعتبار أن والدي كان يساريا فقد ترك في المنزل بعض الكتب "الحمراء" التي انتبهت إليها مبكرا والتي كانت مدخلي إلى القراءة التي وسعت وعيي ومداركي. والثاني أني كنت الذكر الوحيد بين ست بنات (5أخوات وأمي) بعد وفاة أبي، وكون المرأة لا تتعلم الدين فقد كانت هذه الثقافة الشفوية التي تم ذكرها أعلاه غائبة عن فضاء منزلنا، ولم أحتك بها إلا في صباي بعد أن بدأت أختلط أكثر في فضاء القرية التي غادرتها مبكرا أيضا للدراسة الجامعية في دمشق.
ولهذا كنت أسعى دائما لكسر هذه الحدود والاختلاط مع الآخرين من كل الطوائف، وهو ما كان يستدعي استنكار أصدقائي من الطائفة، خاصة حين آتي بهم إلى المنزل في دمشق، إذ كان الأمر مستهجنا بالنسبة لهم، رغم أن قسما كبيرا منهم ولد في دمشق واختلط مبكرا بالطوائف والأقوام الأخرى في المدارس والأحياء التي يقطن بها، لكن لم تكن تتعدى علاقاتهم السلام على بعضهم البعض وطبعا كان هناك استثناءات، ولكن السائد العام كان هكذا. وكان أكثر ما يوتر أصدقائي العلويين أن الصديق السني هو من قرية الحولة في حمص وهي قرية قريبة لقرية الربيعة العلوية، وبين هاتين القريتين عداء وكره قديم ودائم، كما كان يقول لي أصدقائي من الطائفة دون أن أعرف صحة هذا الكلام من خطأه.
ورغم سعيي الدائم لكسر الجدران وتخيّلي أني قد تحررت من هذا الموروث، فقد حدثت معي في سن العشرين في دمشق حادثة لا زالت محفورة في وعيي، إذ دعوت صديقي في الجامعة إلى منزلي وسهرنا معا، وحين أراد العودة متأخرا إلى منزله طلبت منه النوم عندي، وكانت هذه أول مرة ينام فيها أحد من طائفة أخرى معي في نفس المنزل.
حين وضعت رأسي على المخدة، لم أستطع النوم آنذاك، تفاجأت بأني لست مرتاحا وأن ثمة قلقا وخوفا ما في داخلي، إذ فجأة برزت في رأسي كل المرويات التي سمعتها هنا وهناك، وقضيت الليل بكوابيس أستيقظ منها لأنظر إلى صديقي أحمد النائم بجانبي بسلام. في الصباح شربنا القهوة وأنا خجل من نفسي وتفكيري وخوفي، ولكن كانت هذه الحادثة ضرورية لي للخروج من ميراث الطائفة والقوميات إلى الأبد، إذ اكتشفت حينها كذب الشفوي المروي وقدرة الإنساني فينا على تجاوز كل شيء، مع تأكدي أن التحرر في الوعي لا معنى له إن لم يقرن عبر التحرر بالتجربة التي وحدها المعبر نحو تحرر حقيقي، يكشف زيف أو صدق ما في الرأس، إذ تعلمت من تلك الحادثة أيضا، أن ما نظنّ أننا متحررون منه قد لا يكون كذلك، وأن ما نظنه لا يؤثر فينا وأننا ننبذه وأن ما سمعناه في الطفولة يوما، قد يكون كامنا في مكان في أعماق النفس البشرية ودهاليزها، وقد ينتظر لحظة مناسبة للتعبير عن نفسه، وهنا تكون التجربة وحدها المطهر والمعبر نحو مكان آخر، وهذا ما أثبتته التجربة مع جدتي أيضا.
اضطرت جدتي إلى دخول مشفى ابن النفيس في دمشق لإجراء عمل جراحي. وفي الغرقة التي بقيت بها أسبوعا بعد العملية، كان هناك سيدة سنية محجبة ومعها ابنتها كمرافقة وكنت مرافقا لجدتي. في اليوم الأول كان الحذر متبادلا بين جدتي والسيدة والأخرى، يتبادلان أقل الكلام في حين كنت أنا وابنتها نتحادث ونطلب من بعضنا الاهتمام بهما وتقديم ما يلزم لهما حين يضطر أحدنا للذهاب لعمل ضروري. في اليوم الثاني بدأت جدتي والسيدة الأخرى تتجاذبان أطراف الحديث، وحين تمكنتا من النهوض والمشي في اليوم الثالث وبعده صار حديثهما أكثر، وباتت كل منهما تقدم للأخرى تفاحة أو تساعدها في أمر ما.
في نهاية الأسبوع، خرجت السيدة الأخرى من المشفى، فكان أن نظرت جدتي إليّ وقالت: يا ابني ليش بتعلمونا هيك؟ وحين بدا على وجهي أني لا أفهم ما ترمي إليه، تابعت: لي بتقلولنا أنو السنة ما بيسووا مع أنن ناس طيبين وبسيطين متلنا، ما شفت هي المرا ما أطيبا هي وبنتا!
شارك المقالة مقالات متعلقة عندما لا يكون يزيد شريراً أو خيّراً! (1) عمر قدور بعد تلك الحادثة، لا بسببها طبعاً، سأحصل على هوية مزورة باسم عمار، قيد النفوس: طرطوس، إذ مَنْ من شبيحة الأسد سيخطر له أن يكون ابن طرطوس مطلوباً للمخابرات! هذه الهوية... الثقافة الشفوية والهوية في سورية (ملف) محمد ديبو كيف يتحدث العلويون عن السنة والدروز والمسيحيين داخل نطاق المشيمة العلوية، وكيف يتحدث السنة عن العلويين والدروز والمسيحيين ضمن نطاق مشيمتهم، وأيضا كيف يتحدث الأخيرون عن غيرهم؟ ونفس الأمر فيما... عبد الله عيسى، ضحية الجميع لا أبشع من جريمة ذبح الطفل إلا تصويره، ونشر مقطع الفيديو، كيف اعتُقل؟، كيف عُذب؟، ثم كيف ذُبح? سابقاً، قامت عصابات الأسد بجرائم بشعة، تتجاوز هذه الجريمة، خصوصاً في ما... الوسوم: الثورة الحرب السورية السنة الطائفية .entry-content{ text-align: justify; }(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)
حين تذوقت جدتي طعم البصل الذي تسبّب في نزول دموعي بسبب حدّة وشدة طعمه الحار، صرخت هي أيضا، وقالت "أوف.. هذه البصلة سنية". وحين لم أفهم معنى كلامها، أوضحت: "هذه البصلة حدّة وحرّة مثل السنة"، وحين لم أفهم بسبب صغر سني (عشر سنوات) تململت من الشرح وقالت: "بس تصير كبير بتعرف لحالك".
وفعلا حين كبرت عرفت، لكن ليس لوحدي تماما، بل بفعل الكلام المتناثر هنا وهناك في فضاء القرية وفي فضاءات الجلسات المغلقة ذات اللون الواحد، حيث يكون الحديث فيها عن الآخر الطائفي والإثني حاضرا بحرية، فيما يختفي هذا الحديث عند حضور الغرباء، إذ يمتلأ هذا الفضاء بأقوال وأمثال من نوع "تعشى عند السني ونام عند المسيحي"، بمعنى أن السني أكله نظيف وقريب من أكلنا ولكن لا يؤمن جانبه للنوم عنده، في حين أن المسيحي أكله غير نظيف لأنه يأكل الأرنب والخنزير، وهي محرمة عند المسلمين والعلويين، في حين يؤمن جانبه للنوم عنده لأنه لا يقتلك في حين أنه يمكن للسني أن يفعل ذلك وفق الاعتقاد السائد، إضافة إلى عبارات من نوع: "عدو جدك ما بيودك" و"بحياتن ما حبونا ليحبونا هلا"، و"إذا سقط الحكم ليرجعونا على الجبال وليصير الدم للركب"، وتنسب العبارة الأخيرة في الفضاء الشعبي لكتاب الجفر لعلي بن أبي طالب باعتبارها تنبؤ عن المستقبل القاتم القادم، إذ يخاف قسم من العلويين أن تستعاد سيرتهم مع الهجرة والهرب والتخفي، إذ تتناقل الذاكرة جيلا بعد جيل مرويات عن ابن تيمية والعثمانيين (السنة) الذين حلّلوا قتل العلويين وهجّروهم من المدن إلى الجبال.. تعاش هذه الذاكرة كأنها حاضرة، فهي ترمى في سياق الحديث اليومي، وكأنه أمر حصل في الأمس القريب لا الماضي البعيد. ودائما تتبع تلك المأثورات بحوادث ليس معروفا صحتها من كذبها، أن فلانا نام عند عائلة من السنة وفي الليل قتلوه و...
في فضاء القرية التي ترعرعت بها، كان شتم عمر بن الخطاب وأبي بكر وعثمان أمرا شائعا جدا، إلى درجة أن أطفال القرية يتعلمون تلك المسبات دون أن يدركوا أو يعرفوا معناها تماما، إذ تسمع ببساطة طفلا يقول لآخر: "الله يلعنك وجهك بيقطع الرزق متل وجه عمر وأبو بكر". وهناك نكتة كانت تروى في القرية، تقول أن أحد رجال الدين سأل شابا معروفا بلسانه السليط عن رأيه بأبي بكر وعمر وعثمان، في إحدى الجلسات الدينية التي تعتبر مقدسة، فقال: "إيري وإير كل شي موجود بهي الحضرة بقوط (كس) أمهاتهم". نكتة كهذه تروى بشكل طبيعي، وبشكل دائم ليضحك الحاضرون على إيقاعها ثم يتابعون نحو نكتة أخرى وكأن شيئا لم يكن، وذلك في سياق حديث عام، أي ليس بالضروة أن يكون حديث الجلسة مخصصا للطائفية أو غيرها، إنما ضمن سياق حوار شعبي عام، إذ تأتي تلك النكتة أو هذه العبارة ضمن الحديث بشكل طبيعي ليتم الانتقال إلى موضوع آخر.
التحرر في الوعي لا معنى له إن لم يقرن عبر التحرر بالتجربة التي وحدها المعبر نحو تحرر حقيقي، يكشف زيف أو صدق ما في الرأس
لم يقتصر الأمر على السنة فقط، فحين يحضر ذكر الإسماعيلين، تسمع عبارة "سمعولي" بشكل طبيعي في فضاء الحديث مترافقة مع تعبيرات مشمئزة على وجه قائلها كدلالة على الاحتقار والكره المضمر لهذه الطائفة التي لا يتورع بعضهم عن القول أنهم أشد عداءا "لنا" من السنة، مع وجود اعتقاد لدى البعض بأنهم يعبدون فرج الأنثى، مع وجود مرويات شعبية تقول بأن الإسماعيليين حين يموت أحدهم تجلسه المرأة بين فخذيها، وتقول: "شيخ مسعود يا شيخ مسعود منك طلعنا وعليك منعود".
ثمة نكتة تروى، وهي أن شيخا علويا اتصل في الهاتف ليعزم رجل دين علوي إلى حضور العيد الذي لا يسمح لأحد من غير العلويين بحضوره، وبعد اتصاله رد عليه الطرف الآخر، فبادر للقول قبل أن يرد الطرف الآخر: " يا أخي الشيخ ابراهيم بيشرفنا نعزمك على العيد يوم الجمعة عنا بالبيت"، فرد الطرف المقابل: "غلطان بالرقم يا عمي هون ضيعة...(ذكر اسم ضيعة معروفة بأن سكانها اسماعيليون)، ثم أغلق الخط. أعاد الشيخ الاتصال مرة أخرى، وكالعادة قبل أن يرد الطرف الأخر قال له:
- احذر شو صار معي من شوي؟
- ماذا؟
- كنت عم دق لأعزمك على العيد، قمت دقيت لها العكاريت السمعولية
- والله يا عمي بعدك عم تحكي معن!
كان الشيخ دون أن ينتبه قد أعاد الاتصال إلى الرقم السابق نفسه. وهذه النكتة مزدوجة الدلالة، فهي تشير إلى جهل الشيخ العلوي باستخدام التكنولوجيا وإلى كره العلويين للإسماعيليين.
طبعا تحضر الطوائف والأقوام الأخرى في الحديث الشفوي العام، عبر عبارات كثيرة نذكر منها: "العمى شو يهودي"، وهي تقال حين يقوم شخص بفعل شائن جدا، أو عبارة "العمى شو كردي" للدلالة على عناد شخص ما. إلا أن شيطنة السنة والإسماعيلين تبقى الأبرز والأكثر حضورا إذا ما قورنت بالآخرين.
عبارة "العمى شو يهودي" تقال حين يقوم شخص بفعل شائن جدا، في حين أنّ عبارة "العمى شو كردي" تقال للدلالة على عناد شخص ما. إلا أن شيطنة السنة والإسماعيلين تبقى الأبرز والأكثر حضورا إذا ما قورنت بالآخرين.
يتوزاى مع هذه الثقافة الشفوية السائدة سلوك عدم الاختلاط مع الطوائف الأخرى ومعاشرتهم إلا في حدود ضيقة، فمثلا يندر أن يتم إقامة علاقات اجتماعية مع أناس من طوائف أخرى (إلا فيما ندر)، حتى لمن يسكنون المدن ويختلطون بشكل يومي مع الطوائف والأقوام الأخرى في السوق والعمل، ناهيك عن كون أنّ الزواج غير محبّب، دون أن يمنع ذلك حدوث زيجات هنا وهناك، إذ ينبذ من يقوم بهذا الفعل، في حي يكون النبذ للفتاة التي تتزوج شابا من طائفة أخرى أشد من نبذ الشاب، مع ملاحظة أن الأمر عند العلويين لا يصل إلى مرحلة القتل حين تتزوج فتاة ما شابا من طائفة أخرى كما هو الأمر حاصل عند بعض الطوائف والأقوام الأخرى، وربما يعود الأمر للنظرة الدونية التي تنظرها الديانة العلوية للمرأة بشكل عام، فالمرأة أدنى من الرجل في المرتبة وهي لا تتعلم الدين السري للعلويين.
الاحتكاك مع الأخر
عاملان أساسيان ساعدا في تفتّحي المبكر وخروجي من الطائفية وهذه النظرة الشعبية للطوائف والأقوام الأخرى، الأول، باعتبار أن والدي كان يساريا فقد ترك في المنزل بعض الكتب "الحمراء" التي انتبهت إليها مبكرا والتي كانت مدخلي إلى القراءة التي وسعت وعيي ومداركي. والثاني أني كنت الذكر الوحيد بين ست بنات (5أخوات وأمي) بعد وفاة أبي، وكون المرأة لا تتعلم الدين فقد كانت هذه الثقافة الشفوية التي تم ذكرها أعلاه غائبة عن فضاء منزلنا، ولم أحتك بها إلا في صباي بعد أن بدأت أختلط أكثر في فضاء القرية التي غادرتها مبكرا أيضا للدراسة الجامعية في دمشق.
ولهذا كنت أسعى دائما لكسر هذه الحدود والاختلاط مع الآخرين من كل الطوائف، وهو ما كان يستدعي استنكار أصدقائي من الطائفة، خاصة حين آتي بهم إلى المنزل في دمشق، إذ كان الأمر مستهجنا بالنسبة لهم، رغم أن قسما كبيرا منهم ولد في دمشق واختلط مبكرا بالطوائف والأقوام الأخرى في المدارس والأحياء التي يقطن بها، لكن لم تكن تتعدى علاقاتهم السلام على بعضهم البعض وطبعا كان هناك استثناءات، ولكن السائد العام كان هكذا. وكان أكثر ما يوتر أصدقائي العلويين أن الصديق السني هو من قرية الحولة في حمص وهي قرية قريبة لقرية الربيعة العلوية، وبين هاتين القريتين عداء وكره قديم ودائم، كما كان يقول لي أصدقائي من الطائفة دون أن أعرف صحة هذا الكلام من خطأه.
ورغم سعيي الدائم لكسر الجدران وتخيّلي أني قد تحررت من هذا الموروث، فقد حدثت معي في سن العشرين في دمشق حادثة لا زالت محفورة في وعيي، إذ دعوت صديقي في الجامعة إلى منزلي وسهرنا معا، وحين أراد العودة متأخرا إلى منزله طلبت منه النوم عندي، وكانت هذه أول مرة ينام فيها أحد من طائفة أخرى معي في نفس المنزل.
حين وضعت رأسي على المخدة، لم أستطع النوم آنذاك، تفاجأت بأني لست مرتاحا وأن ثمة قلقا وخوفا ما في داخلي، إذ فجأة برزت في رأسي كل المرويات التي سمعتها هنا وهناك، وقضيت الليل بكوابيس أستيقظ منها لأنظر إلى صديقي أحمد النائم بجانبي بسلام. في الصباح شربنا القهوة وأنا خجل من نفسي وتفكيري وخوفي، ولكن كانت هذه الحادثة ضرورية لي للخروج من ميراث الطائفة والقوميات إلى الأبد، إذ اكتشفت حينها كذب الشفوي المروي وقدرة الإنساني فينا على تجاوز كل شيء، مع تأكدي أن التحرر في الوعي لا معنى له إن لم يقرن عبر التحرر بالتجربة التي وحدها المعبر نحو تحرر حقيقي، يكشف زيف أو صدق ما في الرأس، إذ تعلمت من تلك الحادثة أيضا، أن ما نظنّ أننا متحررون منه قد لا يكون كذلك، وأن ما نظنه لا يؤثر فينا وأننا ننبذه وأن ما سمعناه في الطفولة يوما، قد يكون كامنا في مكان في أعماق النفس البشرية ودهاليزها، وقد ينتظر لحظة مناسبة للتعبير عن نفسه، وهنا تكون التجربة وحدها المطهر والمعبر نحو مكان آخر، وهذا ما أثبتته التجربة مع جدتي أيضا.
اضطرت جدتي إلى دخول مشفى ابن النفيس في دمشق لإجراء عمل جراحي. وفي الغرقة التي بقيت بها أسبوعا بعد العملية، كان هناك سيدة سنية محجبة ومعها ابنتها كمرافقة وكنت مرافقا لجدتي. في اليوم الأول كان الحذر متبادلا بين جدتي والسيدة والأخرى، يتبادلان أقل الكلام في حين كنت أنا وابنتها نتحادث ونطلب من بعضنا الاهتمام بهما وتقديم ما يلزم لهما حين يضطر أحدنا للذهاب لعمل ضروري. في اليوم الثاني بدأت جدتي والسيدة الأخرى تتجاذبان أطراف الحديث، وحين تمكنتا من النهوض والمشي في اليوم الثالث وبعده صار حديثهما أكثر، وباتت كل منهما تقدم للأخرى تفاحة أو تساعدها في أمر ما.
في نهاية الأسبوع، خرجت السيدة الأخرى من المشفى، فكان أن نظرت جدتي إليّ وقالت: يا ابني ليش بتعلمونا هيك؟ وحين بدا على وجهي أني لا أفهم ما ترمي إليه، تابعت: لي بتقلولنا أنو السنة ما بيسووا مع أنن ناس طيبين وبسيطين متلنا، ما شفت هي المرا ما أطيبا هي وبنتا!
المصدر