ما بعد المذبحة



الاستبداد لو كان رجلًا، وأراد أن يحتسب وينتسب؛ لقال: “أنا الشر، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضّر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال”.

طبائع الاستبداد للكواكبي

 قد تبدو بعض مظاهر الراهن الصادمة، خارج السياق المتوقع لمسيرة (الاستبداد الوطني)، مستغربة جدًا وغير متوقعة، لكن الاستبداد لا حدّ لقسوته وبطشه وفجوره، فهو يستخدم العنف بأشكاله لإرهاب المجتمع وإذلاله وإعادة تكوينه أيضًا. معادلة الاستبداد تعتمد على أسس بسيطة داخليًا، وعلى الرغم من بساطتها، فإنها إذ تتجذر تتحول إلى مشهد مرهون بتعقيداته الخارجية.

فالاستبداد، وإن أطلّ عبر لحظة فارقة، إنما يكون نتيجة لتراكم شرطي وثقافي، وإذ يطل في بيئة شبه مهيأة، بسبب ثقافتها أو ظروفها المتقلبة، فإنه يبدأ الاشتغال على استمراره الخاص عبر أولويات متغيرة، وإن كانت في إجمالها تتعلق بإضعاف المجتمع وإفساده ورهنه لقوى خارجية قادرة على حماية الاستبداد، مقابل صفقات سياسية أو اقتصادية. لا يكون الاستبداد عسيرًا على الملاحظة عند ظهوره وتمكنه، لكن الظروف غالبًا ما تجعله يتمدد براحة في وضح المآلات.

إلا أن أهم ما يبني الاستبداد هيمنته عليه هو المبادئ، التي تستنسل منها الشعارات القاتلة، والتي يُضحى بإنسانية الإنسان وحريته وكرامته بغطاء افتخاري منها، فما من سلطة ارتكنت إلى نص مؤسس على الهيبة، سواء أكانت مقدسة (دينية) أو مثالية (فلسفية)، إلا استغرقت في الاستبداد تصاعدًا وتعقيدًا، حتى تتحول إلى سلطة لا حلّ لها سوى كسر الظهر تحت كلكلها، أو الدمار عند انفجارها وتشظيها.

ومع أن الإجابة المعرفية على السؤال الخجول حول أولوية الإنسان أم المبادئ، هي إجابة ناجزة بدون مواربة، يبدو هذا السؤال، في دول الأطراف أو المجتمعات النامية (!) أو دول الجنوب بالنسبة إلى الشمال الأوروبي، سؤالًا محرمًا إلى حد بعيد، فالتضحية بمئات الآلاف من البشر من أجل شعار أو مبدأ قد يكون مجال تباه وزعامة وبطولة، وإن كان في عمقه استبدادًا همجيًا.

فالأحزاب والحكومات التي نصبت نفسها حامية للعروبة والإسلام والحرية وفلسطين وضد الاستعمار بأشكاله، قتلت ودمّرت عشرات أضعاف وربما مئات أضعاف، ما دمّر وقتل كل (الأعداء)، إضافة إلى الفساد المنهجي الذي حوّل المجتمعات إلى بيئات عفنة منخورة ترتع فيها الأمراض القديمة والمستجدة.

يفترض في المبادئ أن تكون من أجل تحقيق إنسانية الإنسان في توصيفاتها العامة على الأقل، لكنها تتحول إلى أنشوطة فتاكة، إن لم تدمر في الإنسان إنسانيته، دمرته وأبادته. ولعل أوضح مثال عليها، تلك المتاجرة بالكادحين في ثورات اليسار القومي التي انتهت إلى أنظمة دكتاتورية ديدنها السفك والإفساد، وتلك الرأسمالية المتوحشة التي تتوشح رسالة الديمقراطية والحرية لتمتص من شعوب الأرض بقايا ما بها من رمق. وتلك الحكومات المتخمة بشعارات قومية ووطنية وتقدمية، انحطت بدولها إلى أسفل البدائية والهمجية، ونكلت بشعوبها قتلًا وتشريدًا ودمارًا.

الصورة ليست غائمة أو ملتبسة، إلا بقدر جهل العامة وخبث النخبة، فالقتل في عصر الـ (سوشيال ميديا) يجري على رؤوس الأشهاد، وإن كانت في الماضي تحظى بشيء من الالتباس الذي يثير الفضول، فإنها في عصر ترامب – بوتين وقحة وفجة ودامية بما يستدعي الإشاحة عنها.

المشاهد المنقولة على أثير حضارة اليوم منذ سنوات سبع في سورية، وما حدث في دول شتى قبلها، والتي أخيرها وليس آخرها تلك الغوطة التي منحت الحياة لدمشق وغزاتها عبر التاريخ، تموت من دون شفقة أو رثاء، هؤلاء الذين أفنوا عمرهم في سبيل خضرتها، ماتوا جوعًا وقتلًا، ومن تبقى يلقى به إلى عراء البؤس واللؤم والعقاب. أي مبدأ هذا الذي يتعالى على دمعة أمّ جريحة على أطفالها الأشلاء تحت كتل الدمار؟!

الأهم من كل هذا، أيّ أفق يتبقى في عالم يتجاهل كل هذا الدم والألم والضياع، أيّ أمل يمكن توهمه في عالم من المسوخ المعتوهين عديمي الحس، والمهرجين عديمي الإحساس، وما الزمن الذي ينتظر الناس، والاستبداد يستعيد هيمنته بصفاقة كلية وترخيص دولي ولا مبالاة من محيط تجتر فيه السوائم ما تبقى من زاد فاسد في معالفها؟

إن ما يحدث من هول في تلك الغوطة المستباحة، هو أدنى بكثير مما سيحدث في الأيام التالية، كلما استعاد الاستبداد هيمنته أكثر، وسيكون في طليعة ضحايا هذا الاستبداد الذين وجدوا في السنوات السابقة فرصة يجب انتهازها للاستئثار بفتات من مغانم القتلة والمجرمين. أو فرصة للانتقام لخرافات وأساطير اختلطت بالمظلوميات الكثيرة، فأحالتها إلى حقد تجاه الضحايا بدلًا من الجناة.

وإن كانت مبادئ الأمس أكثر عمومية وشمولًا؛ فإن المبادئ المقتصرة على المستبد ومواليه ستكون أضيق وأكثر فتكًا، لأن مجرد الاختلاف القدري أو الأرومة المحتومة أو الصبغة اللا إرادية، سيكون كل منها مسوغًا كافيًا لكل جريمة ورزيلة ترتكب.

وفي زمن المافيا السياسية الاقتصادية التي تهيمن كليًا على عالم اليوم، تتضافر أنماط الإنتاج من أجل استمرار الهولوكوست الواسع في بقاع شتى من أقصى الشرق إلى أقصى الجنوب الغربي. وإن كان المال في عمومه مدعاة للفساد؛ فإن الثروات الدامية تستثمر في خراب البشرية دون حدود.

مع هول ما نشهده، ومع كل تعبيراتنا المصدومة والمخذولة؛ بات التفكير في الخطوة التالية مدعاة للألم والرعب أكثر مما نشهده ونشاهده ونشهد عليه. فما عاد أحد يفكر في العقاب الذي سيناله مرتكبو المذبحة، إنما أصبح التفكير في شدة واتساع المذبحة التالية، فذلك المسكين الذي تحاشى كل ما يغضب المستبد وحاشيته، والذي قتل صبرًا بأيدي الجنود وعصابات الاستبداد، وربما بأيدي بعض من يشاطرونه بؤسه، لم يكن مجرد مواطن مسكين، إنما كانت جثة بلاد. وهؤلاء الأطفال المختنقون بغازات القتل، إنما هم نسائم بسيطة مقارنة بما يقبل عليه نظام الاستبداد، إذ يسيطر ثانية.


عبد الواحد علواني


المصدر
جيرون