معتقلون ناجون.. إلى حين



لم تحظ قضايا المعتقلين في السجون السورية، حتى اليوم، باهتمام يقترب، ولو قليلًا، من درجة الوحشية التي يمارسها النظام الأسدي، ضد الضحايا الذين يرزحون خلف القضبان، بسبب الموقف والرأي، وحرية التعبير. وظل التعاطي مع تلك المسألة في إطار التعاطف والتضامن مع حالات معينة، وصلت قصص أصحابها إلى الرأي العام، عبر وسائل شتى، وبشكل محدود. ذلك أن الاهتمام الجدي بها سوف يعكس، بالضرورة، حقيقة ما يقوم به السجان الأسدي من انتهاكات جسيمة، لا حدود لها. التعذيب حتى الموت، أحد أبرز سماتها، إضافة إلى الحرمان من جميع الحقوق، في ظل استمرار التغاضي العام عمّا يرتكبه من جرائم، لم تعد خافية عن أحد، وفي مقدمها المنظمات الدولية المؤثرة في الرأي العام، وكذلك صنّاع القرار في العالم. يفعل النظام ما يريد، دون أي اعتبار لأي قواعد قانونية دولية آمرة، ودون وجل من أي محاسبة محتملة.

في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من شهادات الناجين من المعتقلات الأسدية، إلى الجمهور، على شكل أعمال أدبية، أو من خلال برامج إعلامية، ومنابر ثقافية، استقطبت ولا تزال اهتمامًا متزايدًا في المجتمع السوري بخاصة. فضحت تلك الشهادات جوانب كثيرة من أساليب التعامل الهمجي المنظم ضد المعتقلين، خاصة خلال فترة التحقيق. ولكن معظم تلك الشهادات في الحقيقة تضيء على التعذيب بشكل أساسي، إضافة إلى مسألة الحرمان، وهذا لا يكفي على أهميتها القصوى. ما تزال هناك الكثير من الجوانب التي لم يتم التطرق إليها حتى اليوم، إلا لمامًا يسيرًا لا يرتقي إلى حجم المأساة التي يعيشها الضحايا.

ما يحدث في السجون والمعتقلات السورية يفوق حدود التصور. يبتدع السجان، بدعم من القانون الذي يسمح بعدم المحاسبة والمسائلة، وسائل وأساليب لممارسة القهر والإذلال. تعبر ابتكاراته عن درجة متدنيّة شديدة الانحدار في الوضاعة والخسّة، بعيدًا عن احترام أي قيم إنسانية، فضلًا عن كونها منافية للمعايير الأخلاقية. الحديث عن الأخلاق في هذا السياق لا معنى له، وإنما هو جالب للسخرية المريرة، التي غالبًا ما يقود التطرق إليها تلميحًا إلى عقوبات مذّلة لا أفق في آثارها وانعكاساتها. يبقى المعتقل في ظل الظروف القاسية رهين أمزجة السجان، فريسة للتعذيب والقلق والخوف، في مواجهة الصبر والتحدي والتمرد الداخلي على الواقع المفروض. يقضي الكثيرون تحت التعذيب، ويحتمل آخرون كثيرون مرارات وآلام ما يتعرّضون له عمدًا داخل المعتقل. ثمة من لا يستطيع الصمود فيذوب نفسيًا وجسديًا، ثم يموت. وثمة من يجد طريقة يعالج فيها نفسه، ويحميها من التفتت.. إلى حين!

“ناجٍ” من سجون ومعتقلات الأسد، هو تعبير بليغ للغاية، ودقيق في وصف الحالة. فمن يجد طريقه إلى النور هو مولود جديد، ليس عائدًا إلى الحياة فحسب. يخرج شخصية أخرى، مثقلة بالهموم والآلام، تلمّ به المشكلات الناجمة عن الحدث الذي عاشه، سواء أطالت الفترة أم قصُرت، وهي مشكلات صحية ونفسية واجتماعية. غير أن الإشكالية الأساسية التي تشغل بال الناجي من معتقلات الأسد، هي قضية العدالة، وكيف يمكن أن يقف جلاده في قوس المحكمة، متهمًا بسبب الجرائم التي ارتكبها بحق المعتقلين، بدءًا بالاتهام والاعتقال والمحاكمات غير القانونية، والإجراءات القمعية والتعسفية، والتي تخضع جميعها لقوانين خاصة، خلافًا لقواعد القانون الدولي.

يُحرم الناجي المحرر، من جميع حقوقه المدنية والسياسية، وتلك معاناة إضافية، السفر والعمل، ويبقى خاضعًا للمراقبة المستمرة، تحت تهديد الاعتقال مرة أخرى أو التصفية الجسدية، ولا تتورع أجهزة المخابرات الأسدية، عن تذكير المفرج عنه بذلك بكل وضوح بصيغة التهديد الدائم. لا يأمن الناجي من معتقلات النظام السوري على حياته وحريته وعائلته، حتى وإن التزم الصمت والحياد في الحياة العامة.

غير أن جانبًا نفسيًا يظل يرهق كاهل المعتقل السابق، يبقى أسير الزمن الصعب بكل ما مرّ به، وعايشه من ويلات قاسية، رأى الموت خلالها، وتلمّسه، وتمناه في أعز لحظات الهدوء والصفاء النفسي التي قد تتاح له، بين حفلة تعذيب وقهر، وأخرى. يظل مهمومًا بها، غير قادر على القطع نهائيًا معها، مع كل تلك الذكريات، وكل شيء حاضر معه وفيها. في اللحظة الذاتية الخاصة، يتكور المعتقل الناجي على نفسه ويعتصر ألمه، مهما كانت انطلاقته في الحياة رحبة ومريحة، وانخراطه في المجتمع ميسورًا. لا سبيل إلى النسيان!

في السنوات الأخيرة، ارتفع مؤشر عدد الذين يغادرون الحياة، بعد نجاتهم من سجون ومعتقلات الأسدية، بفترة طويلة، أو قصيرة، بسبب مرض عضال، أو وفاة مفاجئة. تلك ليست من صنيع الحياة وسيرورتها الطبيعية. ما خلفته تجربة السجن التي ترزح على صدره تخلف أمراضًا كثيرة، إضافة إلى ما يصيب المرء خلف القضبان، من انعدام أبسط مستلزمات الرعاية الطبية، وظروف الإيواء، في غياب أي شرط صحي لإقامة إنسان. يخرج المعتقل دون أن يحظى بأي رعاية صحية ونفسية واجتماعية، تساعده في التخلص مما يمكن التخلص من رواسب السجن، وتساعده في التخفيف من تأثير انعكاسات ذلك الحدث، وتعينه على المضيّ قدمًا في الحياة. لا أحد يُعنى بهذا الإنسان الذي وهب عمره من أجل الوطن، له أن يبقى منثورًا في العراء. تتحمل المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية مسؤولية أساسية في ذلك، وفي عدم تمكين الضحايا من ملاحقة جلاديهم أمام المحاكم الدولية.

كل يوم نفقد معتقلًا سابقًا جديدًا نجا من سجون الأسد… لكنها نجاة إلى حين، وستبقى كذلك، طالما أن ضحايا الأسدية لا يستطيعون الوصول إلى العدالة، وأن الجناة طلقاء، يعينهم المجتمع الدولي على ارتكاب مزيد من الجرائم بحق الإنسانية. الثورة كانت وما تزال ضرورة لمواجهة الظلم، ورفع الضيم، والانتصار للضحايا.


عبد الرحمن مطر


المصدر
جيرون