“انتهى الوقت”



أنهيتُ لقاءً سياسيًا مع صحافي متمرّس، في أستوديو محطة تلفزيونية عربية واسعة الانتشار، فشكرني كما هي العادة المعمول بها على الهواء، ومن ثم كرر الشكر بعد توقف البث بشكل مُلحّ، وأضاف مبررًا: “إنها من المرات النادرة التي لا أضطر فيها إلى قطع حديث ضيفي”. وبعيدًا عن الرضا الذاتي الذي لن يزيدني إلا تواضعًا، فإنني توقفت -لا إراديًا- عند مسألة الوقت في العرض والاستعراض. الوقت الذي يمكن من خلاله أن تصل أو لا تصل فكرة أو جواب أو حتى رسالة سياسية. وتساءلت بصمت: ألم تكن مسألة الوقت وحسن استغلاله هي من أهم أسباب فشل الخطاب السياسي والإعلامي لمختلف المجموعات، وما يهمني منها، تلك التي تنادي بالحرية وبالكرامة وبالعدالة.

أثارت بي هذه الملاحظة -التي أعتبرها جوهرية- ذكريات قديمة، تعود بي إلى المرحلة الأولية للدراسة الجامعية في فرنسا. حينذاك، كان أستاذي -وهو من أهم المتخصصين بالعالم العربي وبالعالم الإسلامي في العلوم السياسية، فرنسيًا وأوروبيًا- يُدعى كثيرًا إلى التلفزة والإذاعة الفرنسيتين للتعليق على أحداث كانت تجري في الجزائر، إبّان العشرية السوداء. كانت لهذا الباحث/ الأستاذ وجهة نظر غير تقليدية، وبالتالي فهي أقرب إلى توصيف وتحليل الواقع من الكثير ممن عاصروه، وكانت تحليلاته تستند إلى دراسات حقلية قام بها في أوساط المجتمع المحلي، وبإتقان لافت للانتباه للغة العربية فصحى ومحكية. ولكن هذا الخبير العالم بالأمور والضليع في شؤون ما يُدعى للحديث عنه، كان يقف أمام عائق مهم للغاية، يتمثل بالوقت وكيفية التحكم به. ومن المعلوم أن الإعلام -مهما كان جديًا- يسعى إلى تقديم الفكرة بسرعة ووضوح، بينما كان هو يسعى لأن يشرح الأمور بمختلف أبعادها، مستنبطًا الأسلوب الأكاديمي الذي لا يجدر به أن يُعلي من شأن فكرة على حساب أخرى. بالمقابل، كان محاوروه المتمرسون إعلاميًا يتلذذون بمقاطعته، بحجة انتهاء الوقت، وبالتالي فقد كانت تعابيره تصل دائمًا على مبدأ “لا تقربوا الصلاة…”.

أثناء حديثنا حول الموضوع، وشعور الخيبة يكتنف الخبير الحقيقي من استحالة وصول رسالته إلى المتلقي العام وليس المتخصص، اقترحت أن يتمرن على التحكم بالوقت، من خلال تجارب نجريها معًا، ألعب فيها دور المُحاوِر الأرعن الذي يستحثه على إنهاء جملته، ويمارس ضغطًا نفسيًا من خلال تعابير الوجه والأيدي، كما يفعل بعض الإعلاميين. وعندما أبدى متشككًا موافقته، اشتريت جهازًا رخيصًا يستعمله الرياضيون لحساب الوقت يسميه الفرنجة “الكرونومتر”. وجلسنا نحتسي الشاي أو ما شابه، ونمارس هذا التمرين/ اللعبة. وكان الهدف أن يتمكن من التعبير عن فكرته الأساسية خلال عشر دقائق بداية، خفضناها إلى خمس لاحقًا. ومن خلال هذه التجربة، تبيّن لنا أن هذا المشروع شديد القابلية للتحقيق، خصوصًا إن كانت الفكرة واضحة في الذهن.

هنا الطامة الكبرى، فالاعتقاد يمكن له أن يسود بضبابية الطرح وعدم وضوح الفكرة، فور ملاحظتنا للاستطراد في عرضها أو في طلب وقتٍ إضافي لطرحها. ويظهر ذلك جليًا في المؤتمرات العلمية والنصف علمية. ففي الاجتماعات العربية، لطالما يُعاني مدير الجلسة، من استطراد المتدخّل أو السائل من الجمهور. وهو يضطر في أغلب الأحيان، حفاظًا على الوقت واحترامًا لباقي المشاركين وحقهم بالحصول على وقتٍ موازٍ، إلى أن يقاطع المتحدث بصرامة، وما أصعب هذا الدور! وما يجعله أشد إيلامًا، هو رفض المتحدث الاختصار واللجوء إلى رفع راية الديمقراطية وحرية التعبير وربما الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

مع اعتبار أن الإعلام يفرض الاختصار والوضوح، فإن الحقل الأكاديمي العام، أي المؤتمرات العلمية، تفترض أيضًا عدم الاستطراد واحترام توزيع الوقت بين المتحدثين. لدينا جميعًا الكثير مما نقوله ونعتقد جازمين بأنه مهم جدًا، وربما الأهم، حسب درجة الثقة الزائدة بالنفس، إلا أن فكرتنا الأساسية هي المقياس، فإن حصرنا الأمر بإيصال رسالة واحدة، أو توضيح فكرة واحدة، أو طرح موضوع واحد، فالنجاح لن يهرب منا. وإن تشعبنا وذهبنا في مختلف الاتجاهات، فالمتلقي سينفصل عن التيار الذهني الملائم للمتابعة.

ما يستقيم على الأكاديميين والإعلاميين، لا شيء يمنعه من أن يُطبّق على الساسة، بل على العكس. ويصبح الأمر أكثر أهمية وضرورة عندما يرغب هؤلاء في إيصال رسائل واضحة تحمل مطالبات شرعية بالحقوق.


سلام الكواكبي


المصدر
جيرون