on
مخاطرة كبرى على رقعة الشطرنج السورية
كان لكتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) لمؤلفه وليم غاي كار (ترجمة سعيد جزائرلي، دار النفائس في بيروت عام 1973) أثرٌ كبيرٌ في محاولة تفسير ما يُشاع سرًا عن الحركة الماسونية دون إثباتات عنها، وعن طرق تحكّمها في كوارث العالم وفوضاه، ومسؤوليتها المباشرة عن الحربين العالميتين، حيث يرى الكاتب -حسب وجهة نظره- أن الفوضى التي تعم هذا الكون هي “مؤامرة شيطانية”، عمل على كشف خيوطها، منذ عام 1911 وبالتدريج حتى العام 1950، ويقول: “أدركتُ أن معركتنا ليست مع مخلوقات من لحم ودم، بل مع القوى الروحية والفكرية التي تعمل في الظلام، وتسيطر على معظم هؤلاء الذين يشغلون المراكز العليا في العالم بأسره”. وبغض النظر عمّا يرمي إليه الكاتب وغيره، كما في كتاب (القراءات الملعونة) لمؤلفه جود أبو صوان وغيرهم؛ فثمة محاولة دائمة عند هذا النسق من المؤلفات، لإظهار وجود قوى خفية تتحكم في القرار العالمي وآلية تنفيذه بين سياسات الدول، وكل التحليل يذهب باتجاه الماسونية العالمية! وهذا سؤال إلى اليوم لم يجد إجابة شافية عنه من حيث الأدلة والوثائق. وإن كنا لسنا بصدد الخوض في هذا المضمار في مقالة، بقدر محاولة التحليل السياسي كعِلمٍ له ما له من قواعد معرفية ومعطيات اقتصادية وإمكانية حلول وبالضرورة القدرة على تغيير مجريات الواقع وفق إمكاناته، لا تكهنات الفكر والخيال والرغبة وفرضياتها وفقط، عليه تبقى هذه الرؤية محاولة لإلقاء الضوء على بضع نقاط تمر بها المنطقة وسورية في الآونة الأخيرة، بدأت تتضح بعض خيوط مجرياتها.
التحرك الأميركي الأخير، ومطالب وزير خارجية الولايات المتحدة، بومبيو، الاثنا عشر من إيران لتنفيذها، حتى يمكن العودة لاتفاق جديد بخصوص الملف النووي، مترافقة مع ما بات يسمى بـ “طيران وأسلحة مجهولة”، تقصف بشكل شبه يومي مواقع التواجد العسكري الإيراني والميليشيات التابعة لها في سورية، وتحميلها لجهة مجهولة غايته عدم التورط في رد مباشر على ما يبدو على مصادرها، وهذا سؤال سياسي آخر.
لم يكن التمدد الإيراني في سورية، ومن قبله في العراق، مجرد صدفة أو رغبة فقط لدى قادة الحركة أو ما يسمى بهتانًا بـ “الثورة الإيرانية”، وهي التي سعت لتصدير قياساتها “الثوروية” لكل دول الجوار، بل كان تحت العين الأميركية مباشرة خاصة منذ العام 2003، منذ غزو العراق ومن ثم احتلاله. فسواء أكان ثمة اتفاق مبطن بين كل من طهران وواشنطن ولندن وقتئذ على ذلك بشكل سري ومباشر، أم كان ذلك عبارة عن التقاء مصالح بينهما، فقد تم استثمار الدور الإيراني في التمدد في العراق، خاصة من جهتها الجنوبية، في تفكيك العراق وتحويله إلى مستنقع للمحاصصات الطائفية، والإجهاز على كامل مقدراته العلمية وثروته الطبيعية، وهذا لا يعني أبدًا أن العراق لم يكن يعاني من ديكتاتورية نظام حكمها، بل يعني تمامًا أن التمدد الإيراني كان وظيفيًا فيه، تمّ استثماره من قبل واشنطن ولندن كلية، وهو ذاته ما يفسر غض النظر الذي مارسته واشنطن عن تمدد الميليشيات التابعة لإيران في سورية وتحت عينها، فما الذي تغيّر اليوم ولماذا هذه التناقض؟
ليس سؤالًا بحكم المتاح الإجابة عليه ببساطة، لكن لو حاولنا التدقيق في أن إيران منذ عام 2011 كانت المساهم الأكبر في بتر الربيع العربي وقطعه في سورية وليس هذا فقط، بل تأجيج الصراع الديني، وتغليب لغة القتل الدينية بمرجعية شعائر وطقوس تعود لما قبل 1400 عام، عملت على شيطنة العنف والعنف المضاد إلى درجة العودة لكل أشكال القتل الهمجية ومفهوم الغزوات والترحيل والتهجير أيضًا، فإن كانت موسكو هي من ساعدت هذه المرة، بغطائها الجوي هذا التمدد الإيراني؛ فإن هذا الأمر كان مرقوبًا جيدًا وملحوظًا أيضًا من قبل واشنطن وصناع القرار العالمي! ويأتي الاتفاق اليوم المعلن بين موسكو وواشنطن وبعض عواصم العالم، وأهمهما أورشليم في “إسرائيل”، على ضرورة إخراج أو تحجيم الدور الإيراني في المنطقة، أشبه بلعبة في دماء أبناء المنطقة وشعوبها، فبعد الإجهاز على معظم مقومات الثورة السورية في داخلها، واستفراد روسيا في الملف السوري جزئيًا، بموافقة كل من تركيا وإيران على حصص جزئية فيه، تأتي هذه الطلبات المتفق عليها على شاكلة القول إن الدور الوظيفي لإيران في تفتيت المنطقة قد انتهى أو شارف على النهاية، فهل هو كذلك وبهذه السهولة التي يتوقعها البعض من محللي السياسة، وبخاصة أولئك الضالعين في قراءة “أحجار على رقعة الشطرنج”؟
يستعير غاي كار في مقدمة كتابه، من الإصحاح (59- أشعيا)، تلك المقولات التي تصف اليهود بأن “خيوطهم لا تصير ثوبًا ولا يكتسون بأعمالهم، أعمالهم أعمال إثم، وفعل الظلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشر تجري، وتسرع في سفك الدم الزكي، أفكارهم أفكار إثم، في طرقهم اغتصاب وسحق. طريق السلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم مسالك معوجة كلّ من يسير فيها لا يعرف سلامًا”، ليظهر المقومات الثلاث لهذه النزعة العنصرية: الدم والجنس والمال، للسيطرة على العالم وتحريك فوضاه، فهل من الممكن مقاربة الوجود الإيراني في المنطقة من هذه البوابة، وهل سيكون الوجود الإيراني في سورية والعراق، كما الأحجار على رقعة الشطرنج؟
إن البرود الذي تبديه السياسة الإيرانية، أمام الضغوط الأميركية والطلبات الروسية الأخيرة منها بضرورة الخروج من سورية، والمترافقة مع الضربات الإسرائيلية الجوية لقواعدها داخل سورية، والمترافقة مع تحركات مقتدى الصدر الأخيرة في العراق، كلها تجعل المنطقة على فوهة بركان قابل للانفجار باتجاهات عدة، قد يكون أصعبها حربًا تشبه تلك التي جرت على العراق عام1991، وما تلاها في 2003، لكن بلادة التماسيح التي تبديها إيران لا تأتي من عبث، فهي تدرك حجم قوتها العسكرية وترسانتها الاستراتيجية، من حيث الصواريخ بعيدة المدى، ومدى مساحة الرقعة الجغرافية التي تشغلها بتمددها، لا كما كانت الكويت في عام 1991 إبان حرب الخليج الأولى، وإن كانت الخطوات تبدو متشابهة في هذا التحضير، فإن رقعة الشطرنج التي تديرها قوى العالم وصناع سياسته اليوم أوسع بكثير، وإمكانية احتوائها تبدو أصعب وأكثر مخاطرة من وقت مضى، خاصة أن سورية اليوم باتت منطقة محفوفة بالمخاطر لكثرة اللاعبين فيها، ومستوى هذه الألعاب التي تشي بالقدر الكبير من المجازفة في اتخاذ قرار مواجهة مباشر بين أطرافها، وأظن هذا ما تدركه موسكو أولًا، وتتفهمه بقدر كبير السياسة الإيرانية بطريقتها الباردة لامتصاص موجة الغضب الغربية منها، ولسان حالها يردد: لسنا أحجارًا على رقعة الشطرنج بل تماسيح وقلاعًا تحتمل كل طرق المناورة، وعدم السماح بالتفريط بكلية مكاسبها بالوصول للبحر المتوسط وفرض وجودها كقوة إقليمية كبرى؛ ما يجعل -بالضرورة- الانكفاء الجزئي خطتَها البديلة على أن تزرع لها الكثير من الرصيد البشري العامل في جنوب دمشق وغربها، كما فعلت ذات يوم في جنوب لبنان وجنوب العراق.
جمال الشوفي
المصدر
جيرون