‘محمد قواص يكتب: بانتظار ستينغر..’
26 فبراير، 2016
محمد قواص
قاوم “المجاهدون” الأفغان الاحتلال السوفياتي فانتصروا وهزُم الاحتلال وانسحب المحتل. تُظهر تلك الجملة في شكل مختصر مآلات الصراع إثر اجتياح قوات موسكو البلاد نصرة لنظام كابل برئاسة محمد نجيب الله. في لبنان جابهت “المقاومة الإسلامية” احتلال جنوب لبنان وصدّت هجوم صيف العام 2006 فـ”انتصرت” وهُزم العدو. مسلّمة صدّعت رؤوسنا ومازلنا إلى يومنا هذا ندفع يوميا ثمن هذا “الانتصار”. وفي سوريا يقوم “الجيش العربي السوري” بالتصدي لـ”الإرهابيين” ويسجل الانتصارات والإنجازات مستعيدا المدن والمواقع. وهذه عيّنة من الصيغ المستخدمة للتعبير في دمشق عن أحوال الميادين الراهنة في سوريا.
لا ينبغي إغفال العامل البشري في جانبه المعنوي والتدريبي والعقائدي، كما لا يجب إهمال عامل الشجاعة والإقدام وروح التضحية والفداء التي تلعب دورا مطلوبا في المعارك والحروب، لكن محدّدات النصر في زمننا المعاصر، وربما في كل الأزمنة، لا تقررها فضائل الشجاعة ولا تقررها خصال التفاني، بل إن لاستراتيجيات الحرب وقوة النيران وجدارة الأسلحة وتكتيكات الكر والفر والحركة وأدواتها اللوجيستية، ما أصبح المقرر الأول لهوية المنتصرين.
عام 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان إلى درجة احتلال العاصمة بيروت في أول سابقة منذ احتلال القدس. إبان تلك الحرب، التي دامت أكثر من ثلاثة أشهر، خاض المقاومون مواجهات لا تقلُّ في إقدامها وشجاعتها وتضحياتها عن تلك التي قدمها مقاومو عام 2006 أو تلك التي قدمها مقاومو أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي. لكن مقاومة عام 1982 كانت محرومة من لوجيستيات الانتصار سواء في العتاد أو في نوعية السلاح، ذلك أن أنظمة المنطقة السياسية، بما فيها النظام السوري، كما النظام السياسي الدولي بما فيه نظام الاتحاد السوفياتي، كانوا ملتزمين بعدم تزويد المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين بأي سلاح يعتبر نوعيّ الأداء بإمكانه معاندة الآلة العسكرية الإسرائيلية.
نذكر في هذا المجال تصريح القيادي الفلسطيني الفتحاوي الراحل صلاح خلف “أبوإياد” آنذاك، الذي قال “لو أرسل الاتحاد السوفياتي باخرة قمح (لا باخرة سلاح) عليها العلم السوفياتي إلى شواطئ لبنان لغيّر مسارات الحرب”. ونذكر في هذا المجال أن المقاومين في لبنان، والمحاصرين بعد ذلك في بيروت، كانوا يجابهون مدرعات ودبابات العدو بصواريخ محمولة على الكتف يتراوح مداها الأقصى ما بين 200 متر و500 متر بحسب طراز الصاروخ، فيما تمتعت قوات حزب الله بأسلحة نوعية كان بإمكانها اقتناص الدبابات من على بعد 5 آلاف متر، أي اصطياد الهدف من قرى بعيدة.
نذكر أيضا أن السيد حسن نصرالله في إحدى خطبه أثناء حرب العام 2006 دعا الناس في لحظة معينة من الخطاب للنظر إلى البحر، حيث إحدى القطع البحرية الإسرائيلية المشاركة بالحرب كيف ستنال منها صواريخ المقاومين، وهذا ما حصل وأطلق صاروخ أرض – بحر أصاب هدفه. بمعنى آخر فإن تدمير تلك القطعة البحرية العملاقة لا يعود إلى إيمان وعقيدة وشجاعة وإقدام، بل إلى سلاح نوعيّ يكفي الإحاطة بتشغيله وإصبع يكبس على أزراره. ينسحب أمر ذلك على ما يدمر الدبابات الإسرائيلية من تقنيات صاروخية متقدمة تتيح اصطياد الفرائس عن بعد.
لم تكتسح إسرائيل فلسطين وما استولت عليه في حرب يونيو 1967 بسبب شجاعة واستبسال وفضائل يمتلكها الجندي الإسرائيلي، بل بسبب ما تمتلكه من تفوق نوعي في التسلّح، وبسبب الحظوة التي تقتنيها دوليا والتي توفّر لها خطّ إمداد مضمون عالي المستوى على منوال الجسر الجوي الأميركي الذي نالته في حرب أكتوبر 1973 والذي لم يقابله جسر سوفياتي مقابل لمصر وسوريا. وما سكوت الجبهات الراهن في لبنان وغزة، والمزمن في الجولان، إلا نتاج قناعة بتفوّق القوة النارية الإسرائيلية وقدرتها على الفتك.
وما ينطبق على الحال اللبناني انطبق على الحال الأفغاني من حيث أن هزيمة القوات السوفياتية تعود أساسا، وربما حصرا، وبغضّ النظر عن تضحيات المقاومين، إلى التسليح النوعي الذي قدّمه الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة للمجاهدين بكافة فصائلهم، على الرغم من تباين تياراتهم، والذي أدى إلى تساقط الطائرات بحيث فقدت موسكو تفوّقها الجوي، فيما تولّت الصواريخ المتخصصة ارتكاب مجازر ضد مدرعات موسكو.
أما في حالة سوريا، فالأمر سافر وقح، ذلك أن جيش دمشق حظي بتسليح نوعي مفتوح من قبل إيران وروسيا بادئ الأمر، ورغم ذلك لم يصمد نظام بشار الأسد حتى الآن ولم تسقط دمشق، إلا (إضافة للإقرار الأميركي) بسبب التدخل المباشر لدولة عظمى واستخدامها أرقى مستويات التسليح وأمضى وسائل الدمار المعدّة أصلا لحروب بين دول عظمى، حتى أن فيتالي تشوركين مندوب روسيا في الأمم المتحدة، والذي يبدو أن تبجح الأسد بالانتصارات والوعد بأكثر منها قد استفزه قال مؤخرا “قوات النظام لم تصمد أمام خصومها قبل العمليات الروسية، كما أن التقدم الذي أحرزته مؤخرا، كان بفضل الدعم الذي وفرته مقاتلات الجيش الروسي”.
ولا شك أن الحالة السورية بالذات، هي نموذج يدرّس في قدرة السلاح فقط على تحقيق النجاح أو الفشل وفقا للوتيرة، المدروسة بدقّة، لمسألة دخول السلاح للمعارضة والتحكّم الكامل بنوعيته وفق أجندات الدول الكبرى. والأنكى أنه حتى فعالية السلاح الروسي المستخدم في سوريا لا تعود إلى مميزات ذلك السلاح ومهاراته فقط، بل أيضا إلى إحجام الدول الغربية عن معاندته أو الإيحاء بذلك. يكفي تأمل الموقف الروسي لو تناهى إليهم أن صاروخا واحدا فقط من طراز ستينغر المضاد للطائرات الذي يطلق عن الكتف، والذي ذاع صيته ضد الطائرات السوفياتية في أفغانستان، شوهد بيد مقاتل سوري معارض في مكان ما في سوريا.
ربما لم تنتبه المعارضة السورية إلى محورية عامل التسلّح في رسم مآلات الثورة، ولم تعر أهمية لما يمكن لأسلحة الدمار الحديثة أن تفعله بثورة شعب، ولم تعتن في مقارباتها السياسية الدبلوماسية العسكرية بالجانب التقني العسكري وسبل تأمينه بالكمّ والنوع، وما للزومية ذلك في بقاء الثورة وديمومتها، حتى غدا “انتظار غودو”، تيمنا بمسرحية الأيرلندي الشهيرة صامويل بيكيت، مبدأً تتأسس حوله مواقف ردّ الفعل لا مواقف المبادرة والفعل.
وما نرومه من سطورنا هو تسليط الضوء على أن الحقّ لا ينتصر بأخلاقيات الحقّ بل بالنيران التي تستطيع الدفاع عنه، وأن الباطل يصبح حقا يرسم التاريخ بسبب عامل القوة وحظوظ امتلاكه، وأن “الانتصار” في لبنان وأفغانستان، وذلك الذي يبشّر به الأسد في دمشق وأي ميدان آخر، تصنعه تقنيات الحرب لا همّة المحاربين، وأن ما تنضح به الأروقة الدبلوماسية يستوحي صداه من ضجيج النار. ولئن ينشغل السوريون هذه الأيام بأخبار الهدنة واحتمالاتها، تبدو دعوة وزير خارجية السعودية عادل الجبير إلى تزويد المعارضة بصواريخ أرض – جو، إنذارا مفاده أن “لا تحرجونا فتخرجونا”، ذلك أن محترفي طاولات المفاوضات سيقاربون التسويات بمنطق واقعي تنتجه مصانع الأسلحة، ولأن الإفراج عن صواريخ الجبير يعكس إفراجا عن مزاج دولي آخر.
المصدر: العرب