الصورة النمطية للإسلام والمسلمين في الإعلام الأميركي

8 أبريل، 2016

 

تعزَّز الخطاب السياسي اليميني في الولايات المتحدة خلال عام 2015 بتركيز وسائل الإعلام الأميركية على حوادث العنف والهجمات الدموية؛ التي شنَّها أفراد مسلمون، أو جماعات متطرفة، باسم “الدفاع عن الإسلام”؛ وشكَّلت تلك الحوادث محور تغطية إعلامية مستفيضة؛ مثل: مقتل خمسة جنود في ولاية تينيسي برصاص الشاب الأميركي محمد يوسف عبد العزيز، ومهاجمة إلتون سيمسون ونادر الصوفي مقرَّ تنظيم مسابقة للرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد في مدينة غارلاند بولاية تكساس.

وازداد سياق التهويل والتشكيك في نوايا المسلمين، ومن بينهم المسلمين الأميركيين، وطبيعة دينهم بعد هجمات باريس في 13 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ومقتل أربعة عشر شخصًا بسلاح المسلم الأميركي سيد فاروق وزوجته في سان بارنادينو بولاية كاليفورنيا في 12 من ديسمبر/كانون الأول 2015، وتعزَّز هذا السياق المتنامي في التأثير على صورة الإسلام والمسلمين بالخط التحريري لوسائل الإعلام؛ التي قد تتوحَّد في تلويحها بميثاق “الشرف” المهني في تقديم الأخبار وتوفير المعلومات للجمهور بشكل آنيٍّ؛ لكنها تتباين إلى حدٍّ كبير في تفسير ما يحدث، أو بالأحرى تأويله، تبعًا للمنحى السياسي المحافظ أو الليبرالي الذي تميل إليه كل مؤسسة إذاعية أو تلفزيونية أو صحفية.

وَجَدَ بعضُ السَّاعين لتزكية الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة؛ مثل دونالد ترامب، ضالَّتهم في تلك الحوادث لبلورة سرديات تتماشى مع حماسة اليمين المحافظ وجماعات المبشِّرين الذين صفقوا لاقتراحاته، ومنها منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. وتمَّ دَمْغُ صورة الإسلام والمسلمين بألوان التطرُّف، والتعصُّب للعنف أيضًا، بالدعوة إلى إقصاء المسلمين الأميركيين من السباق إلى البيت الأبيض في المستقبل؛ فقد شدَّد بين كارسون وهو المرشح الوحيد من أصل إفريقي- في سبتمبر/أيلول 2015 على أن “الإسلام لا يتماشى مع قيم الدستور الأميركي”، مُعلنًا معارضته تولِّي “أي مرشح مسلم زعامة الولايات المتحدة”؛ وإِنْ كان الدستور الأميركي لا يشترط اعتناق الرئيس دينًا بعينه.

ومع تداول هذه التصريحات المثيرة عبر وسائل الإعلام المختلفة على مدار الساعة، أصبح الخطاب العام في أميركا يميل نحو اليمين، ويتخلَّى تدريجيًّا عن قيم التسامح والتعدُّدية والبوتقة الثقافية المنفتحة على العالم؛ ليُكرِّسَ دعوات التمييز العنصري، ودَمْغ المسلمين بأوصاف التعصُّب والإرهاب ومنافاة قيم الدستور الأميركي. وبدا جليًّا أن بعض وسائل الإعلام الأميركية تعاملت مع الإسلام والمسلمين بشكل يختلف عن تعاملها مع فئات اجتماعية وديانات أخرى، وبرز هذا المنحى خلال تغطية حوادث راح فيها بعض المسلمين الأميركيين ضحايا التصفية الجسدية؛ مثل: قتل أحد المتعصبين البيض غريغ هيكس ثلاثة طلاب مسلمين في جامعة نورث كارولينا الشمالية في فبراير/شباط 2015.

ونتيجة لهذا المنحى، تدنَّت معايير التوازن والحياد والمصداقية في وسائل الإعلام اليمينية بفعل تنامي الغزْل الصحفي “Spin Journalism” وغلبة إعلام الرأي حاليًّا على إعلام الخبر أو الوقائع، أو إعلام الاستقصاء؛ الذي اشتهرت به الصحافة الأميركية في الستينات والسبعينات، عندما كانت تُشكِّل قوة النقد الرئيسة في وجه المؤسسات السياسية، وأسهمت بالتالي في إنهاء حرب فيتنام واستقالة الرئيس نكسون مرغمًا بفعل فضيحة ووترغيت.
تراجعت صورة الإسلام والمسلمين في أعين الأميركيين من صورة نمطية مرجعية صاغتها هوليود خلال القرن العشرين إلى صورة متداولة أكثر قتامة ينسُجُها الإعلام اليميني؛ وذلك في ظلِّ تزايد أعمال العنف واستخدام السلاح اليدوي خلال عام 2015، ولا تختلف الصورة الراهنة للإسلام والمسلمين في أذهان الأميركيين كثيرًا عمَّا لاحظه الراحل إدوارد سعيد قبل خمسة وثلاثين عامًا في كتابه تغطية الإسلام: كيف يحدد الإعلام والخبراء رؤيتنا إلى بقية العالم، عندما قال: “قد تكون مبالغة طفيفة إذا قلنا: إن تغطية المسلمين والعرب ومناقشة أمورهم وفهمهم لا تخرج عن صورتيْ مُورِّدي نفط أو إرهابيين محتملين، ولم يصل سوى القليل جدًّا من التفاصيل وكثافة البعد الإنساني وشغف الحياة العربية والإسلامية إلى وعي أولئك الأفراد الذين تقوم وظيفتهم على تغطية العالم الإسلامي”.

واليوم تتشبَّع الصورة المتداولة حاليًّا عن الإسلام والمسلمين بالعلاقة الجدلية بين ما يُقدِّمه الخطاب السياسي لبعض مرشحي الحزب الجمهوري، وبين ما تُنتِجُه وسائل الإعلام خلال موسم حملات انتخابات الرئاسة؛ ونتيجة لهذا التحوُّل انقلبت الصورة المعيارية التي كانت تُقدِّم الولايات المتحدة؛ باعتبارها بوتقة ثقافية منفتحة على العالم، أو تعايشت فيها مختلف الأقليات والثقافات والأديان، إلى حلبة صراع اجتماعي مفتوح؛ يقوده التيار المحافظ؛ الذي يسعى إلى تطهير “مناقب” أميركا من “رذائل” المسلمين؛ وذلك حفاظًا على ما يتغنَّى به كثيرون بشأن “الاستثناء الأميركي” و”صفاء” المرجعية المسيحية-اليهودية لقيام أميركا في منتصف القرن الثامن عشر.

وظهرت متغيرات جديدة لهذا التحوُّل في صورة الإسلام والمسلمين في أعين الأميركيين مع تزايد تأثير وسائل الإعلام على توجيه الفضاء العام نحو تكريس أنماط ذهنية معينة في تركيب تلك الصورة وتداولها دون تحفُّظ، أو مُسَاءَلة أخلاقية، في أغلب الأحيان؛ وقد يتساءل المرء عمَّا إذا كان الإعلام لا يزال مجرَّد أداة لنقل معلومات أساسية عن الأحداث باستخدام قاعدة الأسئلة الخمسة؛ أم أن هناك سرديات مُبطَّنة تقف خلف السردية الإعلامية ويتعيَّن تفكيكها لمعرفة النَّسق الذهني والثقافي الذي ينطلق منه القائم بالاتصال في بلورة الخطاب العام.
 

تنطلق هذه الدراسة من متابعة الخطاب الإعلامي الأميركي وتفكيكه لفهم مُحدِّداته في تركيب صورة الإسلام والمسلمين خلال عام مضطرب بفعل العدد القياسي لحوادث العنف، وتحليل حالات تتقارب في مداها الزمني وإطارها السياسي؛ خاصة خلال حملات الانتخابات الرئاسية؛ التي تُغذِّي حيوية التنافس بين المؤسسات الإعلامية؛ وتبعًا لهذه التحولات تبرز التساؤلات الآتية: 

·  كيف أسهمت وسائل الإعلام الأميركية في تغيُّر الصورة الذهنية للإسلام والمسلمين خلال عام 2015؟ 

·  ما قوة الدفع الرئيسة وراء تنامي الخوف من المسلمين والإسلام، أو ما يُعرف بـ”الإسلاموفوبيا”، إلى مستوى أعلى مما كان عليه الحال عقب هجمات سبتمبر/أيلول 2001؟ 

·  كيف تَعَزَّز الخطاب الإعلامي الأميركي بالأبعاد السياسية والأيديولوجية في تعميق الهوة بين “الأنا” الجماعية الأميركية، و”الآخر” المسلم الذي “ينحرف” عن مسار الهوية والقيم الأميركية المعاصرة؟

وتتشابك هذه التساؤلات فيما بينها بالنظر إلى أن عام 2015 اتَّسم بتحوُّل أكثر سلبية بين ما يمكن تسميَّته بـ”الصورة المرجعية” للإسلام والمسلمين في أعين الأميركيين، كما ركَّبتها أفلام هوليود بعد استبدال “العدو الأحمر” من صورة الشيوعي السوفيتي، إلى صورة المسلم المتعصِّب؛ خاصة عقب الثورة الإيرانية عام 1979، والصورة المتداولة حاليًّا والملازمة للخطاب اليميني في فترة الحملات الانتخابية؛ وذلك من خلال التلويح بما يعتبره أغلب اليمينيين الأميركيين “تعارُضًا” بين الإسلام من جهة، وبين الحرية والديمقراطية والحداثة والقيم الكونية من جهة أخرى.
وقد تشكَّل مجتمع البحث من ثلاث قنوات تلفزيونية: “سي إن إن CNN”، و”فوكس نيوز Fox News”، و”إم إس إن بي سي MSNBC”؛ وقد بلغ عدد وحدات أو مفردات العينة القصدية 64 تقريرًا ومقابلة إخبارية ومقالًا؛ بثَّتها أو نشرتها مؤسسات إعلامية أميركية في ذروة السِّجال السياسي حول المسلمين خلال الفترة الممتدة من الأول من يونيو/حزيران إلى 31 من ديسمبر/كانون الأول 2015. فضلًا عن 20 مقالًا منشورًا على المنصات الإلكترونية المتخصِّصة في تقييم أداء الإعلام الأميركي؛ منها مركز بيو لاستطلاع الرأي العام (Pew Research Center)، ومؤسسة أهمية الإعلام بالنسبة إلى أميركا (Media Matters For America)، ومؤسسة السبق الصحفي السليم (The Right Scoop)، ومجلة جامعة كولومبيا للصحافة (Columbia Journalism Review)، وصحيفة نيويورك تايمز (The New York Times).

استنتاجات الدراسة

حركية صورة الإسلام والمسلمين عبر الباب الدوار
تظل صورة الإسلام والمسلمين في الـمُتخيَّل الأميركي رهينة بالتفاعل بين سرديات الاتهام؛ التي تتردَّد في مضمون فوكس نيوز وغيرها من القنوات اليمينية، والسرديات المعيارية من خلال إم إس إن بي سي، ثم السرديات الوصفية في أداء سي إن إن. وفي لحظة تأمُّل عند مفترق الطرق بين هذه التيارات الثلاثة المتنافسة، يبدو أن الإعلام الأميركي يمرُّ حاليًّا بمرحلة انفصام بين شخصية المجتهد في البحث عن الأخبار العاجلة وكشف الأسرار المثيرة المرتبطة بزمنه الذهبي قبل بضعة عقود، وبين شخصية العارض لآراء وتحليلات محترفي “التحليل السياسي”؛ لتقديم قراءات للأحداث بما ينمُّ عن أهواء سياسية وأيديولوجية مبطَّنة في أغلب الحالات.

تغيُّر المعايير المهنية
تراجع تأثير المؤسسات الإعلامية التي تتمسَّك بالخطِّ الاحترافي المتوازن تحت وطأة المنافسة؛ التي ابتدعتها قناة فوكس نيوز كمعقل لتعزيز الخطاب المحافظ اليميني مقابل قناة (إم إس إن بي سي)؛ التي ترفع راية الفلسفة الليبرالية؛ باعتبارهما قطبيِ الرحى في المشهد الإعلامي الأميركي؛ ومن تجلِّيات هذا التمرُّد على المدرسة التقليدية في الإعلام الأميركي الذي قادته شبكات NBC وABC وCBS  لعقود طويلة، تظلُّ فوكس نيوز قناة “الريادة” ليس في حجم مشاهديها فحسب؛ بل في قدرتها -أيضًا- على توجيه الخطاب العام نحو اليمين، وأحيانًا اليمين المتطرف.

صناعة الـ”نحن” و”الآخر”
أسهمت وسائل الإعلام اليمينية من خلال سرديات الاتهام في تعزيز الانشطارية بين الـ”نحن” الأميركيين والـ”هم” المسلمون، وتعزَّز هذا المتخيَّل القائم على تكريس ميزان الضدية والاعتداد. وقد تكاثرت سرديات الانقسام واستبعاد الآخر خلال عام 2015 من خلال فوكس نيوز وبقية وسائل الإعلام اليمينية المحافظة؛ وأوجدت تبريرًا لنظام التصنيف الذي يعتبره هنري تاجفيل (1919-1982) -مُؤَسِّس نظرية الهوية الاجتماعية- حجر الزاوية في صناعة المتخيَّل السلبي عن الآخر، واحتكار المتخيَّل الإيجابي عن الذات أو الأنا الجماعية؛ ويقوم نظام التصنيف على ثلاث عمليات ذهنية في تقييم الفوارق بين الـ”نحن” كمجموعة داخلية وبين الـ”هم” كمجموعة خارجية؛ أولها: التصنيف الاجتماعي؛ الذي يُسقط على المجموعتيْن أوصافًا تنمُّ عن الاختلاف العرقي، أو الديني، أو الجغرافي، أو غيره. ثانيًا: تحديد هوية الانتماء إلى المجموعة الداخلية بما يتمشى مع قيمها وثقافتها المشتركة. ثالثًا: المقارنة الاجتماعية؛ وهي الأخطر من سابقتيْها عندما يحتكر أعضاء كل مجموعة “الفضائل” للمجموعة الداخلية، ويُسقطون “النواقص” على المجموعة الأخرى.

مشروع تغييب الآخر “المسلم”
أصبحت وسائل الإعلام اليمينية في عصر صحافة الرأي في الولايات المتحدة تعمل أسوة بكتُّاب الاستشراق في نهاية القرن التاسع عشر؛ عندما حوَّلوا العربي أو المسلم إلى خانة الآخر الصامت؛ بل تسعى -أيضًا- لتكريس هيمنة الخطاب اليميني المتشدِّد بين الأميركيين؛ وذلك أملًا في أن يصبح العربي أو المسلم متقوقعًا ضمن خانة الآخر المغيَّب، أو ما يُسمِّيه الباحث تغييب الآخر بذريعة أنه “إرهابي”؛ حتى يُثْبِتَ براءته.

ينطوي هذا المد على مشروع شَيْطَنَة المسلمين في أميركا؛ وأحيانًا تخوينهم، وتضييق الخناق عليهم إعلاميًّا وسياسيًّا؛ وقد تعالت بعض الأصوات عبر شاشة فوكس نيوز تطالب بعدم منح تأشيرات الدخول إلى أميركا للراغبين في الهجرة أو السفر إليها من مواطني الدول العربية والإسلامية، وأصبحت تشكِّل في أذهان بعض الأميركيين “حلًّا عمليًّا” في مواجهة التطرف والإرهاب، والأكثر من ذلك، أصبح الإعلام اليميني ينادي بمحاكاة بعض الخطايا التي ارتكبتها أميركا في حق بعض الأقليات وتكرارها مع المسلمين؛ وقال فرانكلين غراهم -ابن وخليفة بيلي غراهم، أبرز مُبشِّر إنجيلي في البلاد منذ السبعينات، والمستشار الروحي لثلاثة من الرؤساء الأميركيين- في مقابلة مع فوكس نيوز عقب حادث ولاية تينيسي: إنه “ينبغي منع جميع المسلمين من الهجرة إلى أميركا، وأن تتم معاملتهم على غرار معاملة اليابانيين والألمان عقب الحرب العالمية الثانية”.

منطق “الإرهاب الجهادي” ومنطق “الخلل العقلي”
ثمة ازدواجية تكرَّرت في الطرح الإعلامي خلال عام 2015 وأيضًا منذ 2001؛ عندما لا يتردَّد بعض المذيعين والمحللين في “استخلاص” الأسباب الكامنة خلف الهجمات المسلحة بالنظر إلى اسم المهاجم وأصله العرقي؛ وكما لاحظنا لوَّحت فوكس نيوز بورقة الخلل العقلي أو الاضطرابات النفسية في أغلب الحالات إذا كان اسم المهاجم أميركيًّا أبيض؛ وفي المقابل، يكون تغليب احتمال النوايا الإرهابية إذا كان الاسم عربيًّا أو مسلمًا، وتنعكس هذه الازدواجية سلبًا على الجالية المسلمة والعربية.

صورة الإسلام والمسلمين خلف مبدأ الحريات
تزداد التحديات في طريق النشطاء والداعين إلى تصحيح صورة الإسلام، والدفاع عن خصوصيته على غرار بقية الأديان في الولايات المتحدة؛ وتبقى المسافة متباعدة بين التأكيد على حرية التعبير كما يضمنها الدستور الأميركي من جهة، وبين حرية العقيدة واحترامها كإحدى تفريعات الدستور والفلسفة السياسية القائمة لدى الأميركيين، وتقول مها الجنيدي -رئيسة جمعية المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة: إن الحاجة تدعو إلى أكثر من القانون لمكافحة الصور النمطية والمواقف عميقة الجذور في أغلب الحالات. 

 

8 أبريل، 2016