طبقة المبدعين تتولى عجلة القيادة من الطبقة الوسطى

9 أبريل، 2016

تزدهر مدينة بوسطن الأميركية وتتحول شيئا فشيئا إلى مدينة ذكية، لذلك تحب جيني أوليفيا جونسون، المطربة الشابة التي كانت تحلم بتسجيل أول ألبوم غنائي لها، بالاستقرار والعمل في هذه المدينة التي تحظى بحراك بين مجتمع الموسيقيين الواسع.

ويصمم أصدقاء جيني آلات موسيقية جديدة ستمثل نقلة في مجال الموسيقى الرقمية التي تعتمد بشكل كبير على الكومبيوتر. وتحضر جيني حصص أداء وتدريبات في جامعة بوسطن وجامعة إم أي تي وغيرها.

وتقول دارلا هانلي، رئيس قسم التعلم الاحترافي في كلية بيركلي للموسيقى “أعتقد أننا نعيش في مدينة للمبدعين لأن لدينا عددا كبيرا من الكليات والجامعات معا في مكان ضيق نسبيا”.

وتدعم دارلا جهود مجموعات من المبدعين في بوسطن في تحضير مسابقة تشمل مساعدة مبرمجي الكومبيوتر للمعالجين بالموسيقى على تطوير تكنولوجيا جديدة لعلاج المرضى. ويزداد اعتماد التكنولوجيا يوما بعد آخر على قاعدة واسعة تتشكل من طبقة جديدة من المبدعين والفنيين والتكنوقراط، ورجال الأعمال الذين بدأوا مؤخرا في الهيمنة على النفوذ داخل المجتمعات المتقدمة.

وساهمت هذه الطبقة في ظهور مفهوم المدن الذكية التي لم تعد منعزلة عن المدن الكبرى، وإنما بدأت في الذوبان ضمن مجتمع متحرك بسرعة، وصارت جزءا مهما من حياة السكان اليومية داخل هذه المدن الكبرى.

وبدأت التكنولوجيا في التكيف مع موجة التحضر الواسعة التي يشهدها العالم أولا، ونتجت عن ذلك مرحلة طويلة الأمد من التحول القائم على قبول المجتمعات المدنية المتحضرة بالتقدم الناتج عن ظهور التكنولوجيا، والتكيف معه.

تحولات حضارية

وفي السابق شهدت المجتمعات المتحضرة مرحلة تحولات مماثلة تمثلت في سعي هذه المجتمعات للتكيف مع ظهور السيارات والنفط والغاز والهاتف، ثم الألياف البصرية التي غيرت من شكل التحضر بمفهومه الجغرافي القديم.

وفي كتابه الأكثر رواجا “ذي رايز أوف كرييتيف كلاس” (صعود الطبقة المبدعة)، تطرق ريتشارد فلوريدا، الذي ولد في الولايات المتحدة، والمتخصص في المجال العمراني، إلى مسألة التغيير الاجتماعي الناشئ منذ عام. ويربط ريتشارد، وهو أستاذ في جامعة نيويورك، ومدير معهد مارتن في جامعة تورنتو، ومحرر مخضرم في صحيفة “ذي أتلانتيك”، بين العلامات التجارية لشركة السيارات “بي.إم.دبليو” وسلسلة الفنادق “لو ميريديان” والطبقة المبدعة في مجموعة “كرييتف كلاس غروب”، وهي شركة الاستشارات التي أسسها.

حدد فلوريدا في كتابه واسع الانتشار مجموعة اجتماعية واقتصادية جديدة من البشر. وقال في حوار أجرته معه مجلة “ذي إكونوميست” إن هذه المجموعة الجديدة تشمل الطبقة المبدعة من العاملين في مجال العلوم والتكنولوجيا والفنون والثقافة، وإدارة الأعمال والمهن.

وقال “هذه الفئة تشكل ما بين ثلث ونصف القوة العاملة في الدول المتقدمة وأكثر من ذلك بكثير في المدن الكبرى. وهذه هي القوة الاقتصادية المبدعة والرائدة في اقتصادنا ومجتمعنا”.

والطبقة المبدعة هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في المستقبل. وتتكون هذه الطبقة من المفكرين والقادة والمبتكرين، وأصحاب النفوذ ورجال الأعمال الذين يدفعون الوضع الثقافي والتجاري من خلال تطوير وتصميم وتسويق أحدث المنتجات والخدمات.

وغالبا ما يكون أعضاء الطبقة المبدعة أول من يتبنون نفس هذه المنتجات والخدمات الجديدة بسبب مستويات دخلهم العالية. وفي الولايات المتحدة، تتألف الطبقة المبدعة من ثلث القوة العاملة فقط، لكن تأثيرها الاقتصادي هام للغاية، إذ تسيطر على نصف مجموع الأجور والدخل وحوالي ثلاثة أرباع حجم الإنفاق.

وحتى لو لم تشارك الطبقة المبدعة عبر استغلال مواهبها في دفع عجلة الاقتصاد، فإنها تسهم في جعل الحياة أفضل.

ويقول بيرت سبيرلينغ، الذي يعمل في مؤسسة “سبيرلينغ بيست بليسيز” إن “الكثير من الفنانين والموسيقيين يسجلون أنفسهم لدى الحكومة باعتبارهم معلمين أو أمناء مكتبات أو أي شيء يضمن دخلا ثابتا لأسرهم”.

ويرفع هذا السلوك من إمكانية ضياع الكثير من هذه المواهب، لكن سبيرلينغ قال “بفضل الإنترنت أصبحت لديهم وسيلة لنشر إبداعاتهم وإيصالها إلى العالم، وأصبحت لدينا نحن أيضا وسيلة لقياس أي من المدن لديها أكبر عدد من هؤلاء المبدعين”.

تنشيط المدن

وأصبحت الطبقة المبدعة أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ تحول الاقتصاد من نموذج قائم على الإنتاج إلى آخر تحركه الأفكار والإبداع والابتكار.

ويقول فلوريدا إن “قوة الدماغ البشري والإبداع هما المدخلان الرئيسيان في اقتصاد اليوم. إذا كانت المصانع هي أسس التنظيم الاقتصادي خلال العصر الصناعي، فإن المدن هي وحدات التنظيم المركزية للاقتصاد الإبداعي الجديد. يتم وضع مجموعة من التصميمات في المدن الكبرى، لأنها تمثل المكان الذي يحتشد فيه الناس الأكثر تحفيزا، حيث يمكنهم أن يتنافسوا ويتعاونوا في ما بينهم ويمكنهم إطلاق أحدث التقنيات والشركات”.

ويظهر هذا التحفيز واضحا في العديد من الأحياء والمدن في جميع أنحاء العالم. فمدينة بيتسبرغ التي كانت في السابق واحدة من المدن الصناعية، حيث تم التأسيس لاقتصاد القرن الحادي والعشرين حول المؤسسات الطبية والتعليمية الكبرى، يتم تصنيفها الآن كواحدة من أكثر المدن الملائمة للعيش في العالم.

وشهدت مدينة شورديتش، التي تقع شرق العاصمة البريطانية لندن، تنشيطا ضخما بسبب انتشار شركات التكنولوجيا الإبداعية الموجودة هناك. كما أصبحت مدينة لا كونديسا غير البعيدة عن مدينة مكسيكو سيتي من المناطق التي تقيم فيها الطبقة المبدعة، مما ساعد على تحويل اقتصادها إلى ريادة الأعمال وأصبحت واحدة من أكبر المدن الكبرى في العالم.

ويقول فلوريدا “القوة المحركة وراء أي اقتصاد فعال تكمن في الموهوبين. نحن نعيش في أكثر عصر متقلب على الإطلاق. الناس، خصوصا هؤلاء الأكثر موهبة، يتنقلون بكثرة. قدرة أي مجتمع على جذب وتطوير الأشخاص الأكثر موهبة هي جوهر تطور عصر الإبداع”.

وكلما زادت تنافسية الاقتصاد تشعر دول أوروبا بأن عليها الإسراع في جذب المزيد من الموهوبين، وتوفير أفضل فرص التعليم والتدريب كي تحافظ على قدرتها على المنافسة. ويقول خبراء اقتصاديون إنه سيكون على الشركات الكبرى في المستقبل وقف حركة تراجع الموهوبين عبر بناء مجتمعات صغيرة لهم، تضم مدارس ومراكز لرعاية الأطفال ومراكز تسوق. وسيساعد دعم الفنون العامة وتجميل الطبيعة حول هذه المجتمعات في جذب المزيد من المبدعين.

وتقوم هذه الفكرة على جعل المبدعين يقضون أكثر وقت ممكن بالقرب من بعضهم البعض في العمل أو خارجه، كما تطمح أيضا لربط بنية تحتية لتعليم متطور مع السوق التي سيكون عليها استقبال ابتكارات المؤسسات التعليمية.

3 تي أس

تخطو العديد من المدن في جميع أنحاء العالم خطوات كبيرة لتحسين جودة المكان والصناعات القائمة على المعرفة. ومن المهم البحث عن الأماكن التي تعمل على تحسين وضعها وفقا للعوامل الأساسية للتنمية الاقتصادية التي أطلقت عليها تسمية “3 تي.أس”، وهي التكنولوجيا والمواهب والتسامح، فالتكنولوجيا والابتكار هما المكونان الأساسيان لقدرة المدينة على دفع عجلة النمو الاقتصادي. والموهوبون هم مفتاح حصول هذه المدن على كل شيء، كما أن المجتمعات التي يوجد فيها أكبر قدر من الموهبين هي الأكثر قدرة على التسامح مع الأفكار الجديدة والأجناس المختلفة من البشر.

وكان ريتشارد فلوريدا عضوا في شبكة الأمم المتحدة للتكنولوجيات الرقمية والتحضر المستدام. وتوصل أخيرا عبر خبرة عمل طويلة في الأمم المتحدة إلى أن “المدن الإبداعية ليست أكثر استدامة”.

وقال “يتم إنشاء المدن الإبداعية على قطاعات المعرفة، وهي تميل باتجاه أن تكون أكثر نظافة واخضرارا وأكثر استدامة. ويتوقع المنتمون إلى الطبقة المبدعة أن تكون مجتمعاتهم من الرعاة الصالحين لهذه المدن”.

وأضاف“ما هو أكثر من ذلك، أن العديد من القوى الاقتصادية في المدن -على سبيل المثال، تركيز الأصول- سوف تتطلب منا تقييم خياراتنا لتكون أكثر شمولية. وقد أظهرت التصميمات تفضيلا ملحوظا للمجتمعات الأكثر كثافة، وأكثر اندماجا، وأكثر تجولا في الشوارع وأكثر حيوية”.