وَحْلُّ الخوارج
17 أبريل، 2016
كان لاحتدام معركة صفين بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، ورضا الطرفين بالتحكيم فرصة سانحة لخروج أناس يجيدون الاصطياد بالماء العكر، حيث خرجت فرقة من أجهل الفرق وأكثرها معاندة للحق، لم تنشق لطغيان علي بن أبي طالب (معاذ الله) بل لأنه رضي بحقن دماء المسلمين، هذه الفرقة ترى أن علياً قد أخطأ خطأً جسيماً أوصله للكفر والردة، لأنه رضي بالتحكيم والمفترض به استئصال الفئة الباغية، ولو تفانا الطرفان، وهم يرددون قوله تعالى ’’إن الحكم إلا لله’’ فأنى لعلي أن يحكم الرجال في دين الله، لذلك سموا بالمُّحكِمة، وقد جاء في الحديث (يخرجون على حين فرقة من الناس)1 وأمام هذا السفه والأفق الضيق والاندفاع الخرافي في قتل المسلمين دخلوا إلى مدينة حروراء وأعملوا السيف في أهلها لعدة أيام، وبعد محاورات جرت بينهم وبين المندوب الشرعي لعلي بن أبي طالب حبر الأمة عبد الله بن عباس عاد منهم الآلاف وأصر الباقي على غيّهم وضلالهم، رافعين شعارات مضلِّلة، ظاهرها عزة الإسلام، وباطنها استمرار الفوضى بين المسلمين، حيث قال علي بن أبي طالب عن شعاراتهم: كلمة حق أريد بها باطل.
حتى نفهم هؤلاء القوم لا بد لنا من فهم جذر المشكلة بينهم وبين باقي المسلمين:
فبعدم فهمهم لمرام القرآن بقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون “2″ يعتبرون الكفر المقصود بالآية الكريمة كفر أكبر مخرج من الملة، ولقد بين لهم ابن عباس ومن خلفه المهاجرون والأنصار، إن الكفر المقصود بهذه الآية ’’كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق’’ أي إنه معصية مثل أي معصية وهذا صحيح لأن تطبيق هذه الآية مئة بالمئة، مستحيل عقلاً، فلا يمكن لأي صحابي أن يعدل كعدل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون بذلك قد كفر أو خالف بالمقدار هذا التراخي الذي بينه وبين عدل نبيه المعصوم، وكذلك باقي حكام المسلمين فضلاً عن أصحاب رسول الله، فقد يضعف الإنسان أو يطمع فيجور في حكمه لطرف دون طرف، وهذا ظلم ليس بمخرج عن الملة، لأن جميع المسلمين مأمورون بأن يحكموا بالعدل، لقوله تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) 3وكل من لم يحكم بالعدل سواء بالولاية العامة أو بالولاية الخاصة فهو كافر خارج عن الملة ’’حسب تفسير القوم’’ فماذا لو لم يعدل الرجل بين زوجاته وأولاده وموظفيه، فهل يخرج عن الملة، لمجرد منح ولد دون ولد، وهل نقول لمن لم يقيم الصلاة ويخشع بصلاته أنت لم تصلي فأنت كافر لقوله تعالى (وأقيموا الصلاة) فقولهم أشبه بمن يقول لا يجوز للمسلم أن يتزوج من المسلمة لقوله تعالى ’’إنما المؤمنون إخوة’’ فهل يتوجب علينا أن نشرح له ونقول إنها أخوة دون أخوة وعصب دون عصب ورحم دون رحم.
فالصحابة أخذوا بالمقاصد الشرعية من الآية الكريمة، بينما هم اعتبروا الكفر المقصودة بالآية مطلوب لذاته، وعلى هذا يقول الشاطبي: إن أصل الضلال راجع إلى الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم’’
والسياق التاريخي يُبين عوّرَ هذا المنهج
فالحجاج بن يوسف الثقفي قتل مائة وعشرين ألفاً وظلم وسفك الدماء وطبعاً هو لم يحكم بما أنزل الله بهذا الظلم، ومع ذلك لم يكفره أحد من علماء المسلمين، بل قالوا ظالم مفسد، وكذلك يزيد بن معاوية قتل الحسين وخيار التابعين في موقعة الحرة ولم يكفره أحد.
وعلى هذا التأويل والفهم الخارجي فجوهر التوحيد يختلف اختلافاً تاماً بين الخوارج وعامة المسلمين فالمسلمين يرون التوحيد بمعنى (لا معبود إلا الله) بينما الخوارج قديما وحديثاً يرون أن التوحيد قائم على (لا حاكمية إلا لله) وعلى ذلك فكل حكم لم يوافق حكم الله مئة بالمئة فهو حكم ’’كافر’’ مما أدى بهم إلى تكفير جميع الحكومات والأنظمة الإسلامية قديماً وحديثاً، وهذا نجده واضحاً في كتاب ’’نظرية الإسلام السياسي’’4 لأبي الأعلى المودودي وهو يطرح نظرية الحاكمية، حيث قال:’’ أن الله لم يبعث الأنبياء لدلالة على الله فهذا معلوم بالفطرة، بل لقيموا حكم الله، وهذا استخلصه من قوله تعالى:’’ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ’’ فقال: أن فرعون علم أن ما جاء به موسى هو الحق ومع ذلك رفض حكم الله وقال: سأحكم بحكمي لا بحكم الله، فاستحق غضب الله وسخطه، ولقد رد عليه العلماء رداً جميلاً حيث قالوا: إن موسى لما مكث يدعوا في مصر لم تكن لديه تعاليم دينية ليطبقها أصلاً، فكان يطلب مع فرعون إرسال بني إسرائيل معه، وإنما أنزلت الأحكام على بني إسرائيل بعد هلاك فرعون، لكن المودودي يدندن حول الحاكمية والسلطة سواء وافقت الكتاب والسنة أم لم توافق، وكانت هذه الورقات المودودية شرارة التطرف والراديكالية التي تبناها فكر تنظيم القاعدة في هذا العصر فهي تُأدلج لحكم ثيوقراطي، لا يقيم لأي مخالف اعتبار مهما جاءهم بأدلة أو بينات (وبين لا حاكمية إلا لله وبين لا معبود إلا الله) سفكت دماء أهل القبلة، وذبح خيار الأمة، ولم يكن لفقه أهل الأصول حول الاقتتال المسلمين كالصائل والباغي أي أهمية فكل مخالف لاعتقاد هؤلاء القوم كافر كائن من كان، وعلى ذلك استبيحت دماء الأمن والجيش والعلماء والولاة، ولم يكن لأي مقاتل أو مجاهد من الجيش الحر إلا السيف لأنه من صنيعة الغرب طالما أن الائتلاف الوطني من صنيعة الغرب، لذلك فكل فرد من أفراد الجيش الحر هو كافر على التعين لا على وجه الإطلاق والتعميم( حكم بتكفير المطلقات) وبما أن جبهة النصرة (التي لا تقل ضلالاً عن داعش) لم تكفر الجيش الحر فهي كافر مثله (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وهكذا تتدحرج كرت الثلج بل قل كرت الدم، أمام هذه المتواليات الهندسية التكفيرية التي عمت حتى إخوة المنهج الخارجي، فالدم هنا لم يتسرب لشعاب الأرض بل إلى شغاف القلوب ونحن نرى خيار شباب الأمة تفتك ببعضها البعض، من أجل تأويل مبني على أصل فاسد بيّنّ الصحابة رضوان الله عليهم أصل فساده، وقاوموا حامل هذا الفكر الخبيث، ولم عجزت هذه الفرقة عن الحوار والدليل لجاءت إلى السيف لفرض أجندتها بالقوة، يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد (بين الاستبدادَيْن: السّياسيّ والدّينيّ مقارنة لا تنفكُّ, متى وُجِد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه، أو متى زال، زال رفيقه)
ولا أدل على ذلك التأصيل الذي أصلناه من قول سيد إمام شريف أحد منظري القاعدة (الدكتور فضل) في لقاء مصور على قناة العربية (6) بعد الإطاحة بحكم الإخوان:
كيف يخرج هؤلاء الإخوة ويطالبون بإعادة الشرعية ألم يعلموا أن الإخوان المسلمون جميعهم كفار، لأنهم حكموا لمدة عام بغير ما أنزل الله فهؤلاء المعتصمون جميعهم كفار لأنهم يريدون تنصيب الكفار فقال له: المستضيف مستنكراً تكفر أكثر من خمسة مليون مسلم دفعة واحدة فقال له: نعم لو كانوا مئة مليون لقوله تعالى:’’ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون’’ كيف لا يفعلها الدكتور فضل هو وأمثاله طالما أن اتفاق الصحابة على تفسير هذه الآية لا يعنيهم.
أين هذا الفكر من فكر ابن تيمية(7) الذي يتشدقون بترديد اسمه وهو يقول المطلقات محلها الأذهان لا الأعيان، وقوله التكفير الذهني للأقوال والأفعال، وقوله توافر شروط وانتفاء موانع، وقوله المُتأول ليس بكافر، وإيمان ثبت بيقين لا يخرج إلا بيقين مثله، وقوله تكفير معينين بالظنون قول على الله بغير علم وحكم على معين بدخول النار.
أمام هذا الفكر الأصولي المتطرف الذي يعتمد عقلية التصنيف لا عقلية الاحتواء والتوظيف بدأ سباق نهب التراث الفقهي والمدونات الإسلامية لتوظيفها بما يخدم الإيديولوجية تحت عباءة سلفية جهادية مؤكدين ما أكده علماء الاجتماع’’ أن الدين هو أعظم فكرة مركزية لأي نهضة ممكن أن تقوم’’ ولكن هذا الفكر المنحرف لم يكتب له النجاح قديماً ولا حديثاً، واليوم تتجرع أفغانستان والعراق والشام كأس هذه الضلالات وسيكون هذا الفكر منبوذاً كما كان عند الرعيل الأول’’ فالتاريخ لا يغير نفسه ولكنه يمشي على نفس القافية’’ مارك توين
المصادر:
1-أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الزكاة) (باب ذكر الخوارج وصفاتهم -1065)
2-سورة الأنعام الآية 57
3-سورة المائدة الآية 44
4-كتاب نظرية الإسلام السياسي نفسه
5-الاعتصام للشاطبي182 -2)
6-رابط المقابلة على اليوتيوب
7-مجموع الفتاوى لابن تيمية