إيريك لانج.. لماذا تجاهلت فرنسا «ريجيني» الخاص بها؟

20 أبريل، 2016

مر أكثر من أسبوعين على أحداث فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، في 14 أغسطس (آب) لعام 2013، وبدأ شهر سبتمبر (أيلول)، والقاهرة مشتعلة بما يكفي، حيث تنتشر القوات المسلحة المصرية في شوارع القاهرة، وتستمر حركة السكك الحديدية في التوقف بأمر رئاسي، وتستمر حالة الطوارئ وحظر التجوال، من التاسعة مساءً وحتى السادسة صباحًا، بأمر رئاسي أيضًا، في أغلب محافظات مصر، وينقسم الشارع المصري تمامًا، في الوقت الذي تحولت فيه القاهرة لما يشبه ثكنة عسكرية كبيرة.

لم يبد أن كل ذلك يؤثر على إيريك لانج بالشكل الكافي، ومازال الرجل ذي 49 عامًا يوصل عمله بجدية، الفرنسي إيريك لانج، صاحب الإقامة الطويلة في القاهرة، والذي يعمل معلمًا للغة الفرنسية في المعهد الفرنسي بمنطقة المنيرة. يراسل إيريك والدته نيكول بروست، وهو عائد إلى منزله القريب، في الخامس من سبتمبر (أيلول)، بينما تشتعل القاهرة أكثر جراء محاولة اغتيال وزير الداخلية حينها، محمد إبراهيم، بعبوة ناسفة أصابت أكثر من 20 شخصًا، بينما خرج محمد إبراهيم نفسه بخدوش طفيفة، مقابل تشديد القبضة الأمنية بشكل أكثر عنفًا.

في اليوم التالي مباشرة، وبينما إيريك عائد من عمله، قبل ساعة واحدة من حظر التجول، قامت دورية من الشرطة المصرية بإيقافه وسؤاله عن أوراقه الثبوتية، ووجدت معه كما صرحت فيما بعد «زجاجة من النبيذ وعصا معدنية». قال إيريك في التحقيقات إن العصا للدفاع عن النفس، في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة، ثم ألقت الدورية القبض عليه واقتادته إلى قسم شرطة قصر النيل، القريب من المعهد الفرنسي، بأقل من كيلومتر واحد. على مدار يومي السادس والسابع من الشهر، حاول بعض أصدقاء إيريك تأكيد هويته، بينما حاولت والدته الوصول إليه بكافة الطرق، وبالطبع لجأت لوزارة خارجيتها في سبيل ذلك.

في اليوم الثامن من سبتمبر (أيلول)، اتصل صديق لإيريك بوالدته، قائلًا لها إنه وصل إليه، وأعطاه نقودًا ليستطيع ابتياع بعض الأطعمة في حبسه الاحتياطي، وعلى مر ثلاثة أيام كانت نيكول على اتصال مباشر بالسفارة الفرنسية في القاهرة، ثم تلقت والدته بعدها بأيام اتصالًا آخر من مسؤول في وزارة الخارجية، مخبرًا إياها أن إيريك تم نقلة لزنزانة «راقية»، مخصصة للشخصيات الهامة (VIP)، وأنهم سيعملون على تأكيد جواز سفره، ليفرج عنه في أقرب وقت ممكن.

بدت الأمور كلها مثيرة للريبة وبلا تفسيرات واضحة، إلى أن أتى يوم الأحد 15 سبتمبر (أيلول)، ليطرق ضابطين من الشرطة الفرنسية على باب منزل أخت إيريك، كارين بريفينت، ويخبراها أن شقيقها قد توفى في مصر أثناء احتجازه، قبلها بيومين في 13 من الشهر، ثم أصدرت بعدها وزارة الداخلية المصرية بيانًا قالت فيه، إن الوفاة «نتيجة لتعرض إيريك للضرب المبرح، على يد ستة من رفاق زنزانته». كانت «أخبارًا بسيطة بالنسبة للمصريين» على حد تعبير والدته.

الصمت الفرنسي

كانت الرواية الرسمية المصرية معتادة في هذه المواقف، وما حدث، كما رواه مصدر أمني مصري، أن إيريك خرق حظر التجوال، ولم يكن يحمل هوية صالحة، فضلًا عن القبض عليه في حالة من السُكر وانعدام الوعي. على الجانب الآخر، لم تستسلم عائلة لانج مباشرة، وإنما قاموا، عن طريق محاميهم، بتقديم شكوى رسمية لسلطات مدينة نانت، للمطالبة بالكشف عن تفاصيل وفاته وملابسات ما حدث، وفتحت النيابة العامة الفرنسية تحقيقًا في مقتله، بينما هاتفت والدته وزارة الخارجية في كاي دوسيه، سائلة عما ينبغي فعله، ليأتي رد كاي دوسيه، على السيدة نيكول: «نظن أن ما ينبغي فعله الآن هو أن تهتمي بإعادة رفاته».

بعد ذلك بدأت الأم في ترك الأمور القانونية للمحامي الفرنسي رافائيل كيمف، وفي أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام، قدم رافائيل شكوى، موجهة ضد وزير الداخلية المصري وضابطين آخرين، تطالب بالتحقيق معهم وعزلهم. شكوى لم تصل بالطبع لأي نتيجة مفيدة. وفي نفس الشهر وصل جثمان إيريك إلى فرنسا، وتحديدًا إلى مستشفى جامعة نانت، ليتم تشريحه مرة أخرى فيها، ولتخرج نتائج التشريح مختلفة تمامًا عن النتائج الرسمية المصرية، منها وجود آثار قيود محكمة بشدة على معصميه ولمدد طويلة، وآثار ضربات عنيفة على الصدر، فضلًا عن أسباب أولية للوفاة تتلخص في «نزيف داخلي وكسر في الجمجمة».

على مدار العام الماضي بأكمله لم يحدث أي شيء، من قبل الحكومة الفرنسية، يدل على جدية المطالبات أو السعي وراء التأكد مما حدث لإيريك، فاستمرت وزارة الخارجية الفرنسية في إعطاء محامو الأسرة نفس التعليقات الرسمية، بينما قامت محكمة نانت، في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) لعام 2014، بقبول قضية أخرى أمامها، يطالب فيها المحامون بفتح تحقيق دولي، يسمح باستجواب مسؤولين أمنيين مصريين، يشتبه في تورطهم في هذه الحادثة، بينما تزامن مع هذا الطلب زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، إلى فرنسا في يوم الأربعاء 26 من الشهر، لتلاحقه دعوى قضائية رفعها محاميان فرنسيان، هما جيل ديفير وحكيم الشرقي، متهمين إياه بالتورط في «جرائم تعذيب وحشية»، كان ضحيتها شابان مصريان، في الفترة التي تلت الثالث من يوليو (تموز) لعام 2013. لكن المثير للاهتمام أن قضية إيريك لم تذكر على هامش الزيارة أو تأخذ حيزًا إعلاميًا، فضلًا عما بدا وكأنه تجاهل من الرئيس الفرنسي، فرانسوا أولاند، لها.

علاقات مصرية فرنسية وثيقة

في الوقت الذي خرجت فيه تقارير عدد من وكالات الأنباء والصحف، أثناء تغطية زيارة الرئيس الفرنسي الحالية للقاهرة، والتي وصلها منذ يومين فقط، معنونة بالأمل في ضغط أولاند، على الرئيس المصري ذو الخلفية العسكرية، ونظامه، لتعديل أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وآمله أيضًا في إثارة قضية إيريك لانج مرة أخرى، أسوة بالإيطالي ريجيني؛ فإن هذه التقارير تبدو في غاية التفاؤل، بالنسبة لما يحدث بالفعل على أرض الواقع، حيث يبدو واضحًا أن عقل الرئيس الفرنسي مشغول بأمور أكثر أهمية، أمور يمكن اختصارها في «صفقات بمليارات الدولارات»، مع أحد أهم حلفاء فرنسا في الشرق الأوسط.

أثناء زيارة أولاند الحالية للقاهرة، خرجت فرنسا بعقود في مجالات الطاقة المتجددة والمواصلات والتصنيع العسكري، بلغت قيمتها 2.3 مليار يورو (2.6 مليار دولار)، منها 600 مليون دولار لتصنيع قمر صناعي للاتصالات العسكرية، تفاهم عليه وزيرا دفاع البلدين. وستقوم شركتا إيرباص للأنظمة الفضائية، وثاليس ألينا بتصنيعه، فضلًا عن عقد تطوير مترو أنفاق القاهرة بقيمة 1.2 مليار يورو، وعقد ثالث للطاقة المتجددة فازت به شركة Engie.

لم يتجاهل الرئيس الفرنسي أثناء زيارته الضغط الإعلامي المحلي في بلاده، والأوروبي أيضًا، بخصوص إثارة قضايا حقوق الإنسان في مصر، بخاصة مع «التعامل الأمني العنيف» من السلطات المصرية مع المعارضة، فضلًا عن اعتقال عشرات الآلاف والإبقاء علي عدد كبير منهم بدون تهم حقيقية أو مثبتة. وقال أولاند إن مكافحة الإرهاب، لا تعني تجاهل حقوق الإنسان، فضلًا عن تأكيده على إثارة قضية إيريك لانج مع السيسي، لكن التصريحين المقتضبين بدوا وكأنهما محاولة لتخفيف الضغط الإعلامي عليه، فضلًا عن محاولة الحفاظ على انتقادات تحت السقف المسموح، لا تخل بمكاسب فرنسا المليارية لصناعاتها العسكرية، وآخرها صفقة الأسلحة ذات المليار دولار التي وقعت في اليومين الماضيين، ومكاسبها المليارية لصناعاتها الأخرى.

مكاسب لا يبدو العبث بها، بالنسبة للسلطات الفرنسية، حكيمًا حتى ولو تعلق الأمر بحقوق الإنسان، التي يمكن غض النظر عنها مادامت لا تمس الشأن الفرنسي، بما لا يغتفر، بينما لا تتمتع إيطاليا بهذا النوع من النفوذ أو تبادل المصالح، ما يوضح بشكل ما الحلقة المفقودة بين حالتي إيريك لانج وريجيني، المتشابهين في المصير على يد نفس السلطات، والمختلفين في ردود أفعال دولتيهما على ما حدث لهما.