مظلومية الضبّاط السنّة في القوات المسلحة السورية

4 مايو، 2016

 

انتشرت دراسات عدّة في السنوات الماضية لتسلّط ضوءاً جديداً على الدور السياسي للقوات المسلحة العربية، بعد أن أعاده الربيع العربي إلى الضوء. لا تزال الدراسات الجديدة تعاني من مشكلتين اثنتين: الأولى، التركيز شبه الحصري على الجيش المصري، وإهمال معظم الجيوش الأخرى التي لا نعرف عنها الكثير حتى الساعة، الجيش السوري نموذجاً.

ثانياً، يبقى البحث الميداني عن الجيوش العربية نادراً. هذه الثغرة يمكن فهمها في ضوء الصعوبات التي يواجهها الدارسون عند محاولة الحصول على معلومات عن المؤسسات العسكرية، ويسعى هذا البحث للمساهمة في ملئ الفجوة المعلوماتية بما يتعلق بالجيش السوري، حيث يركز تحديداً على مظلومية/شكاوى الضباط السنّة فيه.

إن تمتّع الضباط العلويين بمعاملة خاصّة في الجيش، من المسائل المتوافق عليها في الكتابات حول سورية. على سبيل المثال، يقدم عمل نيكولاس فان دام سرداً تفصيلياً عن دور الولاءات الطائفية في الجيش السوري. يسبر تحليل فان دام كيفية أن الولاءات الطائفية والمناطقية والقبلية تتداخل وتدعم بعضها، وبالتالي تحدّد الولاءات السياسية للضباط المنحدرين من الأقليات الســـــورية المغلقة (العلويون والدروز على سبيل المثال). كما يوضح عمل حنّا بطاطو حول سورية أن من بين 31 ضابطاً عُينوا من قبل حافظ الأسد لقيادة القوات المسلحة السورية بين 1970 و1997، كان هناك ما لا يقلّ من 61.3% من العلويين. كذلك أصدر كل من إيال زيسر، ميخائيل إيشنتادت، وجيمس.ت كوينلفان، دراسات تقريرية سلطت ضوءاً إضافياً على سياسات التحيّز الطائفي في الجيش السوري.

تشكّل هذه الدراسات خلفيةَ هذا البحث حول تشكيلات الضبّاط السوريين. إلا أن البحث يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات: كيف تؤثر سياسات التمييز الطائفي على المسار المهني والافكار السياسية للضباط السوريين؟ واستطراداً، كيف جذرّت خمسة عقود من التمييز الطائفي الفاقع المظلومية السنية في الجيش السوري؟ وكيف أثّرت علونة الجيش على العلاقات بين الضبّاط السنّة والضبّاط العلويين؟ ثمّ كيف يؤثر كلّ ذلك على الفعالية العسكرية للجيش السوري وأدائه الميداني/القتالي؟

 يرتكز البحث إلى عدة مقابلات مُركَّزة أجراها الباحث في أيار وحزيران وتموز 2014، مع ضباط سنة سوريين كانوا قد انشقوا عن الجيش في 2012 و2013. عدا جنرالٍ واحدٍ متقاعد، كل المقابلات كانت مع ضباط عاملين حتى لحظة قرروا القطيعة مع النظام السوري. أجريت المقابلات في بلدتين تركيتين واقعتين على الحدود السورية، أنطاكيا والريحانية. من بين الضباط الـ24 الذين قابلهم الباحث، ثلاثة برتبة عميد، خمسة برتبة عقيد، أربعة برتبة مقدم، أربعة برتبة رائد، خمسة برتبة نقيب، وثلاثة برتبة ملازم أول.

إن رجحان الضباط العاملين في التدريس ضمن الأكاديميات العسكرية السورية، ومدرسة الإشارة والدفاع الجوي، يعكسُ حقيقة أن قلّة من الضبّاط السنّة يُعيّنون في مراكز ميدانية/قتالية ضمن الجيش، ويتاح لعددٍ أقلّ بعد الانضمام لفرق النخبة العسكرية، مثل الفرقة الرابع المدرعة أو فرقة القوات الخاصة.

الخط الفاصل بين المدينة والريف، وهو فالقٌ محوريٌ تقليدياً في السياسات السورية، غير هامٍ ضمن سلك الضباط، حيث ينحدر أعضاؤه بشكل ساحق من الريف، بصرف النظر عن الانتماء الطائفي. ادّعى أولئك الضباط بأنهم كانوا على علم بسياسات التمييز الطائفي المعادي للسنّة في الجيش قبل انضمامهم للخدمة العسكرية، وبرغم ذلك فقد التحقوا بسلك الضباط لأنه يَعِدُ الشباب الريفيين بشيءٍ من الارتقاء الاجتماعي في الحياة الخاصة، أو على الاقلّ هكذا أملوا.

جذور مظلومية الضباط السنة

إن جذر السخط لدى الضباط السنة في الجيش السوري ثلاثي الأبعاد: مهنيٌ ومؤسساتيٌ وعقائدي. أولاً، يشتكي الضباط السنة من المعاملة التفضيلية لزملائهم العلويين، فكلّ من قابلهم الباحث عبّروا عن سخطٍ عميق على ما هو واضحٌ من تمييز ممنهج معادٍ للسنة في المؤسسة العسكرية. ثانياً، الضباط السنة حانقون نتيجة إهمال مصالح الجيش كمؤسسة، مما يتناقض بحدّة مع الجهود المبذولة لتزويد الوحدات العلوية المسؤولة عن أمن النظام بكلّ ما يلزمها، بما يضمن تفوّقها على وحدات الجيش النظامي لجهة التدريب والعتاد. ثالثاً، يشتكي الضباط السنّة من فرض منظومةٍ أخلاقيةٍ عليهم يرونها معاديةً لتعاليم الإسلام، مثل الضغط عليهم لمعاقرة الخمرة، وتحذيرهم من مراودة الجامع للصلاة فيه، خشية الوقوع تحت مجهر المخابرات المخيفة. أضف أن تحالف النظام مع إيران على خلفية النزاع الشيعي السني المتفاقم في الشرق الأوسط، يزيد من شكوك الضباط السنة، الذين ازدادت قناعتهم في العقد السابق لـ2011 بأن الخطاب الأيديولوجي للنظام قشرةٌ تخبئ طبيعته ودوافعه الطائفية.

المظلومية المهنية للضبّاط السنة

حتى بداية السبعينات، احتفظ السنة بحضورٍ معقولٍ في سلك الضباط السوريين. بعدها، تكثّفت سياسات العلونة، لا سيّما بعد الهجوم على طلاب الضباط العلويين من قبل الجماعات الإسلامية المتشددة في مدرسة المدفعية في حلب، وكذلك في أعقاب مجزرة حماة.

منذ بداية الثمانينات صار العلويون حوالي 80-85 % من كل مجموعة متخرجة من الأكاديمية العسكرية، وهذا يعني أن سياسات التمييز الطائفي لنظام الأسد قد منعت الثقل الديمغرافي السنّي من إعادة توليد نفسه في تشكيلات الضباط. الشكوى الأساسية للضباط السنة واضحةٌ وصريحة: التحيز الطائفي ضدهم يبقيهم إمّا خارج الأكاديمية العسكرية، أو في مراكز عسكرية هامشية فيما لو أُتيح لهم الدخول الى سلك الضباط.

تنقسمُ الاكاديمية العسكرية السورية إلى إحدى عشرة إدارة، أكثرها أهميّةً كليات المشاة والمدفعية والمدرعات. إن الدخول إلى تلك الكليات مرغوبٌ من تلامذة الضبّاط، لأنها تزوّد الجيش السوري بالنخبة القيادية العليا فيه، فالضبّاط أصحاب المناصب العليا كآمري الفرق والفيالق، ينحدرون بشكلٍ كبير من المشاة والمدفعية والمدرعات. هذا لا يعني أـن كل خريجٍ من تلك الكليات يضمن بالضرورة مركزاً مستقبلياً بارزاً، لكن الأكيد أن حظوظ خريجي الكليات الأخرى بالوصول إلى المراكز القيادية في الجيش أضعف بكثير. جديرٌ بالملاحظة هنا أن تلامذة الضباط لا يختارون تخصصهم بأنفسهم، ثمّ إن العلامات أو الكفاءة العملية ليست ذات أهمية في تحديد من يدخل إلى كليات المشاة والمدفعية والمدرعات. ببساطة، تقرّر قيادة الأكاديمية العسكرية أي ضابطٍ سيلتحق بأي كليّة في المدرسة الحربية، ومن نتائج هذا النظام أن كل دفعة تدخل إلى الكليات المميزة الثلاث، تتأّلف كل سنة من نسبة 90% من العلويين. تلامذة الضبّاط من غير العلويين يوزعون بين مدارس أخرى، بغض النظر عن إنجازاتهم العلمية.  يثبّت هذا التكتيك السيطرة العلوية على المراكز القتالية الهامّة في الجيش، ويبقي غير العلويين في حالة دونيةٍ دائمة.

تستمرّ السياسات التمييزية بعد التخرج، يفضّلُ الضباط عادةً أن يخدموا إما في أقسامٍ غير قتالية مثل وكالات المخابرات، والأقسام الادارية، أو في وحدات قتاليةٍ خاصة، مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المدرعة، والقوات الخاصة، والقوات الخاصة الجوية (الفرقة 14 إنزال جوي).

تلك الإدارات هي وجهات مفضّلة لثلاثة أسباب: الأول هو الميزات المالية، وهذا صحيحٌ خصوصاً في وكالات المخابرات، حيث يقدم السياسيون ورجال الأعمال مكافآتٍ كبيرة لضباط المخابرات الذين بدورهم يؤمنون لهم الحماية.

هذا ويحصل الضباط المعينون في المخابرات على بيوتٍ مجانية وسياراتٍ جديدة، وفقاً لعقيدٍ مدرسٍ سابقٍ في أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية: “إن حلم أي ضابطٍ هو أن يُقبَلَ في سلك المخابرات بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية، الناس غير المتآلفين مع سورية ربما يكون لديهم صعوبةٌ في فهم أهميّة حصولنا على السيارات والمنزل المجاني. الحال أنه يمكن أن يقوم ضبّاط الجيش بتوفير رواتبهم لسنوات دون أن يتمكنوا من شراء سيارة، دع عنك شراء منزل. ولذلك فإن الميزات الممنوحة لضباط المخابرات فيما يخصّ السيّارة والسكن هامّة جدّاً. حتى تكون قادراً على الزواج وتستقرّ، تحتاجُ أن تتملك شقةً وسيارة، وضباط المخابرات لا يتوجب عليهم القلق بخصوص ذلك، بينما علينا نحن أن نعاني ونقلق”.

ثانياً، الضباط في الإدارات العسكرية يمكنهم أن يصبحوا أغنياء، كونهم يمسكون بالأمور التجارية للقوات المسلحة فيما يتعلق بصفقات السلاح والطعام والحاجيات الأخرى. هؤلاء الضباط لديهم الحرية ليقوموا بصفقات مع المزودين عبر الرشوة والسمسرة من ذلك.

كذلك الضباط في وحدات القتال الخاصة لديهم العديد من الامتيازات، فهم أيضاً يحصلون على سياراتٍ جديدة وسكنٍ مجاني، بالإضافة إلى شعورهم بالاعتزاز والتفوّق بصفتهم “رجال بشار” (الحرس الجمهوري)، أو “رجال ماهر” (الفرقة الرابعة المدرعة)، فيمكنهم بسهولة الحصول على قروض بنكية وأي خدماتٍ أخرى من المؤسسات العامة.

 على مستوىً آخر، فإن الخدمة في وكالة المخابرات أو الأقسام الإدارية، يبعد هؤلاء الضباط عن صعوبات الحياة العسكرية. الوحدات الخاصة القتالية والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المدرعة تواجه بعضاً من تلك المصاعب، ومع ذلك هي تنتشر في دمشق، العاصمة السورية، حيث الخدمة أفضل بكثير منها على الحدود أو في بادية الشام. يخسرُ الضباط غير العلويين المنافسة للانضمام إلى الأقسام المتمتعة بالمزايا المذكورة أعلاه في الجيش، صحيحٌ أن التحيّز الطائفي في سورية يشمل كل القطعات في الجيش، بمعنى أن الضباط العلويين يشكلون الأكثرية في كلّ وحدات القوات المسلّحة، ولكن الهيمنة العلوية فاقعةٌ بشكلٍ خاصٍ في وكالات المخابرات والوحدات القتالية الخاصة، وإلى حدٍّ أقل في الوحدات الإدارية. وبكلماتٍ أخرى لنقيبٍ انشقّ عام 2013: “مسموحٌ للسنّة في القوات المسلحة أن يشغلوا فقط المراكز التي لا تهم العلويين، المكان الوحيد الذي أعرفه في القوى الجوية حيث يوازي عددُ السنة عددَ العلويين، وربما يفوقه، هو مطار التيفور العسكري القريب من الحدود العراقية. تبعدُ هذه القاعدة 90 كم عن حمص بعيداً في الصحراء، إنها واقعةٌ في أكثر الأماكن عزلةً، هناك حيث يُرسل السنّة كي يخدموا في القوى الجوية. وما هو صحيحٌ حول القوى الجوية صحيحٌ أيضاً حول سلاح المشاة، الأكثر خطورة من وجهة نظر أمن النظام”.

ثلاث نقاط إضافية من النزاع تتعلق بأن المنافسة على بعثات الدراسة خارجاً، وعلى الترقيات، تفاقمُ من مظلومية الضباط السنّة. حافظت القوات المسلحة السورية على علاقاتٍ ودية مع الجيوش الروسية والإيرانية والمصرية، كون مجموعة من الضباط السوريين قد درسوا وتلقوا أو نالوا درجات تعليمية متقدمة في موسكو وطهران والقاهرة.

ومن ناحيةٍ أخرى، إن كانت الترقيات أوتوماتيكية في المناصب الصغيرة والمتوسطة، فإن الأمر يختلف في الرتب العليا من عقيدٍ وما فوق. الضباط العلويون متميزون على غيرهم على مستوى الترقيات، وخصوصاً أولئك ممن لهم صلةٌ بالنخبة السياسية. هذه القضية محبطةٌ جداً للضباط السنة المتوسطين، حيث يخدم كثيرون منهم دون ترقية لمدّة عقدٍ من الزمن أحياناً، ويكونون قد وصلوا بعد هذه المدّة إلى سنّ التقاعد.

أخيراً، يتشكّى الضبّاط السنّة من أن القلة منهم الذين وصلوا إلى المراكز المتوسطة أو العليا، لا يحصلون على النفوذ الذي يترافق عادةً معها، إن التأثير الحقيقي في الجيش هو بأيدي الضباط العلويين، ووكالات المخابرات ذات الهيمنة العلوية. فالجنود الذين يحتاجون إلى إذن مغادرة أو يرغبون بالنقل من لواءٍ أو وحدةٍ إلى أخرى، يطلبون من ضباطٍ علويين المساعدة وليس من الضباط السنّة، لأنهم يعرفون أين تكمن السلطة الفعلية في الجيش.

يدعي الضباط بأن قبضة حافظ الأسد على جنرالاته كانت أقوى من بشار، وحيث أن حافظ الأسد كان قادراً على أن يكبح جماح النخبة العسكرية حتى يحافظ على الأقلّ على مظهر تضامنيٍ عابٍر للطوائف، ولو شكلياً في فيالق الضباط السوريين، كان بشار غير قادر على ذلك. أصبح النظام أكثر تفككاً تحت حكم بشار، بوجود أقطاب عسكرية نافذة تتنافس على السلطة، وعلى وضع تابعيهم العلويين في القطاعات المختلفة للقوات المسلحة. وبالتالي، تقلص نصيب السنّة من المناصب البارزة في الجيش كثيراً في العقد الأخير.

 

المظلومية المؤسساتية للضباط السنّة

زيادةً على الإحباطات المتعلقة بحياتهم المهنية، يتهم الضبّاط السنة نظام الأسد بتجاهل المصالح الأساسية للجيش كمؤسسةٍ عسكرية. كما يقولون بأن النظام يبقي القوّات المسلحة، وعن عمد، قوّةً قتالية ضعيفة، ويخرق الاستقلال المؤسساتي للجيش بتحويل ما يتوجب أن يكون مؤسسةً وطنيةً بلا منازع إلى «شركة عائلية» كما يقول كثيرٌ من الضبّاط.

تقريباً، كل الذين أجريت معهم المقابلة يوافقون على أن الجاهزية القتالية للقوات المسلحة السورية بانحدارٍ ثابت منذ بداية التسعينات، وقد وصلت إلى حدودٍ دنيا سيئة للغاية عشية ثورة 2011.

يتشكى الضباط من السلاح الروسي الموجود بالخدمة، لأنه قديمٌ وسيّئ التصنيع. يدّعي ضبّاطُ القوى الجوية أن قاذفات الميغ الروسية 21 و23 تفتقرُ إلى الصيانة المناسبة وتحتاج بشدّة إلى قطع غيار، ممّا ينعكس سلباً على مستوى التدريب. هذا ويصف ضباط المدرعات دبابات ت55 وت62 الروسية القديمة بـ”كومة خردة”.

إن الهموم التقنية للقوات المسلحة السورية هي مسؤولية يلقى باللوم فيها على عدم استجابة النظام لحاجات الجيش، يشتكي الضبّاط السنّة من فساد الضباط القادة العلويين، والذين يتهمونهم بجني أرباح ضخمة من صفقات الظل مع مزودي الأسلحة السيئة، وهي صفقاتٌ غير مكبوحة، بل مُشجّعٌ عليها من السلطات.

يسيطر الضباط العلويين على مكتب التفتيش العسكري في القوات المسلحة السورية، ويستخدمون نفوذهم لكتابة تقارير كاذبة حول الجاهزية العسكرية مقابل الرشاوى. وفقاً لرائدٍ منشقّ: “الجاهزية القتالية جيّدة عندما تكون 80% من أسلحة الكتائب الثقيلة (دبابات ومدفعية ونقل عسكري) فعّالة. وكثيراً ما وجد المفتشون العسكريون أثناء جولاتهم بأن أقلّ من 40% من هذه التجهيزات بحالة جيدة، ومع ذلك يكتبون التقارير بخلاف ذلك مقابل الرشاوى التي يحصلون عليها من القادة العسكريين، الذين يرغبون أن تظهر وحداتهم جاهزةً على الورق. إن فساد المفتشين العسكريين معلومٌ في القوات المسلحة. ضبّاط الرتب العليا العلويون على معرفةٍ به، لكنهم لا يفعلون الكثير لتغيير الوضع لأنهم يستفيدون منه، وأيضاً لأنهم لا يبالون”.

يشتكي الضبّاط السنّة أيضاً من أوضاع المجندين، يتألف الجيش السوري بشكلٍ كبيرٍ من المدعوين لخدمة العلم، ويعتمد أداء القوات المسلحة السورية في الحرب تالياً على معنوياتهم وتدريباتهم. ومع ذلك، يعاني المجندون من ظروفٍ صعبةٍ خلال خدمتهم العسكرية، فهم يعيشون في ثكنات مكتظة تنقصها أساسيات النظافة. ثم إن الألبسة والأحذية بالية، والبنادق الروسية غير فعّالة. المجند الإجباري يبقى أحياناً جائعاً لأن كبار الضباط يحولون الحصص الغذائية من المتعهدين لحسابهم الخاص.

 يقسم الضباطُ القادةُ المجندين الإجباريين إلى صنفين، المنحدرون من العائلات الغنية يصبحون مورداً إضافياً للدخل، مقابل استفادتهم من شروط خدمة سهلة وتمضية وقت أطول خارج الثكنات مقابل الرشاوى.

أما المنحدرون من أصول فقيرة، فيُؤخذون كخدم وسائقين شخصيين. إن ظروف المجندين الإجباريين هي قضيةٌ حساسة بالنسبة للضبّاط السنّة، لأن معظم المجندين سنة، بينما معظم كبار الضباط من العلويين. لذلك يأخذ الأمر مسحةً طائفيةً تزيد من سخط الضبّاط السنّة.

إن إهمال القوات المسلحة قد خلق تعقيداً أكبر في ضوء المعاملة التفضيلية التي تمتعت بها كل الوحدات القتالية الخاصة العلوية، لقد طلبَ ضباط الدفاع الجوي أن يحصلوا على صواريخ أرض-جو محمولة من نوع إيغلا 9 ك 38، كون نموذجها الأخير قد وضع في الخدمة من قبل القوات المسلحة الروسية في عام 2004، لكن عندما اشترت سوريا هذه الصواريخ من روسيا في العام 2006، كانت لصالح الحرس الجمهوري حصرياً.

وبشكل مشابه، الدبابات الروسية القتالية ت 80 وت 90، الأكثر فعالية في الترسانة السورية، بقيت ملكيةً خاصّةً للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المدرعة. يتهم بعض الضباط النظام بإضعاف القوات المسلحة عن قصد، ليحد من قدرتها على القيام بالانقلابات، والحفاظ على التفوق القتالي داخل الجيش لصالح القوات الخاصة العلوي.

إن ميل كل من حافظ الأسد وبشار الأسد لتعيين أفراد العائلة في مناصب قيادية في القوات المسلحة، فاقمَ الإحباط لدى الضباط السنّة. بدأ حافظ الأسد بتعيين أقاربه في المناصب العسكرية العليا عندما كان وزيراً للدفاع، قبل استيلائه على السلطة في عام 1970، وتابع ذلك بعد أن أصبح رئيساً. أصبح شقيق الأسد، رفعت، قائد وحدات الدفاع شبه العسكرية (سرايا الدفاع) في دمشق، وشقيقه الآخر، جميل، رئيساً لقسمٍ خاصٍ في وحدات الدفاع المكلفة بتأمين المناطق العلوية. وبالإضافة إلى ذلك، عدنان الأسد، ابن عم الرئيس، قاد سرايا الصراع، وهي وحدة شبه عسكرية أخرى في دمشق. وأخيراً، كان عدنان مخلوف، (أخ زوجته) المسؤولَ عن الحرس الجمهوري.

في بداية التسعينات، أصبح باسل، الابن البكر للأسد الذي كان يتمّ إعداده لخلافة والده قبل وفاته في حادث سير، أحد أعضاء الحرس الجمهوري وقائد لواءٍ مدرعٍ من النخبة، على الرغم من أنه لم يكن سوى رائدٍ في القوات المسلحة. إن تكتيكات “كل السلطة للعائلة” لم تتغيّر عندما توفي حافظ الأسد، وتشمل القائمة غير الحصرية من أفراد العائلة المعينين في مناصب عليا في عهد بشار: شقيقه ماهر، القائد الفعلي للفرقة الرابعة المدرعة. نسيبه، ذو الهمة شاليش، المكلّف بقيادة الوحدات المسؤولة عن سلامة الرئيس وعائلته. قريبٌ آخر (ابن خاله) حافظ مخلوف الذي يرأس الفرع 251 في المخابرات العامة، ويُعتقد أنه الحاكم الفعلي لتلك الوكالة (المخابرات). وقريبٌ آخر، هلال الأسد، كان قائداً للشرطة العسكرية في الفرقة الرابعة المدرعة. وصهر الأسد، آصف شوكت، الرجل القوي في أجهزة المخابرات حتى وفاته في العام 2012.

 

المظلومية العقائدية للضباط السنّة

بالإضافة إلى المظالم المادية، تقريباً أجمع الجميع على ما يرونه أخلاقية عدوانية مناهضة للدين ضمن القوات المسلحة. الأغلبية الساحقة من الضباط السنّة الخاضعين للبحث الميداني غير متحمسين لجماعة الإخوان المسلمون السورية، ولا للتشكيلات الإسلامية الأخرى في بلدهم، وكذلك في العالم العربي بأسره. ومع ذلك، فإن الضبّاط يحترمون الإسلام ويميلون للمحافظة الاجتماعية. يستنكر الضباط العلويون أي تلميحٍ للتدين بين زملائهم السنة، بما في ذلك الصلاة اليومية، والتي هي عماد الإسلام. الاحتكاك الناتج بين الضباط السنّة، وما يعتقدون بأنه طائفيةٌ علويةٌ مختبئةٌ وراء قشرةٍ علمانية، يذكي السخط السنّي داخل القوات المسلحة السورية. وفقاً لملازمٍ أوّل ومقدّمٍ، على التوالي: “أنا لم أجرؤ على الصلاة في مسجد الحي خلال أيام الإجازة، ناهيك عن الصلاة أثناء الخدمة. لو أن مخبراً شاهدني في المسجد، لكنت قد استدعيت على الفور إلى الأمن العسكري لشرح لماذا كنت حاضراً في مكانٍ يمكن أن يؤوي متطرفين وجهاديين. في الحقيقة، دائماً أتجنب ركن سيارتي بالقرب من المساجد، لمجرد أن أكون على الجانب الآمن”.

“من أجل التقدم في الترقية، على الضابط أن يكون رخواً أخلاقياً. في عام 1993، استدعاني ضابط استخبارات إلى مكتبه، سألني: فيما إذا ذهبت لزيارتك، هل ستكون زوجتك حاضرةً؟ أوضحتُ بأنني من الريف السوري، وأن ذلك ليس من تقاليدنا أن تكون المرأة حاضرة عندما يكون الضيوف من الرجال وليسوا برفقة زوجاتهم. قلت له بأنه فيما إذا كان سيزورني دون رفقة زوجته، فزوجتي ستحييه، ولكنها لن تبقى برفقتنا، فردّ بأن هذه أخلاقٌ رجعية ولا تليق بضابط”.

كما أن رؤساءهم العلويين يتوقعون منهم أن يشربوا الويسكي في المناسبات الاجتماعية، وهم يسخرون من الضبّاط السنّة الذين يمتنعون عن القيام بذلك انسجاماً مع تعاليم الإسلام. العديد من المقابلات تزعمُ بأن القلّة من الضباط السنّة الذين يشغلون مناصب عليا في التراتبية يتفاخرون بكل صراحة وعلانية بشرب الكحول، وأحياناً يحتفظون بزجاجات من الخمور في مكاتبهم داخل الثكنات بشكلٍ واضحٍ للعيان، كي يثبتوا أنّهم سنّة فقط إسمياً.

ثمة نقطةٌ أخرى للخلاف وهي الحجاب، الشيء المفضل لدى معظم الضباط الذين التقيتهم هو أن ترتدي زوجاتهم وبناتهم الحجاب. ومع ذلك، فإن الحجاب يشي بتعلّق بالعقيدة الدينية، والذي هو بالضبط الرسالة الخاطئة لضابطٍ يريد أن يتسلّق المراتب في القوات المسلحة. وهكذا، اختار بعض الضباط ألا ترتدي زوجاتهم الحجاب ليبقوا على الجانب الآمن مع النظام، بينما رفض آخرون أن يحذوا حذوهم بغض النظر عن العواقب على حياتهم المهنية.

هذا النوع من الشعور بالضيق السنّي، مختلفٌ عن التنافس على الموارد والتقدم في سلك الضباط. على الرغم من سياسات التحيز الطائفية، فإن نظام الأسد رقّى بعض الضباط غير العلويين إلى مناصب أعلى في الجيش، من أجل نزع الصورة الطائفية عن وحداته القتالية الخاصة ووكالات استخباراته. أرسل النظام إشارةً إلى السنة في الجيش بأن التقّدم المهني يظل ممكناً لحفنةٍ منهم، شريطة أن لا يتبنوا التدين، ويفضل أن يكونوا، أشخاصاً ضد الدين. ولأن على الضبّاط السنّة أن يخفوا قناعاتهم الأخلاقية والدينية، يعتملُ فيهم شعورٌ عميقٌ بالذلّ والمهانة، الناتج عن اضطرارهم لتزوير قيمهم.

زادَ من اغتراب الضباط، عدم الارتياح النابع من الحاجة إلى البقاء باستمرارٍ على حذر في حضور زملائهم العلويين، وعلى الرغم من أن بعض الصداقات العابرة للطائفية نشأت في سلك الضباط، فقد ظلت الاستثناء وليس القاعدة.

يعرف الضباط السنّة أن ثمة مخبرين من السنّة بينهم، أيضاً، لكنهم مقتنعون بأن جميع الضباط العلويين يكتبون تقارير استخباراتية عن زملائهم غير العلويين. ليس من المستغرب، في بيئة تفتقد للثقة بشكلٍ كبيرٍ جداً، أن تكون قيم الصداقة أو الزمالة العسكرية متدنيةً. وصف الضباط الذين أجريت معهم المقابلة مراراً أنفسهم كدرجةٍ ثانية، وادّعوا أن مرؤوسيهم العلويين أكثر تأثيراً منهم في القوات المسلحة. وهناك إجماعٌ بينهم على أن التنشئة الاجتماعية العسكرية، تجعل الشعور الطائفي بين الضباط أكثر وضوحاً، لأنه يغذي لدى العلويين الإحساس بالإفلات من العقاب، ويذلّ الضباط السنّة. الجيش بهذا المعنى يعيدُ إنتاج الطائفية السائدة في المجتمع السوري، ويكثّفها.

وجهاتُ النظر التي جُمعت خلال المقابلات زعمت بأن العدد الإجمالي للضباط السنّة في الجيش السوري يتراوح بين 50000 إلى 60000، وأعلى تقدير لعدد الضباط الذين انشقوا عن القوات المسلحة السورية في أعقاب التحركات الشعبية عام 2011 هو 3000.

في الحقيقة، ظل الانشقاق ظاهرة سنية، إذ انضمّ عدد قليل جداً من غير أهل السنّة للثورة (أي المسيحيين، الدروز، الإسماعيليون)، وتقريباً لم ينشق أي ضابط علوي. التحيّز الطائفي هدفَ في الأساس إلى وقف مد الانقلابات في سلك الضباط السوريين المضطرب سابقاً، ولكن عندما جاء التحدي لنظام الأسد من التحرك الشعبي الذي تصاعد باتجاه التمرد، فإن التكتيك العازل للانقلاب نفسه أثبت فعاليةً في الحفاظ على تماسك سلك الضباط العلوي الموالي بشكلٍ تام.

هناك سؤالٌ لا يجيب عنه هذا البحث: لماذا انشقّ بعض الضبّاط السنة في حين بقي آخرون موالين؟ تحتاجُ الإجابة على هذا السؤال إلى مقابلة الضبّاط السنة الموالين، والتحري عن أسباب بقائهم الى جانب النظام، وهو أمرٌ لم يكن متاحاً لوجستياً.

كما من المرجح أن الضباط المسيحيين والدروز والإسماعيليين يفضلون، كأعضاء في جماعات أقلوية، نظام الأسد على بدائل محتملة يهيمن عليها الإسلاميون، ولكن هذا أيضاً مجرد تخمين. الأمر بحاجة إلى عملٍ ميدانيٍ إضافي من أجل الكشف عن الديناميات الطائفية لدى الضباط، قبل، منذ ذلك التحول في العام 2011.