المجتمع السُنّي العراقي صراع الهوية والوجود

12 مايو، 2016

يتمثل العنوان الأبرز لإشكالية المجتمع السُنّي العراقي في الحفاظ على هويته كجزء من هوية وطنية جامعة. لكنّ واقع الانقسام المجتمعي العراقي، يدفع المجتمع السُنّي باتجاه تعزيز هويته الفرعية وفقا لما يحقق له الحفاظ على وجوده، والشراكة الحقيقية في قيادة البلد، وموارده، وعدم خروجه من دائرة التنافس مع المجتمعات العراقية الأخرى التي تعزز هوياتها الفرعية على حساب الهوية الجامعة.

لمْ تعد الهوية الوطنية، هي الهوية الجامعة لكلّ العراقيين، العرب والأكراد، السُنَّة والشيعة، كما كانت من قبل؛ إذْ برزت الهويات الفرعية للمكونات كواقع يُظهر كل من الهوية الكردية، والهوية السُنيَّة، والهوية الشيعية، كهويات متعددة يدين لها بالولاء أبناء هذه المناطق والأعراق والطوائف، أو تلك.

كما برزت هويات أخرى أقل وضوحاً بسبب تدني النسبة السكانية للمنتمين لها، مثل الهوية التركمانية، والمسيحية، والصابئية، والأزيدية وغيرها.

إنَّ طبيعة تكوين المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة قبل أكثر من تسعة عقود، تؤكد على تعددية غير متجانسة فكرياً وثقافياً وعرقياً وطائفياً؛ وتؤكد على صراعات اجتماعية وتاريخية عميقة الجذور أدت إلى حالة من غياب الثقة بين مكوناته الكبرى دفعت باتجاه بحث تلك المكونات عن دور سياسي يعزز الحفاظ على هويتها الفرعية المهددة بالإلغاء من قبل المكونات الأخرى في ظل غياب هوية وطنية جامعة لكلّ العراقيين، وبروز الهويات الفرعية.

تعدد الانتماءات وتناقض الولاءات، إضافة إلى غياب هوية وطنية جامعة، تجعل من غير المنطقي قيام نظام سياسي على أسس سليمة، وبات اعتماد التوافق الضامن لإشراك الأقليات في الحكم، أحد أبرز الاستراتيجيات الكفيلة بتجنب النزاعات بين المكونات عبر توافق قادة الكتل السياسية الكبيرة الذين يتقاسمون السلطات ويتخذون قراراتهم على أساس التوافق على حلول وسط لعدّة قضايا في آنٍ واحد مقترنة بتنازلات متبادلة، ليست بعيدة عن مفهوم الصفقات السياسية.

يتمسك السياسيون العراقيون من الكتل الممثِلة للأقليات بالديمقراطية التوافقية ضماناً لاستمرار شراكتها في الحكم، فيما يصرون على أنّهم يمارسون عملية ديمقراطية حقيقية مستوفية للمعايير المتعارف عليها في الديمقراطيات العريقة رغم حداثة التجربة الديمقراطية في العراق؛ وهؤلاء يعتقدون أنَّ إجراء الانتخابات، ونجاحها، يمثل كلّ الديمقراطية، فيما لا تُعدّ الانتخابات في حقيقتها إلا عنواناً واحداً من عناوين واسعة ومتشعبة.

أما المجتمع السُنّي فلم يعد التحدي الأساسي له يتمثل في المشاركة في حكومة شراكة وطنية، أو إعادة التوازن في المناصب السيادية، بل في إعادة صياغة هوية وطنية عراقية جامعة، وبناء دولة وطنية حقيقية متغلبة على الولاء والانتماء للعرق، أو الطائفة; أي، هوية جامعة نابذة للهويات الفرعية التي تحكم الان المسار السياسي للمكونات العراقية، وتحدد اتجاهاته، وغاياته، والتي يتم تغليبها في الغالب على مصلحة البلد في حال تعارض الهوية الفرعية مع مصلحة الطائفة، أو العرق.

لقد تمحور العقل الجمعي السُنّي ضمن ثلاثية الدولة العراقية: الأرض والشعب والجيش، وظلّ الجيش رديفاً للدولة، حيث شكَّل الضباط السُنَّة عماد هيكلته منذ تأسيسه في العام 1921.

غياب مؤسسة الجيش التي تقاتل باسم الدولة العراقية، ولأجلها، واستلاب قرارها وتسييرها وفق غايات وأهداف مكون دون آخر، أشعر المجتمع السُنّي بعدم وجود قوة مسلحة تمثله في الدولة العراقية وتحمي وجوده؛ لهذا لمْ تعد مسالة هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية عسكرياً هي المسألة الأهم لدى عموم المجتمع السُنّي، ولمْ تعد هي الحل كما يروج السياسيون لاستعادة العراق، كدولة ومؤسسات قادرة على البقاء ضمن الحدود الجغرافية المرسومة قبل قرنٍ كامل.

تاريخيا، تمسك السُنَّة بالدولة المركزية، لكن بعد معاناتهم في ظل الاحتلال واستمرارها في مرحلة ما بعد الانسحاب، أصبح السُنَّة أكثر انفتاحا على الفرص الجديدة التي أتاحها الدستور بخصوص تشكيل الأقاليم التي تجنبهم إرث السلطة المركزية، وممارساتها.

وبعد عقود طويلة من الحكم الشمولي تمكنّت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا من إسقاط نظام صدام حسين الشمولي في 9 أبريل 2003. ومنذ تلك اللحظات التاريخية أدرك العراقيون أنَّ حاضرهم ومستقبلهم القريب والبعيد إنما يتوقف على الإسراع في اغتنام الفرصة الزمنية لاقتطاع المزيد من المكاسب لكلّ مكون من مكوناته حتى إذا كانت على حساب مصالح المكونات الأخرى؛ وهو ما انعكس سلباً على بناء مؤسسات قادرة على المضي قدماً باتجاه التأسيس لديمقراطية سليمة، أو بناء دولة قوية متماسكة.

ومع الإقرار بحجم وخطورة التحديات التي تواجهها الدولة العراقية وواقعيتها، يكشف مشهد الحراك السياسي منذ إعلان نتائج انتخابات أبريل 2014 عن أنّ عموم القوى السياسية، الشيعية الحاكمة منها خصوصا، ليست على تلك الدرجة من المسؤولية والأهلية لمواجهة تلك التحديات، والخروج من الأزمة الراهنة دون تضحيات كبيرة لها انعكاساتها السلبية على مستقبل البلاد في المدى القريب، أو البعيد.

يحاول المجتمع السُنّي غير المسيس الحفاظ على هويته التي يرى أنّها مهددة بالضياع، وأنّ القوى الفاعلة على الأرض القادرة على الحفاظ عليها، هي قوة سُنّية مسلحة في مواجهة تهديدات قوى مسلحة أخرى، قومية كردية تمثلها قوات البشمركة، وطائفية شيعية تمثلها الميليشيات وقوات الحشد الشعبي ومؤسسة الجيش الذي هو الآخر بات محسوباً كقوة شيعية بالدرجة الأولى؛ لكن الغياب الكامل لقوة المقاومة العراقية المسلحة لم يجد المجتمع السُنّي قوة تتشارك هويتهم سوى قوة تنظيم الدولة الإسلامية بمفردها؛ لكنّ هذا الخيار ليس خيارهم المثالي، وهو يتناقض مع الرغبة في بناء مستقبلهم المتعايش مع المكونات الأخرى في مجتمع متجانس يُغلِّب الهوية العراقية الجامعة على الهويات الفرعية؛ العرقية أو الطائفية.

تبدو الخيارات المتاحة أمام المجتمع السُنّي معدومة لأسباب منها، غياب البديل الموصوف بالبديل الوطني من خارج دائرة الحكومة المركزية، وهو البديل الذي تمثله قوى عشائرية، أو فصائلية، أو سياسية، منسجمة مع تطلعات هذا المجتمع السُنّي، وحريصة بنكران ذات على تحقيق مصالحه ضمن المصالح العراقية العليا وليس خارجه.

وفي مقابل ذلك، تجنح قوى سُنّية باتجاه المضي لإقامة إقليم سُنّي واحد يشمل المحافظات السُنيَّة على الرغم من أن هذا سيؤكد ويعزز الانقسام السُنّي الشيعي ويظهره إلى العلن كواقع لا يمكن القفز عليه، وسيشجع على إقامة إقليم شيعي في مواجهة الإقليم السُنّي، أي إقليمان يحتكمان إلى الهوية الطائفية لا إلى الهوية الوطنية. إلاَّ أن إقامة أقاليم متعددة على أسس جغرافية المحافظات سيعطي صورة مغايرة تعكس عراق عربي لا مركزي.

ومع غياب أي أفق في المدى المنظور لتسوية سياسية للأزمة التي أصبحت تؤسس لحالة انعدام إمكانية المجموعات البشرية في المجتمع العراقي من التساكن، أو التعايش، السلمي في عراق موحد، سيظل العراق رهن تقلبات موازين القوى المحلية، أو ما قد تفرضة الإرادات الإقليمية والدولية لرسم صورة ما لمستقبل يصعب التكهن بماهيته وانعكاساته على مكونات العراق العرقية والطائفية، مع استمرار القلق على المجتمع السُنّي من الحفاظ على هويته الفرعية ضمن إطار الهوية الجامعة وقدرته على الاستمرار في خوض صراعه من أجل البقاء.