10 سنوات من الحصار.. حرمت غزة من الحياة
23 مايو، 2016
في «غزة» المحمومة بالانقسام والحصار، سترى كل ما لا يُمكن لبشر احتماله، فإذا ما أطلقت بصرك إلى الزاوية الشرقية لما يُعرف بـ«رمزون السرايا»، ستجذبك لوحات إعلانية عريضة، واحدة تلوم حكومة «رام الله» على حصار غزة، والأخرى تعاتب الحكومة المصرية على خطف أبناء غزة الأربعة.
وحين تُدير ظهرك للصور، باتجاه الغرب، ستُرهقك نظرات أصحاب المحال التجارية، الذين يرقبونك كـ«زبونٍ» يُحرك وطأة الركود في تجارتهم، وما أن تهم الخطو بحثًا عن سيارة تُقلك إلى حيث تُريد، ستُزعجك رائحة الغاز المنبعث من سيارات الأجرة؛ إذ بات بديلًا عن «السولار» لدى البعض، وإذا ما قررت المشي سيستوقفك في ساحة الجندي المجهول، اعتصام الخريج «سعيد اللولو»، الذي يبحث عن العمل منذ عشر سنوات.
وإن تركته مستكملًا مشوارك في الاتجاه المعاكس، سيجذبك جَمعٌ من ذوي المرضى، تحلَّقوا أمام مبنى إدارة العلاج بالخارج في شارع «الجلاء»، بعد أن خابت محاولاتهم في إخراج مرضاهم للعلاج، أما إذا قررت المواصلة إلى «بحر غزة»، ستفاجأ بالمصطافين الذي خرجوا قبل الظهيرة؛ للتواجد على ساحل البحر؛ هربًا من حرِّ البيوت الفاقدة للكهرباء.
إنها عشر سنوات من الحصار، غيرت ملامح كل شيء في المساحة المقدرة بـ«360 كيلو متر مربع»، وتضم من السكان قرابة المليونين. عشر سنواتٍ دُمرت خلالها البنية التحتية للقطاع، أنهكت الاقتصاد، وهدمت النسيج الاجتماعي، فيما زاد انغلاق الأفق السياسي، مع احتدام الانقسام الفلسطيني.
أزمة غزة.. معبر رفح المصري
»أنا ما بعرفش أَحوّر أو أتآمر، حل القضية الفلسطينية، وإقامة دولتها، السبيل الوحيد لتحقيق سلام أكثر دفئًا بين مصر وإسرائيل»، هذه العبارة، التي قالها قبل أيام قليلة، الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، في خطابه الداعي لتسوية سياسية للقضية الفلسطينية، لا تعفيه من مسؤولية خنق الفلسطينيين بإغلاق معبر رفح بشكل مُستمر، فخلال العام الماضي فُتح المعبر 22 يومًا فقط؛ لحالات إنسانية.
واحدة ممن تابعوا خطاب الرئيس السيسي باهتمام، كانت الفتاة الفلسطينية «ريم موسي»، في العشرينات من العمر، حاولت أن تبحث عن بصيص أمل لمصيرها القادم، بعد عودتها قبل يومين، دون التمكن من السفر عبر معبر رفح الحدودي.
التفاصيل تكمن في رحلة معاناة تخوضها الفتاة منذ أربع سنوات، للخروج من قطاع غزة المحاصر؛ بهدف الوصول إلى خطيبها في الإمارات؛ فقد حاولت أربع مرات السفر عبر معبر رفح، ومرتين عبر معبر «بيت حانون» (إيرز)، دفعت في إحدى المرات خمسة آلاف دولار؛ رشوة لضُبّاط مصريين؛ تحت بند «التنسيق»، هذا التنسيق الذي خذلها فيه «أبو العز»، الضابط المصري، ولم يف بوعد إخراجها عبر «حافلة التنسيقات».
تقول ريم، إنها مع كل مرة يُفتح فيها معبر رفح، تصل الصالة الفلسطينية في الساعة السادسة صباحًا، وتبقى حتى منتصف الليل، طيلة الأيام الثلاثة أو الأربعة، التي يفتح فيها المعبر، ثم تعود منهكة ومقهورة إلى بيتها الكائن في مدينة «خانيونس». ففي 12 مايو (أيار) الجاري، اليوم الثاني لفتح معبر رفح، تواجدت في الثامنة والنصف صباحًا، دخلت حافلة المسافرين، بقيت على حالها هذا مع عشرات المسافرين حتى 11 مساءً، أو حتى لحظة إعلان الجانب المصري إغلاق المعبر لتعطل الحواسيب.
لكن ما الذي حدث حينها؟ تقول ريم لـ«ساسة بوست» «قام سائقو الحافلات، برمي جوازات السفر والحقائب بالقرب من البوابة الخارجية الفلسطينية، وأخبرونا بأن المعبر أغلق، وعلينا المغادرة». تصمت قليلًا، وتحاول أن تغالب دموعها، قبل أن تواصل «شعرت بذل وإهانة لا مثيل لها، وثائقنا الرسمية في الأرض، وعلي البحث عن جواز سفري وحدي. بقيَ الناس يبحثون عن جوازات سفرهم وحقائبهم حتى الرابعة فجرًا».
فاجعة مرضى غزة
يداعب صغيرتيه «ريماس» (ثلاث أعوام) و«آية» (عام)، محاولًا التغلب على ظروفه الصحية، فهذا الأب الحريص على إكرام أطفاله بالرعاية والحب، يعاني منذ عام من أجل الحصول على علاج لمرض السرطان.
إنه الإعلامي الفلسطيني «نصر أبو فول» (28عامًا)، الذي ازداد الأمر وطأة عليه؛ عندما مُنع أمنيًا من مواصلة علاجه في مستشفيات القدس، قبل ثلاثة شهور، أغلق معبر بيت حانون في وجهه؛ بعد أن أجرى عمليتين جراحيتين في مستشفى «ماري يوسف»، ومستشفى «المقاصد». توجه الرجل إلى الطريق الآخر، معبر رفح، قدّم أوراقه الثبوتية التي تقضي إخراجه كحالة إنسانية طارئة من غزة، لكن، ومع الحملة الكبيرة التي قام بها صحافيو قطاع غزة دعمًا لزميلهم أبو فول، لم يتمكن الأخير من السفر للعلاج.
يقول أبو فول في حديث مع «ساسة بوست» «أحتاج لعلاج إشعاعي وكيميائي، وكليهما صعب، والتأخر يوثر على صحتي، يكفي أن الاحتلال منعني من السفر، يجب على الحكومة بغزة أن تقوم بواجبها، فأنا أصنف ضمن الحالات الإنسانية العاجلة».
إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية، تذكر أنه خلال الأعوام العشرة الماضية، تُوفي حوالي 350 مواطنًا، جراء منعهم من العلاج بالخارج، لكن ما زال هناك الآلاف يعانون من أمراض صعبة، ليس بإمكان مشافي قطاع غزة التعامل معها، ويجب إخراجهم للعلاج، فضلًا عن أن قطاع غزة يفتقر للعديد من الأصناف الدوائية، فهناك عجز بـ30٪ من الأدوية، إضافة إلى 40٪ من المستهلكات الطبية والمعدات.
الأمن الغذائي ينضب
«الأمن الغذائي للشعب بدأ ينضب، الدخل القومي انخفض إلى النصف، وارتفعت نسبة الفقر إلى 80%»، هكذا تحدث رئيس هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (İHH)، «بولنت يلدريم»، عن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة جراء الحصار الإسرائيلي قبل أيام.
في دهاليز قطاع غزة، كانت «أم أحمد» (37 عامًا) واحدة من 70% من سكان القطاع، الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ويعتمدون على المعونات الغذائية، حسب تقارير الأمم المتحدة، ففي الأسبوع الماضي، اضطرت أم أحمد، إلى بيع أكياس الحليب والبقوليات، التي حصلت عليها كطرد معونات غذائية، من وكالة «الغوث اللاجئين»، فهي لم تتردد في البيع؛ نظير حصولها على بضعة «شواقل» ستمكنها من شراء الخضار الأساسية، التي افتقدتها ثلاجة بيتها منذ أسبوعين، كما تقول. وفضّلت هذا الأمر حتى على تعبئة «جرّة الغاز» الفارغة، فهي تعتمد في طهي الطعام على منصب كهربائي، كما أتاح ذلك «جدول الكهرباء» في بيتها بشمال قطاع غزة.
لدى أم أحمد ستة أبناء، لكنها تنشغل أكثر بمصير البكر أحمد، الذي عاشت تحلم بوصوله إلى الثانوية العامة. كان وصول أحمد في أيام قاسية جدًا على بيت فقد عائله عمله كخياط. تحاول الأم جاهدةً توفير الحد الأدنى من الاحتياجات لأحمد، الطعام المناسب ونقود الدروس الضرورية، «عليه أن يباشر استعداده للامتحانات القريبة، على ضوء الكاشف الضعيف، وتحت سقف بيتنا «الزينكو» في هذا الحر، أشفق عليه كثيرًا، فأطلب منه أن يذهب إلى بيت الجيران؛ حيث الإنارة أفضل بفعل المولد الكهربائي»، تقول أم أحمد.
حريق الشمعة وأزمة الكهرباء
على فراش أرضي متواضع، خلد الصغار «يسري» (3 أعوام)، و«رهف» (عامان)، والرضيع «ناصر محمد الهندي» (شهران)، للنوم ليلة السابع من مايو (أيار)، داعبتهم قبل النوم بلحظات، ذكريات الفُسحة الصغيرة، التي حظوا بها مع والديهم على ميناء غزة. كانوا ممتنين لوالدهم الذي اصطحبهم هربًا من ضيق البيت المستأجر في زقاق مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة، وأخذوا وعدًا من أمهم أن تُعاد «الطشه» مرة أخرى.
ما سبق هي اللحظات الأخيرة لهؤلاء الصغار، الذين التهمت أجسادهم نيران حريق تسببت فيه شمعة أشعلتها الأم؛ لتخفف خوفهم من العتمة الملازمة لحياتهم. تمكنت النيران من أثاث بيتهم الفقير، فلم يستطع أحد إنقاذ الأطفال الثلاثة. أُنقذ ـ فقط ـ مهند، الذي يرقد الآن في المستشفى بحالة صحية خطيرة.
شكلت مأساة آل الهندي صدمة كبيرة للغزيين؛ إذ انضم الأطفال الثلاثة إلى 21 طفلًا آخرين، قضوا جراء استخدام بدائل الكهرباء، كالشمع والغاز، فحسب «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان»، ارتقى 26 شخصًا، بينهم 21 طفلًا بين عامي 2010 و2015. تلك الأزمة التي تتراوح أسبابها بين الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني، الذي خلف أزمة ضريبة «البلو»، المفروضة من قبل حكومة رام الله على شركة توزيع كهرباء غزة؛ إذ لا يمدد الإعفاء من الضريبة، إلا في حالة نكسة ما تمر بسكان قطاع غزة، يتراشق بعدها كلا الطرفين الاتهامات وإلقاء المسؤولية عن هذه النكسة.
ولا يبعد عن أسباب الأزمة أيضًا التضييق الحكومي المصري، الناجم عن توقف خط «غزة 1»، المغذي لجنوب القطاع، من شركة الكهرباء المصرية، والذي سبقه توقف الخط المصري الثاني، «غزة 2»، مصابًا بخلل قبل أيام. ويُزود الخطان المصريان القطاع بطاقة قدرتها 20 ميجاوات.
وفي المحصلة، أصبح حلم الغزيين ـ الآن ـ استمرار حظهم بـ«جدول الثمانية»، الذي يُنعم عليهم بثمان ساعات وصل للكهرباء، مقابل 12 قطع. كما يمكننا الإشارة هنا، إلى المحاولات الخجولة التي قامت بعد مأساة «آل الهندي»، لدعم بيوت قطاع غزة الفقيرة، بتركيب نظام إنارة آمن، يعرف بـ«الليدات»، شارك فيها، حتى العسكريين، من كتائب «عز الدين القسام»، الجناح العسكري لـ«حركة المقاومة الإسلامية» (حماس)، لكن الخوف من مصير شمعة لا يبعد، بأية حال من الأحوال، عن بال سكان القطاع؛ إذ لا يمكن لهذا المبادرات أن تشمل 120 ألف أسرة فقيرة، مُسجلة رسميًا، لدى وزارة الشؤون الاجتماعية، وذلك على حساب أن تكلفة المنزل الواحد، تصل إلى 150 دولار، فالموازنة التقديرية لتركيب الإنارة البديلة تصل إلى 18 مليون دولار، لا يُمكن توفيرها بشكل منفرد، كما قال «يوسف إبراهيم»، وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية.
البطالة تنهك الخريجين
«أنا خريج بدي شغل، أنا مضرب عن الطعام»، في ساحة الجندي المجهول (حي الرمال بغزة)، وبالقرب من زاوية النصب التذكاري لهذا الجندي، حمل الشاب «سعيد اللولو» (29 عامًا)، لافتته التي كتبها بخط يده؛ ليعبر عن معاناته القائمة منذ تخرج في قسم الإعلام بجامعة الأزهر، عام 2007؛ فهو عاطل عن العمل
بدأ اللولو تحركه السابق، مع بداية شهر أبريل (نيسان) الماضي، ليصبح اليوم رمزًا لمعاناة الخريجين الفلسطينيين، الذين انضم بعضهم إليه، إثر انتشار خبر اعتصامه على مواقع التواصل الاجتماعي. المفارقة أن بعض من انضم إليه، لم يتخرجوا بعد من الجامعة، لكنهم رأوا فيه مصيرهم المحتوم لسكان قطاع غزة، منذ عشرة سنوات في عمر الحصار.
ثمة أمر آخر يمكن الإشارة إليه، وهو أن قضية سعيد، أصبحت ساحة لصراع مع الحكومة الفلسطينية بقطاع غزة؛ إذ تعرض الشاب للاعتقال ثلاث مرات، لينتهي الأمر بالتعهد على عدم العودة لساحة الجندي المجهول، لكنه يعود في كل مرة. تتحدث «ساسة بوست» معه، وهو في طريقه إلى مُستشفى القُدس؛ لمتابعة أحواله الصحية؛ إثر الإضراب، فقال «نريد لفت الانتباه لمعاناتنا، يجب أن يعلم المسؤولون ما هو حالنا بعد هذه السنوات من البطالة».
إذا ما استشهدنا بالأرقام، يتضح لنا أن نسبة البطالة ارتفعت إلى ما يزيد عن 60%، وفق إحصاءات المركز الوطني للمعلومات، في مجتمع قطاع غزة، حتى إن برنامجًا حكوميًا، أُعلن عنه؛ لتشغيل الخريجين، كشف عن مأساة كبيرة، تمثلت في تقدم 41 ألف شخص، لشغل وظيفة مؤقتة، بينما كان البرنامج يستهدف فقط 2500 متخرج، وسيقدم 500 فرصة عملٍ على شكل عقود، لمدة عام كامل، وألفي فرصة بشكل دوري، بواقع 500 فرصة عمل كل ثلاثة أشهر.
قائمة ممنوعات عن غزة
تزعم صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، أن إسرائيل تسمح بتصدير قطاع غزة للأثاث المصنع، إلى أراضي 1948، لكن هذا الزعم تنقضه معلومة واحدة، وهي أن إسرائيل في الأساس تمنع دخول الأخشاب المستخدمة في صناعة الأثاث إلى قطاع غزة.
لم يقتصر الأمر على الأخشاب، فقائمة الممنوعات الإسرائيلية عن غزة، طالت قرابة 400 صنف من المواد، بحجة منع «الاستخدام الثنائي»، أي منع استخدامها في صناعة الأسلحة أو حفر الأنفاق. وصل الأمر إلى درجة منع «الكزبرة»، و«الشيكولاته»، و«ألعاب الأطفال»، و«الدفاتر»، وأنواع محددة من الفواكه، كما يُمنع أيضًا دخول «زيت الخَروَع»، و«الأسمدة»، وأجهزة التصوير بالأشعة السينية (رنتجن)، والرافعات والمعدات الثقيلة، والأنابيب، والبطاريات، وأجهزة لحام المعادن، وذلك بحسب تقرير نشرته جمعية «جيشاه – مسلك» الحقوقية.
أما أسوأ ما يُمنع عن سكان القطاع، فهو «الأسمنت»؛ إذ أصبح القطاع يعاني من عجز سكني، وصل لحوالي 70 ألف وحدة سكنية، فالقطاع بحاجة طبيعية إلى 10 آلاف وحدة سكنية سنويًا، عدا أن خسائر الحرب الأخيرة، تسببت في تدمير أكثر من 17 ألف منزل.
يشار إلى أن هناك سبعة معابر لقطاع غزة، تخضع ستة منها للسيطرة الإسرائيلية، والمعبر السابع، «رفح البري»، للسيطرة المصرية. وأغلقت إسرائيل أربعة معابر باستثناء معبري «بيت حانون» و«كرم أبو سالم»، بعد عام 2007. وفيما يدخل المواطنون عبر معبر بيت حانون (إيرز)، إلى الضفة الغربية، يُسمح أحيانًا بإدخال ما بين 300 إلى 400 شاحنة أسمنت، من أصل 700 إلى 900 شاحنة، يحتاجها القطاع يوميًا، عبر معبر كرم أبو سالم، المنفذ التجاري الوحيد.