تدمير النظام الأخلاقي في سوريا

27 مايو، 2016

ناو اللبنانية –

“لن يتطلب إحلال السلام المستدام في سوريا وقف العنف وفقط، ولكن أيضا سيتطلب تغيير سرديات وعقول الناس من أجل رؤية خصومهم مرة أخرى كبشر لهم حقوق وقيم مماثلة”.

في 28 أبريل، قامت مجموعة من قوات سوريا الديمقراطية، وهو التحالف الذي يقوده الأكراد ضد تنظيم الدولة الإسلامية، بالتمثيل بجثث عناصر المعارضة في شوارع عفرين، وهي مدينة كردية في شمال سوريا. وفي يوم 12 مايو، التقط مقاتلو المعارضة صورة وهم يقفون على ثلاث جثث في مدينة زارة، وهي مدينة علوية في محافظة حماة. وفي يوم 16 مايو، وقف أحد كبار قادة الجيش السوري لالتقاط صورة أمام جثتين ممزقتين ومعلقتين خلفه في دير الزور.

لقد أدى الصراع في سوريا إلى تهيئة الظروف اللازمة للبناء المنهجي لسردية “الآخر” باعتباره عدوا وهدفا مشروعا للعنف. وعلاوة على ذلك، وصلت مسألة نزع الإنسانية عن “الآخر” إلى مستوى جديد أصبح فيه الاحتفال بمقتل مقاتلين آخرين من الجماعات المنافسة أمرا أكثر قبولا من الناحية الأخلاقية. وهذا التطور مقلق للغاية، لإنه يزيد من مخاطر الصراع الطائفي على نطاق واسع، ويزيد المجازر الجماعية التي تحدث في سوريا.

لم يصبح القتل الممنهج في سوريا ممارسة مقبولة على مدى السنوات القليلة الماضية وفقط، ولكن أصبح أيضا ضرورة وجودية لحماية “أنفسنا” من “الآخرين”. وقد أدى الاستخدام المفرط للقوة من قبل نظام الأسد ضد المتظاهرين السوريين السلميين منذ شهر مارس 2011، والفشل في حماية المدنيين السوريين إلى خلق بيئة مناسبة للعنف. كما عمل نظام الأسد على تأسيس انقسام مجتمعي ممنهج بين مؤيديه ومعارضيه للنظر إلى المعارضين كأعداء. وعن طريق نزع الإنسانية عن المعارضة، يتم استبعادهم من النظام الأخلاقي المتعارف عليه والذي يحكم بقية المجتمع السوري، كما يؤدي إلى شرعنة قتلهم. وبحسب تيرل نورثرب ،المتخصصة في علم النفس الاجتماعي، تؤدي حالة التجريد من الإنسانية إلى جعل العنف أكثر قبولا، لأنه من السهل أن تلحق ضررا بأي شيء أو بشخص ما يُنظر إليه على أنه غير إنساني.

وعلى الرغم من أن حالة التجريد من الإنسانية كان يتم توظيفها بشكل رئيسي من قبل النظام السوري خلال المراحل الأولى من الصراع، إلا أنها أضحت ممارسة شائعة بين معظم الجماعات المسلحة في سوريا. وفي الحوادث الثلاث المذكورة آنفا، استخدم الجناة توصيفات سلبية لتصوير أعدائهم على أنهم دخلاء لتبرير أعمالهم غير الإنسانية ضدهم. وعندما تم استعراض 40 أو 50 جثة من مقاتلي المعارضة  على متن شاحنة يقودها مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية تجوب شوارع عفرين، ركض سكان البلدة وراء الشاحنة وهم يتفحصون الجثث ويصورونها ويهتفون بتحية الجنود. وقد تمت الإشارة إلى عناصر المعارضة المقتولة بوصفهم جهاديين ومتطرفين. وفي حادث مدينة زارة، أشارت قوات المعارضة إلى جثث القتلى الموجودة في الصورة بوصفهم شبيحة (وهم البلطجية الموالين للنظام). وادعى القائد الكبير بالجيش السوري أن الجثث التي كانت معلقة خلفه تخص أعضاء سابقين بتنظيم الدولة الإسلامية. وفي جميع هذه الحوادث، تم توظيف هذه المصطلحات لنزع الإنسانية عن القتلى. 

ولا تقتصر مثل هذه الممارسات على الحوادث الثلاثة أو الجماعات المذكورة هنا. بل قامت جماعات أخرى بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة بتصوير مقاطع فيديو ممنهجة ذات طبيعة مماثلة ونشرها. كما التقط مراسلو التلفزيون السوري الرسمي أيضا صورا بجانب جثث القوات المعارضة للنظام. فعلى سبيل المثال، التقطت مراسلة التلفزيون الموالية للنظام كنانة علوش صورا سيلفي أمام جثث قوات المعارضة في حلب في مايو 11. ومع ذلك، تراوحت ردود الفعل الرسمية لهذه الجماعات التي ترتكب هذه الأعمال غير الإنسانية بين الاحتفاء بها ورفضها. ولم يصدر الجيش السوري أو التلفزيون الرسمي أي بيان رسمي يدين تصرفات موظفيهم. وعلى الجانب الآخر من الموقف، صرح شرفان درويش، المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية في بيان له أن ما حدث في عفرين لا يمثل مبادئ وأخلاق التنظيم وأنهم يجب ألا ينخرطوا في مثل هذا السلوك. بينما نشرت جماعة المعارضة المسؤولة عن الحادث الآخر أيضا بيانا رسميا تدين تصرفات مقاتليها وتعد بمحاسبة الجناة حتى لا تتكرر مثل هذه الأفعال.

وقد أدت هذه الحوادث إلى وقوع انتقادات واسعة النطاق بين الجماعات الكردية والمعارضة. ومع ذلك، لم تنتقد المجتمعات الموالية للأسد علنا ​​تصرفات ضابط الجيش أو مراسلة الأخبار. وقال السيد نور، وهو مدرس سوري مقيم في دمشق ومؤيد للأسد،: “أنا ضد مثل هذه الأعمال لأنها لا تمثلني، لكنني لم أكن قادرا على انتقادها علنا. لإنه يمكن اعتباري خائنا إذا ما انتقدت الجيش”. وعلى الرغم من أن الخوف يلعب دورا مهما في تقليل الانتقادات داخل المجتمعات الداعمة للأسد، إلا أن حالة الاستقطاب العميقة للنزاع تساهم أيضا في جعل الجماعات المؤيدة للأسد غير قادرة على نحو متزايد على التعرف على الأرضية الانسانية المشتركة مع أعدائهم. وهذا يجعل الوضع مختلفا عن معظم جماعات المعارضة حيث لازال يحاول أعضاؤها ومؤيدوها مواجهة محاولات تجريد أعدائهم من الإنسانية من خلال رفضهم أن يتم استبعادهم من النظام الأخلاقي المتعارف عليه الذي يحكم الصراع. ومع ذلك، تواجه هذه المجتمعات خطر فقدان التعاطف في حالة استمرار أعمال العنف في سوريا.

لن ينتهي الشقاق الاجتماعي والنفسي بين الجماعات المتحاربة مع وقف النزاع المسلح. وسوف تكون هناك حاجة إلى إجراء عملية مصالحة جماعية لإصلاح العلاقات الاجتماعية المنهارة بين المجتمعات. ويعمل الصراع المسلح على تقسيم المجتمعات عن طريق تقويض العلاقات الشخصية والثقة المتبادلة بين الطوائف المختلفة وتدمير المعايير والقيم التي تحفز على التعاون والعمل الجماعي من أجل الصالح العام. ومع مرور الوقت، تقوم الجماعات المختلفة بتطوير ذكرياتها الانتقائية الخاصة التي تجعل “الآخرين” مسؤولين عن مآسيهم، مما يجعل من الصعب بناء مستقبل سلمي معهم. ولذلك، لن تتطلب المصالحة والسلام المستدام في سوريا وقف العنف وفقط، ولكن أيضا ستتطلب تغيير سرديات وعقول الناس من أجل رؤية خصومهم مرة أخرى كبشر لهم حقوق وقيم مماثلة.

وسوف يتطلب التحرك نحو المصالحة والسلام المستدام في هذه المجتمعات المنقسمة بشدة، مثل تلك المجتمعات الموجودة في سوريا، استراتيجيات لبناء السلام بعد انتهاء الصراع من أجل ترميم الانقسامات الاجتماعية والنفسية التي تغذي العنف الجماعي. وكلما طال تأجيل مثل هذه الاستراتيجيات، كلما كان من الصعب توحيد المجتمعات السورية مرة أخرى.