‘بسام مقداد يكتب: الشرق الأوسط الجديد بنسخته الروسية’
23 سبتمبر، 2016
بسام مقداد
على عتبة الذكرى السنوية الأولى لانخراطها في المذبحة السورية، تتعجل روسيا في تعداد “انجازاتها” في تحقيق الهدف الأساسي لمغامرتها هذه: استرجاع مكانة الدولة العظمى، التي فقدتها مع انهيار الإتحاد السوفياتي. وهي تعتبر أن ما حققته في عودتها إلى الشرق الأوسط، وما وفره لها الإنسحاب الأميركي من المنطقة من فرص سياسية وعسكرية، لم يتوفر حتى للإتحاد السوفياتي في أوج جبروته.
ويبقى السؤال بالنسبة لها هو كيف يمكن استثمار هذه الفرص على أفضل وجه ممكن؟ فهي ترى أن “الشرق الأوسط الجديد”، الذي عجزت أميركا عن تحقيقه، أصبح بمقدورها هي على تحقيقه بنسخته الروسية، ليصبح “الشرق الأوسط الروسي الجديد”، على ما تراه صحيفة الكرملين “vzgliad” في مقالة نشرتها الأسبوع الماضي تحت هذا العنوان بالذات. وهي تعتبر أن ما عجز عن تحقيقه الإتحاد السوفياتي حيال الصراع العربي-الإسرائيلي، وما عجز الغرب عن تحقيقه في هذه المسألة، هو في متناول يد روسيا في الوقت الراهن عبر نفوذها الكبير لدى سائر الأطراف في المنطقة.
لاشك أن اتفاقية الهدنة، التي وقعتها روسيا مع أميركا، اعتبرتها موسكو، وليس بدون وجه حق، انتصاراً كبيراً حققته على أميركا والتحالف الغربي ككل. ولم تكن روسيا تُكثر من الإستدلال على نصرها وهزيمة الغرب هذه بالاعترافات التي تصدر عن المسؤولين الغربيين وفي الإعلام الغربي، وكان من آخرها المقالة، التي نشرها موقع “svobodnaia pressa” الموالي للكرملين في 19 أيلول/سبتمبر، للاقتصادي الأميركي المعروف بول روبرتس، نائب وزير المالية لشؤون السياسة الإقتصادية في إدارة الرئيس الراحل رونالد ريغان، والمحرر السابق في صحيفة “وول ستريت جورنال”. فقد كتب هذا الرجل، المعروف بانتقاداته اللاذعة للسياسات الاقتصادية للإدارات الأميركية المتعاقبة بعد ريغان، مقالة، كفيلة برفع منسوب الإنتصارية الروسية إلى أقصاه، بعنوان “ليس لروسيا شركاء في الغرب”، وعنوان فرعي “لماذا لا تستطيع السلطة الروسية فهم ذلك ؟”. لم يشر الموقع الروسي إلى المصدر، الذي ترجمت عنه المقالة، لكنه أكد أن المقالة تُرجمت بإذن شخصي من الكاتب. لا شك في أنه تكثر في الإعلام الغربي المقالات والتحليلات، التي تنتقد سياسة أوباما المترددة في سوريا وعواقبها الكارثية على الوجود الأميركي الغربي في المنطقة، ومن آخر هذه المقالات، تلك التي نقلها الموقع الروسي “Inosmi” عن صحيفة “واشنطن بوست”، 19 أيلول/سبتمبر، بعنوان “بوتين يلقن أوباما درساً في سوريا”. لكن جميع هذه المقالات تخاطب، عادة، القارئ والمسؤول الغربيين، إنما لا تتوجه، كما يفعل بول روبرتس، إلى الحكومة الروسية مباشرة بقوله ” تواصل الدولة الروسية في عقد الإتفاقات مع واشنطن، و تواصل واشنطن خرقها… وآخرها الإتفاقية حول وقف إطلاق النار في سوريا”.
لكن روسيا على إدراكها لأهمية مثل هذه المقالات والأقوال وترحيبها الشديد بها، إلا أن ما تطلبه من أميركا والغرب هو العمل بما تفترضه النتيجة المنطقية لهذه “الإعترافات”، أي الإقرار بأن إتفاقية الهدنة جاءت نتيجة لهزيمة أميركا والتحالف الذي تقوده في سوريا، وبالتالي، عليها الاعتراف “بانتصار” روسيا هذا وتعمل بموجب ذلك. فقد كتب رئيس “معهد الشرق الأوسط” يفغيني ساتانوفسكي في الأسبوعية “VPK”، الناطقة باسم المجمع الصناعي الحربي الروسي في 14 أيلول/سبتمبر، مقالة تحدث فيها عن التحول الكبير الذي قيض لروسيا أن تنجزه في ظل عجز أميركا والغرب عن “مواجهة الإرهاب في المنطقة”. وهو يقول، إن توقيع الإتفاقية الأميركية-الروسية لتسوية الوضع في سوريا جاء ليعلن انتهاء المرحلة، التي لم تتمكن خلالها واشنطن من تقبل فشلها في بلد “الربيع العربي” هذا، ومن تقبل هزيمة حلفائها هناك. ويؤكد بأن القوات الجوية الفضائية الروسية قد لعبت الدور الرئيسي في تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة؛ فمن دون قيام هذه القوات بالقضاء على “الإرهابيين” في سوريا، ومن دون قصفها للبنية التحتية العائدة لهم في النقل واستخراج النفط، لما تمكن التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، من العمل هناك.
ولهذا تجد روسيا أنها في موقع يسمح لها بتصنيف الدول المنخرطة في المأساة السورية ومسؤوليها ومؤسساتها بمدى “الموالاة” لروسيا، أو البعد عنها. فقد كتبت صحيفة الكرملين “vzgliad” في 16 أيلول/سبتمبر مقالة بعنوان “وزارة الخارجية أكثر ولاءاً لروسيا من البنتاغون”، في إشارة منها إلى الخلاف المحتدم بين البنتاغون وأوباما ـــــ كيري، والذي كان، كما يبدو، وراء قصف قوات النظام في ديرالزور. وقد افتعلت موسكو، وما زالت، الكثير من الضجيج حول هذه الضربة لتقول من وراء كل هذا الضجيج المستمر، إنه كان على أميركا الإعتراف نهائياً “بهزيمتها” في سوريا والإستمرار في اتباع نهج أوباما ــــ كيري الإنبطاحي، الذي بلغ بأميركا وهيبتها ونفوذها في العالم درجة، جعلت من الممكن توجيه الإهانات إلى أوباما ومستشارته للأمن القومي خلال مؤتمر G20 في الصين. ولهذا اختارت روسيا للرد على ضربة ديرالزور ذلك العنوان، الذي اعتمدته الولايات المتحدة لسياستها ومصالحها في سوريا خلال كل جولات المفاوضات في جنيف. ولا بد هنا من القول، إنه بين عملية ديرالزور والرد عليها بقصف قوافل المساعدات الإنسانية، كان هناك “تفصيل صغير”، بالنسبة لهذين القطبين في سوريا، هو الدماء السورية المستباحة ودمار سوريا طيلة هذه السنوات.
كما وجدت روسيا نفسها في موقع يسمح لها بفرض إرادتها في تحديد من هو الإرهابي في سوريا ومن هو المعارض الحقيقي. فقد كتبت صحيفة الكرملين عينها “vzgliad” في 14 أيلول/سبتمبر مقالة بعنوان “تجار الرقيق التعساء وأكلة لحوم البشر المعتدلون” وجهت فيها سهامها لبعض الخبراء والإختصاصيين الروس، الذين نزعوا صفة “النصر” عن الإتفاقية من موقع المزايدة على الكرملين، وليس من موقع الخلاف معه. فقد اعتبر الإختصاصي في مركز “كارنيغي” بموسكو والخبير في شؤون القفقاز والإسلام ألكسي مالاشنكو، وهو النائب عن حزب بوتين في الدوما الذي انتهت مدتها، اعتبر أن اتفاقية الهدنة هي “هزيمة دبلوماسية لروسيا”، وبأنها “الخطوة الأولى للتخلي عن الأسد”. وتبين لصحيفة الكرملين أن مشكلة الرجل هي أنه يعمل في مؤسسة “مقربة من الليبراليين” (مركز كارنيغي)، وبأن كلامه هذا يمكن أن يبلغ سوريا “حيث الناس في الجيش وفي النظام الأمني ميالين لعدم تصديق مختلف أشكال الهدنة، التي يشارك فيها الأميركيون، وما يسمى بالمعتدلين”.
لكن الرد الحاسم من قبل الصحيفة كان على أولئك الخبراء، الذين تجرأوا على القول بوجود معتدلين في صفوف المقاتلين السوريين، ومن بين هؤلاء كانت رئيسة قسم القضايا الدولية في مركز الأبحاث العربية في معهد الإستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية إيرينا زفياغلسكايا، التي قالت إن “الوضع في سوريا شديد التعقيد. وثمة أمثلة كيف أن بعض الناس يلتجئون أحياناً إلى الإرهابيين، طلباً للحماية، وهم ليسوا إرهابيين.. كما أن قسماً من المعارضة يحارب أحياناً القوات الرسمية إلى جانب المنظمات الإرهابية”. تقول الصحيفة، رداً على هؤلاء الخبراء وعلى هذه الخبيرة بالذات، بأن سكان عدد من المحافظات، الذين عاشوا لمدة طويلة تحت سلطة الجهاديين، لم يرغبوا، لاحقاً، في “الخروج من تحت هذه السلطة”. وتشير إلى أنه كان يوجد، وما زال يوجد حتى الآن، عشرات الآلاف من الأشخاص “الذين أعجبهم العيش في مستنقع القرون الوسطى المبكرة هذا”. وتؤكد بأن “جميع هؤلاء الناس كانوا يساندون الأنظمة الجهادية على المستوى الحياتي، لأنها كانت تعجبهم المتاجرة بالنساء العبيد، وحضور الإعدامات العلنية، والمحاكمات وفقاَ للشريعة واعتبار الناس، الذين لا يعتنقون الشكل الخاص بهم من الإسلام، حيوانات”. إن معظم هؤلاء المعتدلين، بحسب الصحيفة “كانوا يشاركون في أشرس عمليات الجهاديين، والغالبية منهم لم تفهم الحد الفاصل بين الخير والشر”.
إن روسيا هذه، التي ترى أنها في موقع يسمح لها بكل هذا.. روسيا، التي تمكنت من عقد “مؤتمر إسلامي عالمي اواخر آب/أغسطس الماضي في غروزني”، في حضن رمضان قاديروف “عار روسيا”، على ما تصفه المعارضة الروسية، وتمكنت من تأمين مشاركة إمام الأزهر أحمد الطيب فيه.. روسيا هذه وجدت نفسها في مكان يتيح لها الحديث عن “الشرق الأوسط الروسي الجديد”، على ما قالت صحيفة الكرملين “vzgliad” في مقالتها المذكورة سابقاً.
تقول الصحيفة إن الجهة الوحيدة، التي “تمتلك اليوم الإرادة السياسية والقدرة العسكرية الكافية والهيبة الدولية من أجل ترتيب الفوضى الشرق أوسطية، هي روسيا المعنية استراتيجياً في المحافظة في المنطقة على دول علمانية قومية تحديثية، كانت تتهاوى تحت ضغط الصراعات الداخلية وظلامية القرون الوسطى للدولة الإسلامية، على حد سواء”. وترى أنه من الواضح، من أجل توفير الإستقرار في المنطقة وحماية حدود روسيا الجنوبية من تهديدات الإسلامويين، ينبغي “تشكيل ائتلاف راسخ ومستقر من اللاعبين الأساسيين في المنطقة، وهم المملكة العربية السعودية، مصر، إسرائيل، سوريا، إيران، تركيا”. وتعترف الصحيفة، أن المهمة “شبه مستحيلة”، لكنها تستشهد بقول تشي غيفارا “كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل”. وتقول، إن فلسطين هي حجر العثرة بين جميع هذه الدول، وتذكر بالجهود، التي تُبذل لجمع محمود عباس مع بنيامين نتانياهو في موسكو. وتتحدث الصحيفة بالتفصيل عن متانة العلاقات الروسية-الإسرائيلية، وتقول، إنه بعد تحسن العلاقات الروسية التركية برزت إمكانية إقامة استقرار في الشرق الأوسط على خط إسرائيل-تركيا.
أما بشأن تركيا وإيران، اللتين تختلف مواقفهما جذرياً في سوريا، فترى الصحيفة أن تركيا، وبعد اعتذار اردوغان، مستعدة لتقديم تنازلات بهذا الشأن. لكن السؤال الأصعب يبقى، بالنسبة للصحيفة، هو مصالحة إيران وإسرائيل، وتتساءل ما إن كانت هناك إمكانية لمثل هذه المصالحة. وتجيب هي نفسها على التساؤل بالقول “إذا كانت مثل هذه الإمكانية متوفرة فهي لا تتوفر سوى بوساطة روسيا فقط”.
وتخلص الصحيفة إلى القول، بأنه بينما الأميركيون منشغلين بالإنتخابات الرئاسية، ومن ثم بالتسلم والتسليم “تتوفر لروسيا فرصة فريدة بالحصول على موقع لا يتزعزع في الشرق الأوسط، من خلال تحولها إلى الضمانة لاستقرار وحتى تطور هذه المنطقة الأساسية بالنسبة للسياسة العالمية والاقتصاد”.
المصدر: المدن
بسام مقداد يكتب: الشرق الأوسط الجديد بنسخته الروسية على ميكروسيريا.
ميكروسيريا –