الغاندية حين ينعدم أدنى ضمير!
18 أكتوبر، 2016
مصطفى الولي
وضعت الثورة السورية تاريخ العالم، وحاضره، وقيمه وأخلاقه أمام اختبار صعب ومرير. وفي غضونه، استعادت الأوساط الثقافية حواراتها، وهي تواكب مجريات الصراع الدموي على أرض الواقع، عددا من تجارب العالم ونظرياته وأفكاره، وكانت الفكرة الغاندية لها سحرها الخاص، حيث طريق اللاعنف في الوصول إلى الحرية والتحرر، كان أهم ما قدمه غاندي في مواجهة الاستغلال والإقطاع والاستعمار.
أقول إنها ذات سحر خاص، لأن أي إنسان طبيعي عاقل، لديه ذرة صغيرة من الإيمان بالحياة وجمالياتها، ويرفض أن يكون قاتلًا، وبالطبع أن يكون قتيلًا، لا يمكنه إلا حمل هذه الفكرة والسعي لجعلها الشاخص الموجه للعمل من أجل التغيير والحرية، بل وحتى لحل المشكلات الفردية في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية.
في التجارب التي شهدتها البلاد العربية (تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية) واصطلح على تسميتها بالربيع العربي، لم تكن الشعوب في تلك البلاد كافة ترغب بالعنف، أو تشتهي هدر الدماء، وهي بالعموم ظهرت كحشود شعبية ضخمة في الساحات والميادين، سلاحها حناجرها ويافطاتها. واختلفت تداعيات الأحداث في كل واحدة من تلك التجارب، وظهر فيها نموذجان ونصف، نموذج تونس ومصر، مقابل نموذج ليبيا وسورية، والنصف (الوسط) بينهما في اليمن، قبل قيام الحوثيين بالتحالف مع عبد الله صالح وحرف اتجاه الصراع نحو ما نشهده اليوم من حرب دموية، هي أقرب إلى سورية، مع اختلافات في خصوصية التحالفات والقوى المحركة واستراتيجياتها.
في عموم التجارب المذكورة، انطلقت الشعوب على خطى الغاندية (النضال السلمي)، وغالبًا دون أن تعرف عنها شيئًا، فهي هبات عفوية بلا قيادة خططت لها ووجَهتها. فبينما مضى كل من زين العابدين وحسني مبارك لمغادرة السلطة، قبل أن تتحول المواجهات مع الشعب إلى حمامات دم، مضى القذافي لارتكاب المجازر، وبعده نظام بشار الأسد. سقط الأول بفعل الموقف الدولي الداعم للشعب الليبي، واستمر الثاني، ليس بسبب غياب الدعم الدولي للشعب السوري، إنما جرَاء الدعم الخارجي له ليمنع الشعب السوري من تحقيق الحرية.
في غضون الصراع في سورية، كانت الأصوات التي تؤكد على النضال السلمي، حتى بعد القتل الهمجي للمتظاهرين منذ الأيام الأولى للثورة، تنتشر بين عدد كبير من النخب السياسية والثقافية، ومن خلفيتين متباينتين، واحدة منها ذات نوايا صادقة أرعبها حجم القتل في البلاد، والأخرى قامت على تحميل الثورة مسؤولية ما تداعت له المواجهات من سفك للدماء. فأصبحت الغاندية في الامتحان السوري حمَالة أوجه، حتى أصحاب النوايا الطيبة والصادقة، اكتفوا باليافطة الغاندية، ولم يقيموا أي أهمية لتجربة الهند، ولا لأفكار غاندي المتكاملة، كما أنهم نحُوا جانبًا كل تجارب الشعوب الأخرى التي ناضلت للتحرر والحرية بعد التجربة الهندية.
لم يأت غاندي بفكرة اللا عنف وهو يفتش بين بطون الكتب والمؤلفات الهامة، ولا هو نسخها عن تجربة سابقة لشعب يريد استعادة بلده من الاستعمار. من واقع تجربيه مع البريطانيين، في ديارهم، وفي جنوب إفريقيا، خبر غاندي طبيعة بريطانيا وأساليبها في مواجهة الشعوب التي تستعمرها، وتوصل إلى جدوى النضال السلمي (الصيام عن الطعام الاحتجاج الإضراب المذكرات التظاهر الرسائل الاعتصام المدني)، وخبر تأثيره على الإدارة البريطانية في الهند، فهناك تحققت مكتسبات جزئية كثيرة، وكثيرا ما تراجع البريطانيون عن بعض الإجراءات، وتقربوا من غاندي ليدعمهم في جهودهم بالحرب الدولية الثانية، ورفض بداية ثم قبل، ولقبوله في دعم جهد التحالف في الحرب معنى لا يطابق فكرة اللا عنف عنده. فالحرب عنيفة وتشكلت ألوية هندية عسكرية قاتلت إلى جانب بريطانيا، في رهان من غاندي على مردود تلك المشاركة إيجابيًا على تحرر الهند. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن النمط البريطاني الاستعماري، تميز بمرونة ومراوغة واستعداد لتقديم تنازلات تمكنه من إدامة زمن استعماره للبلدان بأقل كلفة، وهو استعمار” ناعم” مقارنة بالاستعمار الفرنسي والإيطالي والبرتغالي. فطبيعة الخصم وطرقه في المواجهة وأشكال إدارته للصراع مع الآخر، تلعب هي الأخرى دورًا بارزًا في نجاح النضال السلمي أو فشله.
أعود إلى أفكار غاندي، تلك التي لم يقرأها دعاة اللاعنف في بلادنا، فقدسوا فكرته المشهورة، ولم يدخلوا إلى ما طرحه عن الاستعصاء في عملية اللاعنف عندما يواجه الشعب دكتاتورية مستبدة أو نظامًا استعماريًا فاشيًا وهمجيًا. وما تعرض له السوريون يقع في هذا الإطار حيث الهمجية في سفك الدماء كانت الأسلوب الوحيد الذي قدمه النظام في الرد على الاحتجاجات التي تحولت إلى ثورة تدعو لإسقاطه ونيل الحرية.
في رد لغاندي على سؤال عن: إذا وجد أنصار اللاعنف أنفسهم أمام موت محتم، هل يتراجعون عن نضالهم؟ فكان جوابه واضحًا “لا وألف لا بل يجب عليهم في هذه الحالة أن يتسلحوا ويقاوموا وإن لم يكن هناك من خيار أبدا إلا العنف فإنني أنصح بذلك”. وفي الهند لم يضطر الشعب للعنف وحمل السلاح، فالتراجع البريطاني أولا بأول وظروف الحرب الدولية الثانية جعلت خيار غاندي باللاعنف يؤتي ثماره، بينما في جنوب إفريقيا اضطر مانديلا للثورة المسلحة عندما فشلت كل المحاولات السلمية، وبها عاد ليفرض خيار بلاده بالتحرر من العنصرية بالطرق السلمية. في سورية تصرف النظام في الأيام الأولى للاحتجاجات على قاعدة لا إصلاحات تحت ضغط التظاهر والاحتجاج، وبلسان رأس السلطة وأمام الإعلام على الهواء، وباشر العنف الذي لم تشهده تجارب شعوب الأرض، لا في مواجهة المستعمر الأجنبي، ولا الأنظمة الدكتاتورية. فلقد جرَب تيار سوري معارض القيام بوقفة احتجاج سلمية في منطقة الفحامة في دمشق 2013، فانقض الأمن على نشطائه قبل اكتمال تجمعهم، واعتقل عددًا منهم بينما لاذ الباقون بالفرار. وانكفأ هذا التيار عن أي نزول سلمي إلى الشوارع، مكتفيًا بإصدار البيانات على وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي.
أختم بقول لغاندي أيضًا، فهو يوضح أنَ أحد أهم شروط نجاح الثورة السلمية، يتعلق بطبيعة خصمها “فهي (السلمية) قد تخفق أحيانًا إذا كان الخصم يملك قوى قاهرة جبارة بلا أدنى ضمير أو أخلاق”. ومن سوء طالع الشعب السوري أنه ابتلي بخصم من هذا القبيل، وما استطاع دعاة السلمية إحياء ذرة ضمير عند النظام، فأخفقت سلميته من الأيام الأولى رغما عن إرادته، لكن حريته لم تخفق. رغم التعقيدات البالغة التي تواجهه، تلك مسألة حياة أو موت.
[sociallocker] [/sociallocker]