أثر إخفاق تطبيق القوانين الدولية والإنسانية على فلسفة العدالة
27 أكتوبر، 2016
أيمن أبو هاشم
هل كان العالم بحاجة لمأساة العصر السورية؛ كي يُمسي نكوص الحضارة في تثبيت فكرة العدالة والدفاع عنها، العنوان الأوضح على ارتداد المجتمعات الانسانية عن منظومة القوانين الوضعية، وثقافة الحقوق التي قامت عليها؟ لعلّ وصول الأمم والشعوب إلى ذروة اليأس من الانهيارات المتتالية في تلك المنظومة، هو المعادل الموضوعي لفشل السياسات العالمية في استكمال القطيعة مع تاريخ حافل بالحروب والمظالم والمآسي. لم تخبُ محاولات فكرية وفلسفية أيقظها ركام الحربين العالميتين الأولى والثانية، من البحث عن تصور جديد لعالم لديه مؤسسات دولية سياسية وقضائية، تشكل ضمانة قادرة على تحقيق السلام والتعايش بين الشعوب، والأهم الحيلولة دون بقاء سياسة الافلات من العقاب سيفًا مسلطًا على رقاب الضعاف.
تكشف كيفيات تعامل مؤسسات المجتمع الدولي، مع المشهد السوري طوال السنوات الماضية، عن حقائق مؤلمة من أبرزها: الخلل البنيوي في وظائف تلك المؤسسات، وبصورة أخص مجلس الأمن الدولي، الذي بات إشهار حق النقض (الفيتو) في مناقشات اعضائه لمشوعات القرارات المتعلقة بالقضية السورية، بمنزلة أداة قهرية وفظة، تُستخدم في تعطيل وظيفة المجلس الأساسية في حفظ السلام والأمن الدوليين. ليس بالأمر المحتمل -أبدًا- أن يبقى وقف إطلاق النار في بلد يسقط فيه يوميًا مئات الضحايا ظلمًا وعدوانًا، مشروطًا بموافقة ورضى إحدى الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس، علمًا أن وقف إطلاق النار في الحروب الدولية أو المنازعات الداخلية من الالتزامات الواجبة، التي لا يجوز ربطها بالتوافق على الحلول السياسية والتسويات النهائية. يُشكل الفيتو الروسي المتكرر خلال سنوات الحرب السورية، المثال الصارخ على إمكانيات نسف الإرادة الجماعية، التي لا سبيل عنها لقيام مجلس الأمن بدوره المطلوب، والأخطر من ذلك الاحتمالات الوشيكة لانهيار النظام الدولي، على وقع عجزه المزمن عن إنقاذ السوريين من مسلسل الإبادة الجماعية، الذي بات قرينة دموية على فرادة المأساة السورية في العصر الحديث. تحت وطأة كل تلك الخيبات المدوّية من وجود فرص حقيقية لتطبيق (قانون الشعوب) الذي أولاه الفيلسوف جون رولز أهميةً بالغة في رؤيته لكيفية تحقيق العدالة بين الشعوب، من خلال عدالة مؤسسات المجتمع المحلي والدولي. فإن الجدال القانوني حول مدى تجسيد المؤسسات الدولية لمعايير المساواة والانصاف والتوازن، التي تراكمت في سياق تطور الفكر القانوني العرفي والمكتوب، ما يثير معضلتين كبريين أولها: إن حزمة الحقوق الانسانية التي تؤكد على معايير الحرية والواجب والكرامة، وهي معايير أخلاقية لا غنى عنها لبلوغ العدالة كهدف أسمى (من وجهة نظر الفيلسوف كانط)، تحتاج إلى آليات سياسية وقضائية تقوم على تطبيقها في الواقع، لكن من الاستحالة تجاوز عوامل تعطيل تلك الآليات، طالما أنها تستمد قوتها من النص عليها في متون المواثيق والاتفاقيات الدولية نفسها. (ثانيها): من أوجه الاستحالة في نقل فكرة العدالة الدولية إلى عتبات الواقع، أن أدوات التعطيل ليست استثناء في مؤسسات الأمم المتحدة، بل هي حق مشرّع يُستخدم غبّ الطلب من الدول التي تملك ذاك الحق حصريًا. هنا لابد من أن الرابط بين القانون والعدالة سيكون خيطًا واهيًا؛ بسبب احتكار الدول الكبرى للعدالة، كمفهوم معياري، وقدرتها على حجب العدالة عن الدول الضعيفة. يتساوق طرح الفيلسوف نيتشه مع واقع كهذا ” وهو الذي كان يشك في إمكانية تحقيق العدالة ووجودها على أرض الواقع” ويمكن لهذا الخيط أن ينقطع بسهولة حين تغدو الازدواجية في تطبيق القانون، مسلكًا سياسيًا يمس العدالة في جوهرها، من الأمثلة على ذلك: تمرير مجلس الأمن قرارات تشكيل محاكم دولية خاصة أو موقتة، لمحاكمة مجرمي حرب في بلدٍ معين، وامتناعه عن تشكيل تلك المحاكم في بلدٍ آخر “سورية مثالًا فاضحًا” تحت دواعي مصالح سياسية مكشوفة.
كان المستفيد الأكبر دومًا من توغل النزعة الانتقائية في تطبيق العدالة، هي الأنظمة الديكتاتورية والثيوقراطية، التي لم يكن لها أن تكون طليقة اليدين في ارتكاب الانتهاكات المتمادية للقوانين الدولية، لولا تواطؤ الأنظمة السياسية الليبرالية صاحبة النفوذ الأكبر في توجهات النظام الدولي المعاصر، من خلال أدوارها في إدارة الصراعات والأزمات الدولية خارج حسابات وموجبات القوانين الدولية والإنسانية. إثر هزيمة العرب في (نكسة حزيران 1967)، لامس شيخ الحقوقيين الفلسطينيين، هنري كتن، في كتابه (فلسطين في ضوء الحق والعدل)، أسباب العطب في تنكر النظام الدولي منذ ولادة عصبة الأمم المتحدة بداية القرن المنصرم، لفكرة العدالة ومضامينها التاريخية والفلسفية والأخلاقية، ونظرَ إلى إضفاء الشرعية الدولية على عقيدة الاغتصاب التي قام عليها الكيان الصهيوني، بوصفها جريمة كبيرة بحق العدالة الدولية وسلطة الحق، قبل أن تكون جريمة بحق الشعب الفلسطيني.
من حق العرب عمومًا، والسوريين اليوم خاصةً، بوصفهم الأكثر تضررًا من العيوب الجوهرية في النظام الدولي القائم، أن يتساءلوا بكل أسى واستغراب: عن الفائدة من مقارعة ذاك النظام المُهيمن والقادر -في أي وقت- على ضرب القوانين والاتفاقيات الدولية عرض الحائط!؟ وكيف يستوي أن يُصحَّح هذا الاختلال العميق في العلاقات الدولية، في ظل تحكم اللاعبين الكبار بقواعد اللعبة على حساب مصير الشعوب الضعيفة!
بقدر ما تكشف هذه التساؤلات المشروعة، درجات الاستعصاء في تغيير المشهد الدولي الراهن، غير أنها تكشف ما هو أشد خطورةً من ذلك، حالَ النظر بتوغل عوالم الفوضى في عالمٍ ينزاح عن شروط وعناصر استقراره الحقيقي. في مطلع هذا القرن ثمة ما يدعو -حقًا وبكل قوة- إلى قرع طبول اليقظة الكبرى، من أخطار وتداعيات تغييب العدالة الإنسانية، وسفح ماء وجهها بكل صفاقة؛ لأن أثر هذا الانحطاط القيمي والأخلاقي الذي أحال القانون إلى “ابن غير شرعي” للسياسات الظالمة، سيؤدي بالضرورة إلى انفجارات أهلية ودولية متنقلة، بدأت تصيب شظاياها الدول التي هندست ورعت نظامًا دولًيا، يفتقد الانصاف والعدالة، بات يهدد مصير العالم برمته وليس الشعوب المستضعفة فحسب.
[sociallocker] [/sociallocker]