سورية والعراق… مكافآت روسية – أميركية لإيران

27 أكتوبر، 2016

الحياة

تتنافس حلب والموصل هذه الأيام على إيلامنا وجلد وجداننا، وعلى تقريعنا لتقصيرنا وإهمالنا. قبلهما اغتيلت حمص وهانت علينا، اغتيلت بيروت، واستُبيحت القدس والخليل وغزّة، وغيرها وغيرها، وهانت علينا كلّها. أصبحت المقارنة، وربما المفاضلة، بين احتلال يشير إليه العالم على أنه احتلال لا تستطيع إسرائيل أن تتخلّص من آثامه مهما عربدت في إجرامها، واحتلال لا أحد سوى المعانين منه يسمّيه باسمه رغم أن إيران فَجَرَت وتمادت، واحتلال روسي لا يشبهه سوى احتلال أميركي وقد برع كلاهما في الاستهتار بالأرض ومَن عليها وما عليها، وبالتاريخ والحاضر والمستقبل وما تعنيه لا للسوريين والعراقيين أو العرب، ولا لسنّة وشيعة ومسيحيين، وحدهم، بل للعالم ولما تسمّى «حضارة إنسانية» فشل العرب، قبل سواهم، في الاهتداء الى سبل حمايتها من صولات الوحوش المسعورة.

هناك طعَم نهايات مريرة وبدايات أكثر مرارة في ما تشهده حلب والموصل. لا، ليس التراث الإنساني الذي هشّمه المدعو «أبو بكر البغدادي» أو يدمّره المدعو فلاديمير بوتين أو يطرحه سماسرة الحروب في مزادات التهريب هو ما سيفتقد فقط، بل انه الإنسان نفسه الذي صبر على الطغاة القدامى والجدد، بمن فيهم صدّام حسين وجورج بوش ونوري المالكي وبشّار الأسد وقاسم سليماني و«داعش»، وصنع تجربة العيش بهذا المزيج من الأقوام والأديان. هذا الإنسان تحطّم بدوره وتدمّر، فقد الثقة والأمل، فلا الدولة/ النظام تحميه ولا هو يعني شيئًا لها، ولا القوى الخارجية ترحمه بل تمعن في تقطيع أوصاله. وفي السياق الحضاري التاريخي سيكون واضحًا أن روسيا دمّرت حلب وأميركا دمّرت الموصل وإيران صنّعت «داعش» لاستدراجهما كي يلعبا لعبتها القذرة فتحصد المكاسب. وعلى رغم أن الوحشية لا تُعرف إلا باسمها ولا مجال فيها للمقارنات إلا أن «داعش» المنشغل بالنحر والحرق والنهب والسبي قد يبقي في الموصل مستشفيات ومدارس ومخابز وأسواقًا، خلافًا لما ارتكبه بوتين لتوّه في حلب وهو منشغل بتدمير سورية لتأمين قضمه أوكرانيا أو لتقاسمها بصفقة مع أميركا.

«ممرات آمنة» غير آمنة هي كل ما تبقّى من المدينتين لأهلهما. حُوصرت الموصل ويراد لأهلها أن يغادروا كي يسهل تحريرهم من تنظيم «داعش»، وبعضٌ ممن يحاصرونها أو جلّ من يريدون «تحريرها» ساهم في صنع «داعش» وتسعير توحّشه. هناك أكثر من معركة في الموصل، واحدة لأهل الموصل وخمسة لأميركا وإيران وتركيا وحكومة بغداد والأكراد، وكلٌّ منهم يخوضها وفقًا لأجندته. صحيح أن الهدف طرد «داعش» لكنه يختلف بالنسبة الى الإيرانيين والأتراك بين تمكين و/ أو عدم تمكين «دواعش الحشد الشعبي/ الشيعي» من دخول المدينة. لا شك في أن «داعش» سيُهزم، لكن هذه معركة يراقبها العالم موقنًا بأن النصر فيها يعادل الهزيمة إذا أفسدها صبية قاسم سليماني و«حشده». شيء من هذا يشوب أيضًا معركة حلب، حيث لا وجود لـ «داعش» بل إن «فتح الشام/ النصرة/ القاعدة» يحاول الذوبان في نسيج الفصائل، فيما ينتظر «دواعش» الأسد وسليماني والحشد العراقي و«حزب الله» اللبناني وأقرانهم متعدّدو الجنسية أن لا يبقي الروس حجرًا على حجر فيها ليعلنوا الانتصار على ركام المدينة. يُذكر أن الروس والإيرانيين يتغطّون بـ «شرعية» نظام مجرم تعاقد معهم على قتل الشعب السوري وتدمير حواضره، لكن حكومة بغداد لم تعلن أن الأسد تعاقد معها لاستيراد «دواعش الحشد» الذين جعلهم حيدر العبادي جزءًا من الجيش العراقي.

لا خلاف على إرهابية «داعش»، لكن كمَّ الإجرام الذي مورس في سورية والعراق وعدد المشاركين فيه يبرز إرهابية الآخرين ويحمّلهم مسؤولية مضاعفة في ترك ظاهرة «داعش» تكبر وفي استغلالهم لها، بل في استنساخ «منطقـ»ـها السياسي الذي ربط بين البلدين، حتى قيل إن هذا التنظيم هو الذي جهر بإعادة النظر في ترتيبات معاهدات «سايكس – بيكو» و«سيفر – لوزان»، فيما تطرح الأطراف الأخرى إعادة النظر هذه سرًّا. وعلى رغم مساهمة الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية بالجهد الأكبر في تحرير الموصل، إلا أن سنّة نينوى لجأوا إلى تركيا وإلى تذكيرها بصلتها التاريخية بالموصل طلبًا للحماية منذ الآن تحسّبًا لمرحلة «ما بعد داعش»، وثمة مؤشّرات إلى أن المحافظات السنّية الأخرى تشاركهم هذا الالتماس، فهي تعاني من تداعيات الغزو الإيراني المتنكّر بـ «دواعش الحشد الشعبي» بعد تحريرها من «داعش». وتستند مخاوف الموصل وبالأخصّ تلعفر الى أن هذه الأخيرة بمقدار ما تشكّل معبرًا لـ «الدواعش» الهاربين إلى الشطر الآخر من «دولة الخلافة» بمقدار ما يحتاج اليها الإيرانيون كممرٍّ لا بد منه للاتصال جغرافيًا بسورية، كما أنهم يحتاجون الى حلب لتأمين تواصل سورية – العراق – إيران.

يدور السيناريو حاليًا كما يفترض له بدءًا من 1916، كما لو أن المئة عام لم تكن أو كأنها محكومة بأن تعود الى الفراغ الذي بدأت به، لا دول لا مؤسسات لا فكر لا نُخَب. هناك أمة قذفها الفرس الهائج من على متنه فارتمت أرضًا ليكثر ذبّاحوها. قبل مئة عام توافقت مصالح «الحلفاء» المنتصرين في الحرب العالمية الأولى على تقسيم التركة العثمانية بإرضاء العرب كقومية، وبعدها التقت مصالح الأطلسيين والسوفيات على مباركة سرقة الإسرائيليين أرض فلسطين التاريخية، بل التقت أيضًا على منع العرب من أن يتصرّفوا كقومية يلتقي أبناؤها على أهداف مشتركة، وقد سهّل العرب للقوى الخارجية الاستهانة بمصالحهم وطموحاتهم.

رغم كل ما بذله العرب (بالأحرى ما بذلته الأنظمة) من إخضاع لمصالحهم في ما ظنّوه مصادقات وتحالفات مع العالم، فإنهم اتّهموا أولًا بقوميتهم ويتّهمون اليوم بإسلامهم، كمصدري خطر إقليمي وعالمي، ولم يعد يُرى منهم سوى «إرهابهم»، بل إنهم يُحاسبون ويُعاقَبون على هذه كلّها. وهاهم يقفون اليوم على قارعة التاريخ فلا يجدون صديقًا أو حليفًا، وتكاد العودة إلى كنف الدولة العثمانية تشكّل ذروة طموحاتهم، ولن ينالوها. أما الكبار، وهم الأميركيون والروس هذه المرّة، فيستخلصون من تجربة الـ 100 عام ضرورة «شرعنة» تطلّعات القوميّتين اليهودية والكردية بما تتطلّبه من تقسيم وتغيير خرائط، ويتوافقون على تنصيب الفرس والاسرائيليين أوصياء على العرب، كمكافأة على ما ارتكبوه في حق العرب. وربما يراد، بشيء من التردّد، إشراك الأترك لكن كأوصياء من الدرجة الثانية.

بعد كل المقدّمات التي تفاعلت سوريًا وعراقيًا واقليميًا ودوليًا تؤشر إلى نهاية مرحلة، ولم يعد حديث التقسيم مجرّد تكهّنات واحتمالات، بل توغّل أكثر في التداول. ليس هناك أبسط من القول، مثلًا، أن تعايش السنّة مع بغداد بات استحالة من دون أن يقال لماذا وكيف صار كذلك ومَن المسؤول، بل من دون النظر الى الفارق بين تعايشهم الممكن مع الشيعة وبين إجبارهم على الخروج من عراقيتهم والخضوع للاحتلال الإيراني. ولو أن أتباع ولي الفقيه بنوا تجربة راقية تحترم خصوصيات العراق لما كان «داعش» ظهر أصلًا، لكن الحاصل هو أنهم منعوا قيام دولة وهمشوا الجيش وأرهبوه بـ «دواعش الحشد» وهتكوا كل ما تبقّى من روابط أهلية غير متأثرة بالشحن الطائفي وساهموا في مأسسة الفساد. فهل أن هذه مقوّمات «تفاهم» أميركا وإيران على العراق؟ واقعيًا، لم يثبت أنها عكس ذلك ولم يتبرّأ الأميركيون مما حصل بعد انسحابهم.

لكن هل هناك أي مبرر، طائفي أو سياسي، يبرّر مدّ هذا «التفاهم» إلى سورية والاعتراف بالدور الإيراني كجزء من «التفاهمات» الأميركية – الروسية ومن دون أي اعتبار لخصوصيات سورية إنْ لم يكن لحقائق مجتمعها؟ لا مجال لإخراج السوريين من سوريتهم وإخضاعهم لاحتلال إيراني جنبًا إلى جنب مع احتلال روسي، لذلك صمتت أميركا عن اقتلاعهم من مدنهم وبيوتهم، وهي وروسيا تغضّان النظر عن تغيير ديموغرافي تعمل إيران على هندسته لإدامة احتلالها. فإذا لم يكن هذا من إرهاصات التقسيم، كما تتمنّاه واشنطن وموسكو، فما عساه يكون؟

(*) كاتب لبناني

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]