‘السلطة القضائية: من المواثيق الدولية إلى مواثيق الدولة’
1 نوفمبر، 2016
حبيب عيسى
تختلف المواثيق التي تحكم السلطات القضائية من دولة إلى أخرى، بالتبعية لاختلاف أنظمة الحكم، فكيف تطورت تلك المواثيق في “دولة الجمهورية العربية السورية”؟
تشير الروايات التاريخية إلى حضارات متعاقبة استقرت في هذه البلاد، وإلى العديد من الإمارات، والقبائل، والعشائر، وأفخاذها، التي كانت تنزاح تغريبًا، وتشريقًا في الأرض العربية، استقرارًا وترحالًا، ولم تعرف عبر تاريخها حدودًا تقسيمية ثابتة بينها؛ إلى أن قررت بريطانيا وفرنسا -مع بداية القرن العشرين المنصرم- التحاصّ فيما بينهما؛ لاقتسام بلاد الشام والعراق؛ استكمالًا لاحتلال الوطن العربي بأسره، بين المحيط والخليج، ولم يكتفيا بالاحتلال والاستعمار والانتداب والوصاية والحماية، وإنما كُلّف سايكس الإنكليزي، وبيكو الفرنسي برسم الحدود، ليس بين دول وطنية، وإنما بين قوتين استعماريتين لمنع قيام دولة وطنية عربية، ثم انفرد كل من الإنكليز والفرنسيين بتقسيم نصيبه؛ لتسهيل السيطرة عليه، وما يعنينا هنا دولة سورية الحالية التي قرر حدودها المندوبون الساميون الفرنسيون المتعاقبون بعد ذلك، محاولين في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين تقسيمها إلى دول: دمشق، والسويداء، ولبنان، واللاذقية، والإسكندرونة، وحلب، ودير الزور، لكن الثورات المتلاحقة أفشلت ذلك جزئيًا؛ حيث اقتُطع الإسكندرونة وضُمّ للدولة التركية، كما توسعت متصرفية جبل لبنان وأُعلنت دولة مستقلة، وهكذا قامت دولة الجمهورية السورية على ما تبقى من الحصة الاستعمارية للفرنسيين، بمساحة 185 ألف كيلو متر مربع، وباتت عضوًا في هيئة الأمم المتحدة، بدءًا من 17/ 4/ 1946، ثم في 22/ 2/ 1958، تمت الوحدة بين الجمهورية السورية، والجمهورية المصرية في دولة واحدة تحمل اسم “الجمهورية العربية المتحدة”، لكن، وفي 28/ 9/ 1961، فُصل الإقليم الشمالي، وعادت سورية دولة، تحمل أسم “الجمهورية العربية السورية” ثم، وبعد عدوان 5/ 6/ 1967، احتُلّ الجولان من المستعمرة الصهيونية في فلسطين، ومازال محتلًا حتى الآن.
أما التكوين البشري للشعب في “دولة الجمهورية العربية السورية”؛ فالروايات التاريخية تتواتر عن قبائل وشعوب استقرت واختصت بهذه الأرض، حيث شيدّت حواضر مدنية، مثل العرب الآراميين والسومريين والكنعانيين والسريان والآشوريين، ومن تلك القبائل من حافظ على الترحال، مدرًا، ووبرًا، ومنها من انزاح باتجاه الجبال والوديان والبوادي؛ لتستقر وتلتحق بالحواضر التي سبقتها إلى الاستقرار، كسكان الجبال من القبائل العربية و”الكردية”، والذين انزاحت أفواج كبيرة منهم للاندماج بالحواضر المدنية، يضاف إلى ذلك هجرات من جماعات تعرضت للاضطهاد في موطنها الأصلي؛ فلجأت إلى سورية، طلبًا للأمان مثل الشراكسة والأرمن والشيشان والبوسنيين، وجميع هؤلاء باتوا جزءًا من النسيج الاجتماعي في سورية، إضافة إلى جماعات رافقت قوات غازية من مغول وتتار وأتراك وفرس وأوروبيين، غادر الغزاة، لكن تلك الجماعات استقرت في سورية، وباتت جزءًا من نسيجها الوطني.
من تلك الأرومات، على تنوعها وتعدد مصادرها، ومن أرومات أخرى فرعية يصعب حصرها، تكوّن هذا الشعب في سورية، والذي هو الركن الأول والأساس في تكوين هذه الدولة “الجمهورية” التي رسم حدودها “سايكس وبيكو”، وما نتج عن مؤتمر سان ريمو، وما نفذه المندوبون الساميون الفرنسيون؛ حتى الجلاء عام 1946.
إذا كان الفقه القانوني والدستوري ينص على أن أركان الدولة، هي : 1– الوطن 2– الشعب 3– السلطة، وإذا كانت حدود تلك الأركان رُسمت بموجب اتفاقيات ومعاهدات بين قوى مستعمرة، في غياب تام لأي إرادة وطنية، بل بالتضاد معها، فإننا نكون بمواجهة “دولة واقعية”، بالمعنى القانوني، وهكذا فإن نظرة على خارطة سورية تظهر -دون عناء- عمليات القضم العشوائي من الجهات الأربع، كما أن الشعب في سورية يجد نفسه، وكأنه اقتُطع تعسفيًا من محيطه الوطني العربي؛ حتى وصلت الحال إلى التقسيم العائلي، ففي الغرب تجد العائلات نصفها في دولة سورية، والنصف الآخر في دولة لبنان، وكذلك الأمر في الشمال مع الإسكندرونة وكيليكيا، وفي الشرق مع دولة العراق، وفي الجنوب مع فلسطين وشرق الأردن، المهم أن عدد سكان هذه الدولة “دولة الجمهورية العربية السورية” بلغ بموجب إحصاء 2010، الواحد والعشرين مليونًا، اثنيًا، تشكل الأغلبية العربية 88 بالمئة من عدد السكان، و12 بالمئة أكراد وأرمن وشراكسة وتركمان…، ويتوزع السكان دينيًا -بحسب الإحصاء الرسمي لعام 1985- مسلمون بمذاهبهم 92 بالمئة، مسيحيون بطوائفهم 8 بالمئة. يتوزعون على اثني عشر محافظة + ريف دمشق وريف حلب، وكنتيجة لتمركز الخدمات في المدن، وفقدان التخطيط الشامل، والنمو المتوازن، حدثت هجرات كثيفة من الأرياف إلى المدن؛ ما أدى إلى عشوائيات في المجالات المختلفة، حيث تزاحم المواطنون في مناطق معينة، بينما ظلت مناطق أخرى خالية، ومناطق بدون كثافة سكانية، وهذا بدوره أدى إلى عشوائية التعامل مع الموارد الطبيعية، والمادية، والبشرية في البلاد؛ ما يستدعي إعادة تأهيل المؤسسات على الصعيد المجتمعي، وعلى الصعيد الحكومي عامةً، عبر تنظيم شامل للمدن والأرياف.
على مدى قرون اختلطت في “دولة سورية الفعلية” هذه، جميع القبائل والعشائر والأعراق والشعوب، وانتقلت بغالبيتها الساحقة من مرحلة الصراعات القبلية والدينية والطائفية والمذهبية والعنصرية إلى علاقات تحكمها قيم المواطنة، فأفشلت خططًا تقسيمية إضافية، حاولها المستعمر الفرنسي إبان الانتداب، فتحابّ السوريون، وتزاوجوا، وتوافقوا، واختلفوا في المواقف من القضايا السياسية المطروحة يسارًا ويمينًا، لكن بصفتهم مواطنين، وليس بصفاتهم كقبائل وعشائر وأديان ومذاهب وطوائف وأعراق، وبموجب ذلك؛ شكلوا حركات وأحزابًا سياسية تمد نشاطها إلى خارج حدود “الدولة الفعلية” (دولة سورية)؛ لتشمل مواطنين خارج الدولة يعدونهم أجزاءَ منهم، وإلى وطن خارج الدولة يعدون موطنهم جزءًا منه، أقلها يطالب بوحدة سورية الطبيعية، والغالبية منها تطالب بدولة الوحدة العربية بين المحيط والخليج، وأحزاب أخرى تطالب بالأممية العالمية أو بالعولمة الليبرالية أو بالعالمية الإسلامية، وبإلقاء نظرة سريعة على تلك المؤسسات السياسية التي تشكلت في النصف الأول من القرن العشرين، نلحظ -دون عناء- التنوع الوطني في كل حركة أو حزب سياسي، بل لا نكاد نعثر في تلك المرحلة على حزب أو حركة سياسية تحصر نشاطها في، ومن أجل جماعة ما، اثنية، أو دينية، أو طائفية، أو مذهبية، وباختصار شديد، كان نظر المواطنين في سورية إلى مختلف تشكيلاتهم السياسية، يمتد إلى ما بعد حدود “الدولة الفعلية”، ولم يفكر أحد منهم -سابقًا- بجزء منها، بل قاوموا؛ حتى بالمقاومة المسلحة مخططات تقسيمها، إلى أن تفاقمت الأزمة المجتمعية راهنًا في سورية، فظهرت حركات وقوى عصبوية ارتدادية من جميع الجماعات، لم توفر أحدًا، أدخلت “دولة سورية” في مأزقها الراهن.
لا يظنن أحد أننا خرجنا عن موضوع حديثنا: “القضاء”، فالحديث المشبوه يرتفع اليوم في محافل إقليمية ودولية عن الأقليات، وضمانات للأقليات، وهذا يلغي أي حديث عن العدالة والقضاء، فمجرد الحديث عن التمييز والامتياز بين المواطنين يلغي أي حديث عن المساواة أمام القانون والقضاء، وبغياب المساواة لا قانون، ولا قضاء، ولا حتى دولة، فمن له الحق من المواطنين أن يعطي ضمانات لمواطنين آخرين؟ وهل هناك مواطن يملك حقوقًا وطنية ومواطنة في هذا الوطن لا يملكها غيره من المواطنين؟ حتى يعطي ضمانات؟ أو يطلب ضمانات؟ إنه طرح عنصري يخفي -في حقيقة الأمر- الحلم الاستعماري القديم الحديث المتناغم مع المشروع الصهيوني، بإقامة الدول الطائفية والعرقية على الطريقة الصهيونية؛ لتنفيذ (استراتيجية إسرائيل في الثمانينات)؛ حيث ترتكز تلك الاستراتيجية على تقسيم ما تبقى من سورية الطبيعية في “دولة سورية الفعلية الراهنة” أولًا، ثم تجزئة الأجزاء من جديد بين المحيط والخليج، ذلك؛ لأن وأد مشروع النهوض العربي يتوقف على كبح جماح الشعب في سورية بأن ينكفئ إلى الداخل، ويغرق في صراعات قبلية وعنصرية وطائفية ومذهبية، تؤدي -من حيث النتيجة- إلى تجزئة دولة سورية الحالية، وهذا هو جوهر المؤامرة على “الربيع العربي” هذه الأيام، وبالتالي؛ فإن وجود الدولة من عدمه يتوقف على مواجهة تلك المخططات التفتيتية، والتي لا يمكن مواجهتها إلا بتقديم ضمانات العدالة والمساواة والمواطنة، ليس للأقليات التي يدعوّن حمايتها، ولكن لكل مواطن في سورية، وذلك بالانتقال إلى دولة المواطنة المتساوية، حيث: الأكثرية سياسية يختارها الشعب عبر صناديق الاقتراع، إلى حين، في مقاعد السلطة، وحيث: الأقلية، أقلية سياسية يختارها الشعب إلى حين في مقاعد المعارضة، وحيث الإرادة الشعبية وحدها هي التي تحدد تداول تلك المواقع، وحيث الجهة الوحيدة التي تشكل ضمانة لكل مواطن، ومخولة بمنح هذه الضمانة، هي “مؤسسات قضاء عادل ومستقل” ذات مصداقية تمنح الثقة لكل مواطن في سورية أنه لن يتعرض لاعتداء، دون أن يُقتصّ من المعتدي، كائنًا من كان، وهذا يؤدي إلى الالتزام والإلزام بقيم المواطنة، ومعاييرها القانونية والانضواء في إطار نظام عام، يكفل الحريات العامة والمساواة بين المواطنين جميعًا، لا امتياز ولا تمييز ولا تهميش ولا إقصاء، نظام عام يصون الحقوق الأساسية للإنسان، بقوانين عامة وخاصة، من أول دستور ينبض بروح الحرية والمواطنة والمساواة والعدالة المستمدة من العقد الاجتماعي والوطني، وإلى آخر القوانين الخاصة التي تنظم حياة المواطنين في المجالات المختلفة، من أول قوانين الأحوال الشخصية والمدنية والجزائية؛ وحتى التشريعات التي تنظم عمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وترسم حدود الفصل بين تلك السلطات، وبناء مؤسسات وطنية تعتمد في شغل وظائفها العامة معايير الكفاءة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، لا تفرق بينهم على أساس من العرق أو الدين أو الطائفة أو المذهب أو العائلة أو الجنس أو المركز الاقتصادي أو المنطقة الجغرافية.
بما أن الوطن، والشعب في سورية، تعرض خلال العقود المنصرمة لمخاطر جمة وأوضاع استثنائية، أدت إلى اهتزاز تلك القيم اهتزازًا شديدًا؛ ما هدد -ويهدد- العقد الاجتماعي بين المواطنين، وبما أن سورية في مرحلة مخاض عسيرة، وعلى عتبات مرحلة انتقالية، بعضهم يريد من خلالها الانتقال إلى صيغة محسنة من الاستبداد والطغيان والفساد، وبعض آخر يريدها إلى اقتتال وفوضى وساحة لتنفيذ أجندات غير وطنية، وبعض ثالث يريد الانتقال إلى صيغة محسنة لخدمة المصالح الخارجية، بينما الشعب في سورية يرفض تلك الخيارات جملة وتفصيلًا، وهو في مواجهة ذلك كله يريد الانتقال إلى الدولة الوطنية، دولة المواطنة والقانون والسيادة والمساواة والحرية والديمقراطية والعدالة. الكرامة لكل مواطن، والكرامة الوطنية لمجتمع المواطنة برمته ككائن حي سليم معافى نشط واع، يعرف -من خلال مؤسساته الوطنية- واقعه الموضوعي، كما هو، ثم يحدد مشكلاته كما هي، لا تهويل ولا تهوين، ثم يحشد الوسائل والأدوات لحلها يُحصي بدقة ثرواته المادية والبشرية، ويضع المخططات التنظيمية للتعامل معها بموجب نظام عام، جوهره بناء قانوني عادل، يحدد الحقوق والواجبات والجزاءات، بدءًا من ديباجة الدستور ومواده، وانتهاء بالقوانين الخاصة واللوائح التنظيمية التي تشمل تنظيم السير والنظافة العامة، يتعامل مع الخارج على ضوء المصالح الوطنية، وليس على ضوء مصالح الخارج، ثم يعمل على تحويل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية من مؤسسات فاشلة، إلى مؤسسات وطنية تحقق التحرير والحرية والعدالة والمساواة والتنمية؛ فتكون دولة سورية واحدة من أشخاص القانون الدولي، تساهم مع الجماعات الإنسانية الحية في بناء نظام عالمي إنساني عادل ومتوازن، يضع حدًا للاستغلال والعدوان والنهب والسيطرة والاستبداد.
[sociallocker] [/sociallocker]