من قتل مشعل التمو؟

28 نوفمبر، 2016

إياد اليوسف

لم أرد الإسراع في إنجاز كتابي في صديقي مشعل التمو، على الرغم من أهميته لدي، لسبب رئيس هو محاولتي عدم المغامرة في الإشارة إلى الأدوات التي ساهمت في اغتياله، قبل التأكد مما بحوزتي من معلومات، ولا سيما أمام ضعف حيلتي في هذا المجال.

إذ لا أعدو أن أكون أكثر من صاحب رؤية، أو إعلامي، أو صديق لمشعل. أحمل في ذمتي أمانة علاقتنا المائزة، وإن كانت هناك مقدمات ما، تقرّبنا من شخصية القاتل، حتى في عمق محايدتنا، لكنها غير كافية، وإن كان القاتل-هنا- ينطبق عليه المثل القائل، وهو شطر من بيت شعري أيضًا: “يكاد المريب أن يقول خذوني”.

حقيقة، لا أريد أن أُبدي رأيي الشخصي في حدث كنت بعيدًا عنه، لحظة وقوعه آلاف الكيلومترات، على حساب الأمانة المطلوبة مني ككاتب، يقوم في مهمته البحثية، ليكون حالي-هنا- حال من لديه قناعاته في تحديد شخصية القاتل. غير أن هذه القناعات لا تصلح لأن تكون كافيةً في المحكمة، منتظرًا -بذلك- أن يتنطّع أحد ما ويقول: أنا من كلّفت بهذه المهمة، أنا كنت في دائرة التخطيط، أنا من كنت في دائرة التنفيذ، أنا كنت الشاهد… إلخ.

وإن كان من يُكلف بمهمة كهذه أحد اثنين، إما قتيلٌ بمقتل القتيل على يديه -حين يكون -كاريزميًا- مهمًا كما هو حال مشعل، أو متورطٌ في جرائم ووقائع تجعله غير قادر على القيام بهذه الشجاعة، وإن كان هذا الأمل جدّ طفيف على ضوء الجرائم السياسية التي ترتكب. ولا سيما عندما يكون هناك قاتل مُدرّب، له تاريخه في هذا الكار، بل إنه لا يُختار إلا بعد دراسات معمّقة عن شخصيته، وسيكولوجياه، بحيث يكون معطوب الضمير ولعلنا بتنا الآن، بعد معاينتنا لوقائع الحرب السورية، نتعرف أكثر إلى هذه الشخصية؛ إذ صارت تقدم نفسها كما هو حال الداعشي. أو آكل الأكباد الآدمية، أيًا كانت هويته. وهما شخصيتان، طالما عانى منهما السوري في أقبية فروع أجهزة مخابراته. وفي هذا ما يعني لدي أن لا تعويل عليه البتة. فضلًا عن أن الاغتيالات المافيوية التي تتم ضمن هذا الإطار تكون ضيقة النطاق، خيطية، مباشرة، حتى وإن اعتمدت على آخرين اعتمادًا مباشرًا أو غير مباشر، من أجل تنفيذ مهمتها، ولا سيما في ما يتعلق بحركة الضحية، وأي معلومة تتعلق بيومياتها، وإقامتها وغير ذلك…!

وقد جاءت اللحظة الفوضوية التي اغتُيل فيها مشعل ملائمة؛ لكي يتمكن القاتل من محاولة التملص من تحديد هويته، على نحو جازم، قطعي، دامغ، مباشر. في ظل هيمنة آلة الرعب في أعلى مستوياتها، بعد أن شارك الأجهزة الأمنية سواه في ممارسة القمع، وهو ما شجّع كل الأطراف ذات السبق المافيوي في سورية، القديمة منها والجديدة، لتنفيذ خططها، في محاولة إلقاء تهم ما لا تريد تنسيبه لنفسها، على كاهل الآخر، أيًا كان. ضمن مناخ ملائم لكل أنواع الجرائم، بما جعل حياة أي شخص وسلامته في هذا المكان أمرين يتمان بمحض المصادفة. بل وبما يجعل كل امرئ ضحية سهلة أمام أي قاتل مافيوي رسمي أو مترسم، أو غير ذلك.

وإذا كانت الخلافات السياسية الكردية التي وصلت إلى لحظة الانفجار، قبيل اغتيال مشعل، قد خلقت أجواء ملائمة لتنفيذ جريمة اغتياله؛ ليتمكن القاتل من التملّص من تحديد هويته، وهويّة الجهة، أو الجهات التي كانت وراء تنفيذ هذه الجريمة، أو مستفيدةً منها، على الرغم من معرفة الشارع برمته منْ المستفيد الفعلي من هذه العملية الإجرامية، ومن المسؤول عنها، والمسؤولية الأولى هي مسؤولية النظام السوري الذي أوصل البلاد إلى هذه اللحظة من الفوضى، والبلبلة، لأغراض ما عادت خافية على أحد البتة.

وعلى الرغم من معرفتي الدقيقة بطبيعة شخصية مشعل، بإيجابياتها، وإنسانيتها وكاريزماها وحنكتها وحكمتها، ومآخذي عليها التي كنت أصارحه بها -كما يفعل معي- إلا أنني -في فضاء المآخذ- على معرفة بطبيعة نقاط الثغرات في شخصيته، وهي تدخل ضمن إطار حماسه الثوري وجرأته وردود فعله. إلا أن هناك ما بدر منه كي يؤازر قاتله في سرعة الاهتداء إليه، وفي مقدمة ذلك: طيبته، وعدم احترازه الكافي، كما بدا أخيرًا، فضلًا عن أمر مهم، وهو ثقته المطلقة بدنو سقوط النظام -كما تم مع محمد معشوق الخزنوي- حيث كانت بعض المراكز الأوروبية، قد قالت ذلك لكل منهما.

إن انقطاع مشعل لمدة ثلاث سنوات -تقريبًا- عن الشارع، وعدم الاطّلاع المباشر على ما يحدث من المستجدّات الطارئة، تركا ثغرة لديه في التفهم الكامل لطبيعة اللحظة، ولا سيما أنه أمام خياري الحراك أو اللاحراك، انخرط في أولهما، وبكل ما لدنه، مدفوعًا بما يكنّه في أعماقه لسورية المتصورة في رؤاه، بعد أن عاش خلال فترة سجنه مع أعداد من المعتقلين السوريين، وتجلّى ذلك في اندفاعه في لجّة هذا الحراك والتعاون مع النوى الأولى لواجهات الثورة، كأحد الأرقام غير ممكنة التجاوز من أحد.

ومن ضمن نقاط الخلل في قراءة اللوحة منه، كما أزعم، هو أنه لم يجد التعامل مع التهديدات التي راح يتلقاها، قبيل محاولة اغتياله الأولى؛ إذ راح ينحاز إلى لحظته الحماسية، وهي أن الثورة أكبر من محاولات الفتك والإجهاض، بل إنه أكبر من رصاصات قاتله -وهي الحقيقة- التي يتجاهلها غباء القاتل الذي ستحلّ عليه لعنة دم هذا المناضل الكبير طوال الزمن.

إن شجاعة مشعل -وهو المجرّب في أكثر من محطة كردية- ولكن الشجاعة “غير المتهورة” على ضوء معرفتي به، كانت وراء استرخاص حياته، ولا سيما أنه كان يعرف أن إبداء أي موقف من رأس النظام كان له ثمنه، وهو ما لم يتورع عنه البتة. بل لقد كان أول الأعضاء القياديين المعلنين في الداخل؛ إذ اختير عضوًا في الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري. وفي هذا أكبر خطأ، كان على المجلس -ومن شكّل امتداداً له- الإقرار به، وحمل جزء من مسؤولية تبني ملف مقتله، لا تناسيه كما سرعان ما تم ويتم…!

لقد كان حريًا بمشعل ألا يعلن عن التهديدات التي وصلته -وهي وجهة نظري- ولا سيما بعد أن وصلته أسماء الخلية الأولى التي كلّفت باغتياله في المحاولة الفاشلة التي سبقت عملية اغتياله، كما تردد؛ إذ لجأ إلى الاستقواء بتعاطف مناضلي الثورة به، وهو كنزٌ كبير لم يتوافر لأحد، غير أنه كان غير ممكن الصرف المباشر، في ظل ذلك الواقع. بينما ثغرات التسلل إليه ظلّت كما هي، على الرغم من كل احتياطه بمرافقه، وهو نجله مارسيل، في حلّه وترحاله؛ إذ طالما قلت له في مرحلة ما قبل السجن، عندما كانت أجهزة الأمن تهدّدنا، ومنها عشية 5 حزيران/ يونيو 2005، وفي أربعين محمد معشوق: حذار من نشر التهديد بحقنا، لئلا يستغل بعضهم التهديد.

حين اختُطف مشعل التمو، وكما قيل على ألسنة مقربين منه، كانت في حوزته نسخ من العدد الجديد لجريدة تياره “المستقبل”، وفيها ما استفز بعض أطراف الحركة الكردية. ويبدو أنه لم يُرد -من جهته- التصالح معها بُعيد سجنه؛ إذ واصل نقده لها بضراوة، كردّ فعل منه على استهدافه من الوجوه التي لم تتفهم حالته، وصارت تستكثر عليه أن يكون له حضوره؛ ما تسبب في ديمومة الخلاف بينهما، فضلًا عن اصطدام حزب الاتحاد الديمقراطي به. عندما حاول اختراق تظاهرة جمعة صالح العلي، والتي أُقرّ مخطط اغتياله بموجبها، ما جعله وآخرين يقودونها بعكس الاتجاه المعتاد، بعد أن تقدمت مجموعة صغيرة -منهم من هو معروف باسمه، كما قيل آنذاك- في محاولة تغيير شعاراتها، ورايتها، واستفزاز المتظاهرين؛ ما دعا النظام كي يستفيد من هذا الخلاف الطارئ، ويفرق التظاهرة التي كان مشعل ممن يقودونها، ليحصل الخلاف الكبير، بما يحدث فرزًا؛ حتى ضمن الحراك. إذ صدر بيان عن إحدى جهات الحراك الرئيسة، يدين التظاهرة التي انضم إليها مشعل؛ ما جعلني أتدخل شخصيًا، وأصحح ما تمّ من أحدهم، عبر إصدار توضيح، كان لمشعل تعليقه عليه…!

من جهتي، وبعيد التهديد الذي تم، حاولت تشكيل لجنة مصالحة بين طرفي الخلاف، دون معرفتي بما وراء الأكمة -كما يقال- وقد وافق الطرفان على ذلك، غير أن اللقاء لم يتم…!

لقد كان على مشعل أن يغادر المكان بعد أن تحسّس الخطر، بل بعد أن ترجم ذلك عبر محاولة اغتيال فاشلة، يعرف من كان المخطط لها، بحسب المقربين منه، وربما من يمكن تسميتهم بالمؤتمنين على وديعة ما، افتراضًا، ومن المنفذون، وبات يتوارى عن الأنظار، ويتخذ ترتيباته الخاصة، غير الناجعة، ولا سيما أن القاتل كان يتابع حركة سيارته، وربما أكثر من ذلك أيضًا؛ كي يقرر أخيرًا ذلك، وهو ما علمته من الصديق، ريزان شيخ موس، بعد اغتياله بساعات، إلا أن مخطط قتله كان محكمًا، كما يبدو؛ لأنه غيّر كثيرًا من معادلة تموضع الحراك الكردي على خريطة الثورة، بل كان اغتياله بداية مرحلة من الرعب والهلع والخوف، ووأد الحراك وتشتيته وتهجيره، بل تهجير الأكراد من مكانهم.!.

هذا المناخ “المكربن” آزر القاتل؛ كي يسرّع من وتيرة الإقدام على تنفيذ مهمته، بسلاسة وهدوء ودم بارد، وربما أنه راح يشارك في تشييع الجنازة، أو يذرف دموع التماسيح عليه، بعد أن استطاع تدوين وقوع فعل الجريمة من مجهول، وإن كان معلومًا ضمن دائرة ما، إلا أن أحدًا لم يجازف بمهمة تقديم ما لديه من وقائع، عبر تواطؤ ملموس، فضلًا عن أن هناك محاضر اجتماعات لدى تيّاره، فيها كثير من الوقائع، فيما يتعلق بتحديد هوية من كانوا وراء محاولة اغتياله الأولى، أو من هددوه. يضاف إلى هذا كله أنه؛ وحتى الآن، لم تشكّل لجنة قانونية للبت في ملابسات هذه الجريمة السياسية “العظمى” التي تمت. بل لم يُدرج ملف اغتيال مشعل ضمن أي حوار مصالحة يتم. وإن كانت برأيي النقطة الأولى التي كان يمكن الحديث عنها ضمن الإشكالات القائمة، وذلك؛ لأن حدث اغتياله يمثل بداية الانهيار العظيم لمكاننا وإنساننا. ويظل من هدّده في موقع التهمة، إلى أن يأتي بما يستلزم من وثائق تؤكّد أن غيره هو الجاني، على الرغم من أن القاتل الأول والأخير لكل سوري، ولكل كردي، بل لكل ما يحدث في المنطقة هو: النظام وأدواته…!

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]