تركيا واللاجئون السوريون.. السياسي والإنساني
3 ديسمبر، 2016
لا ينكر ما قدمته تركيا للاجئين السوريين على مدى السنوات الماضية إلا جاحد، فقد فتحت أبوابها وحدودها منذ أشهر الثورة الأولى لمن هربوا من بطش النظام، ورغم أنها حددت في البدايات سقف ما تستطيع استضافته منهم بمئة ألف شخص فقط، إلا أن عدد السوريين القادمين إليها بعد الثورة قد اقترب الآن من ثلاثة ملايين وفق الأرقام الرسمية المسجلة، التي هي أدنى بالتأكيد من الأرقام الحقيقية.
قدمت تركيا نموذجًا لمخيمات اللاجئين السوريين امتدحته المنظمات الدولية والشركاء الأوروبيون، وكان واضحًا الفارق الكبير بين أوضاعهم في تركيا -لا سيما في الأشهر الأولى- وبين نظرائهم في الدول الأخرى، بغض النظر عن الفارق الكبير في الإمكانات المادية بين تركيا من جهة ولبنان والأردن من جهة أخرى، أكثر من ذلك فقد قدمت تركيا الرسمية والشعبية من خلال الهيئات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإغاثية العونَ للنازحين السوريين داخل الأراضي السورية أيضًا.
ورغم أن استضافة اللاجئين والهاربين من الظلم وويلات الحروب واجب أخلاقي وديني وإنساني قبل أن يكون التزامًا أمام القانون الدولي، فإنه يحسب لتركيا أنها تحمَّلت كدولة جارة فاتورة التواجد السوري على أراضيها، اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وأحيانًا أمنيًّا (بعض العمليات الانتحارية نفَّذها من دخلوا البلاد كلاجئين).
كل ذلك حق لا مراء فيه ولا طائل من إنكاره، لكنه ليس كل الحقيقة، إذ كل عمل إنساني له سلبياته وإيجابياته وصوابه وخطؤه، فمن باب أولى أن يكون للمواقف السياسية نفس تلك الجوانب المتباينة، وهو ما ينطبق على الوجود السوري على الأراضي التركية الذي شابته بعض السلبيات على مستوى الرؤية والخطاب والقرارات والمواقف.
بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى أننا نستعمل مصطلح “اللاجئ السوري في تركيا” مجازًا، إذ لا يعطي الدستور التركي للسوريين صفة وحقوق “اللاجئ”، بل يطبق عليهم مبدأ “الحماية/الرعاية المؤقتة”، المنصوص عليها في المادة 91 من قانون “الأجانب والحماية الدولية” رقم 6458 لعام 2014، هذا الوضع القانوني الذي ينص على “تأمين الاحتياجات الضرورية” ولا يتيح للمنتفعين منه الحصول لاحقًا على الجنسية التركية كاللاجئين في الدول الغربية، ما يعني أن مستقبل السوريين في تركيا غير مضمون أو مبشر، مما دفع الكثيرين للتفكير بالهجرة، لا سيما الشباب منهم.
ثم هناك الخطاب الرسمي التركي الذي يتحدث عن “3 ملايين لاجئ”، رغم أن الموجودين داخل المخيمات ومراكز الإيواء لا يتجاوزون نسبة 15% من السوريين الذين وفدوا إلى تركيا، وفقًا لأرقام رئاسة إدارة الآفات الطبيعية والطوارئ (AFAD) والعديد من الأوراق البحثية ومؤسسات المجتمع المدني.
في الخطاب الرسمي أيضًا الذي أعطى للوجود السوري شرعية وغطاء تحت لافتة “المهاجرون والأنصار”، كان ثمة تركيز مبالغ به على التكاليف المالية للسوريين في تركيا على حساب الجوانب الأخرى للاستضافة، فضلًا عن التركيز على مناقب السوريين والإيجابيات التي حصلت بتواجدهم لا سيما مساهماتهم في الاقتصاد التركي.
1- ومع استمرار هذا الرقم بالارتفاع مع مرور الوقت إضافة للإشارة إلى الأعداد الكبيرة من السوريين، لم يترك ذلك آثاره السلبية على السوريين فقط، بل على طيف من الأتراك أيضًا، رأوا أن الأمر يتم على حسابهم ومن جيوبهم كمواطنين و/أو اعتبروا أن السوريين ينافسونهم على رزقهم وأعمالهم، سيما في ظل الأزمة الاقتصادية وبعض التسهيلات التي قدمتها الحكومة لعمل وتشغيل السوريين.
ربما لم تظن تركيا أن تستمر المأساة السورية كل هذا الوقت، ولذلك فقد غابت في السنوات الأولى الخطط طويلة الأمد بخصوص السوريين، وهو أمر متفهم في ظل تسارع الأحداث في ذلك الحين، أما الآن، وحيث من الواضح أن الأزمة لن تنتهي قريبًا، وأن الكثير من السوريين لن يعودوا أو لن يستطيعوا العودة سريعًا حتى ولو انتهت، فثمة حاجة ملحة لسياسات طويلة النفس تسعى لدمج السوريين في المجتمع التركي من جهة ولرفع مستوى قبول الشعب التركي لهم من جهة أخرى، وهي عملية تكاملية صعبة وتحتاج إلى أرضية صلبة والكثير والكثير من التخطيط والجهد والمتابعة.
ويبدو أن صانع القرار التركي قد اقتنع بهذه الحقيقة، بيد أن تعامله معها بادئ الأمر لم يكن موفقًا. طرحت الحكومة فكرة “تجنيس السوريين” دون تمهيد للشارع التركي لمحاولة إقناعه وتسهيل تفهمه للتطورات، مما أثار المعارضة وأطيافًا من المواطنين ضد المشروع. وهنا تراجعت الحكومة عن فكرة “تجنيس السوريين” إلى فكرة “تجنيس سوريين” مؤكدة أنها ستسعى إلى تجنيس طويل النفس وليس فوريًّا ويضم ذوي الكفاءات من السوريين وليس كلهم، في تعارض مع سياستها السابقة، واقتراب مما تنتقده في التعامل الأوروبي مع اللاجئين.
في الممارسة أيضًا، تغيرت سياسة الباب المفتوح جزئيًّا بتفضيل تركيا تقديم العون للنازحين داخل الأراضي السورية، بفعل التطورات واستمرار الأزمة والتهديدات الأمنية، ثم التفاهمات مع الأوروبيين، وفي بعض الأحيان وصل الأمر لإطلاق النار على بعض من لجؤوا للحدود التركية بذرائع أمنية.
أما اليوم، فيبدو ملف “اللاجئين السوريين” أحد أهم مفاصل العلاقات التركية -الأوروبية المتوترة منذ فترة، خاصة بعد اتفاق الإعادة الذي أبرمه الاتحاد الأوروبي مع تركيا في آذار/مارس الفائت، والذي تضمن إعادة الأوروبيين لتركيا لاجئين دخلوا بلادهم بطريقة غير رسمية، في مقابل استقبال لاجئين منها مسجلين رسميًّا، بينما تكسب تركيا تقدمًا في ملف عضويتها، وخصوصًا تحرير تأشيرة شينغن لدخول دول الاتحاد للمواطنين الأتراك.
ومع توتر العلاقات بين الطرفين، وعدم وفاء الأوروبيين بالجزء المتعلق بهم في الاتفاقية، أي تحرير التأشيرة والدعم المالي للاجئين، يلوح الساسة الأتراك منذ فترة بإمكانية عدم وفائهم هم أيضًا في المقابل بالشروط المطلوبة منهم، أي تخفيف الرقابة على الحدود أو فتحها أمام اللاجئين ليتجهوا نحو البلاد الأوروبية.
يبدو الأمر مفهومًا إذا ما نظر له على أنه اتفاق بين طرفين، أخل أحدهما به ويهدد الآخر بالمعاملة بالمثل، كما يبدو الأمر ناجعًا نوعًا ما بالنظر إلى التصريحات الأوروبية التي صدرت تدعو لعدم خسارة تركيا، باعتبار أن ملف الحدود/اللاجئين ورقة قوية بيدها تقض مضاجع الدول الأوروبية، وقد تكبدهم خسائر كبيرة في ظل الأزمة الاقتصادية، وتصاعد اليمين في القارة العجوز.
بيد أن الاتفاق ليس سياسيًّا بحتًا كما هو واضح، بل يتعلق أيضًا بمصير اللاجئين وأرواحهم، ولذلك تبدو تركيا وكأنها وضعت نفسها في موضع المستغل للاجئين في سبيل مصالحه الخاصة، وهو انطباع يجب التعامل معه بسرعة وجدية وعمق.
لقد ولد اتفاق الإعادة من رحم الرغبة الأوروبية في منع وصول اللاجئين –خاصة السوريين- لبلادهم، ووجدت فيه تركيا فرصة لإحياء وتسريع ملف انضمامها للاتحاد (أو قدم لها الأوروبيون هذا العرض/الطعم)، بيد أن الربط بين ملف اللجوء ومسيرة الانضمام كان خطأ كبيرًا، خاصة أن الاتفاق كان يحمل بذور فشله منذ البداية (وقد فصلنا في ذلك في حينها).
2- تدفق اللاجئين عبر الطريق البحري بين تركيا واليونان أوصل الكثير من اللاجئين إلى الدول الأوروبية، لكنه أوصل الكثيرين منهم أيضًا إلى أعماق البحار بسبب استغلال مافيا الهجرة لظروفهم واضطرارهم، كما أدى الاتفاق إلى توجههم نحو الطريق البحري بين مصر/ليبيا والسواحل الإيطالية واليونانية وغيرها، وهو أمر قلل عدد الواصلين إلى أوروبا، لكنه زاد من أعداد الموتى على الطريق.
ولذلك، فإن تهديد أنقرة للأوروبيين اليوم بإعادة فتح الطريق للاجئين للوصول إلى أوروبا للضغط عليهم يحمل في طياته إمكانية غرق وموت الكثير من اللاجئين مرة أخرى، فيما الهدف الرئيس هو الضغط على الأوروبيين في ملف العضوية، خاصة بعد قرار التوصية من البرلمان الأوروبي بتجميد المفاوضات معها.
3- لا أحد يجادل في المعايير المزدوجة التي يعتمدها الأوروبيون مع تركيا أو في حق الأخيرة في الضغط عليهم بالمقابل، فهي دولة ذات سيادة وقرار مستقل ولها كامل الحق في حماية مصالحها، بل أكثر من ذلك، فنحن معنيون بتركيا قوية ومستقلة في قرارها، وحريصون على ذلك، ولكن الأمر ينبغي ألا يصل لمستوى تهديد حياة اللاجئين، ولو على سبيل الاحتمال والإمكانية.
وأما التبرير بأن تركيا ليس من حقها إغلاق الباب أمام من لا يرغب في البقاء على أراضيها ويريد الوصول للقارة الأوروبية فيتهاوى أمام السؤال عن المنع خلال الفترة الماضية، بعد إبرام الاتفاق ومسوغاته ومشروعيته.
لربما يكون الأمر مقبولًا إن كان الحديث عن الحدود البرية مع بلغاريا واليونان حصرًا، حيث لا خطر ملموسًا على حياة اللاجئين، أما الهجرة عبر البحر فخطر شديد ينبغي العمل على مكافحته بغض النظر عن المواقف الأوروبية من أنقرة ومن اللاجئين على حد سواء.
الخلاصة، لقد قدمت تركيا للسوريين الكثير وربما كانت الدولة الأكثر تأثرًا بالأزمة السورية بعد الإخوة السوريين أنفسهم، وهو موقف يستوجب التقدير والشكر بلا ريب أو تردد، بيد أن هذا الربط الطردي وبشكل تلقائي بين ملفهم وملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي يعطي انطباعًا باستثمار الأول من أجل الثاني، وهو أمر ليس في مصلحة تركيا، كما هو في غير مصلحة السوريين، إذ تنفخ فيه وتضخمه أطراف عدة للنيل من صورة تركيا.
وعليه، فينبغي على صانع القرار التركي التنبه لهذا الأمر، والعمل على تفنيده -فضلًا عن عدم تطبيقه- حتى ولو سلمنا جدلًا بأنه مجرد انطباع وليس حقيقة واقعة، فالانطباعات قد تكون في كثير من الأحيان أكثر أهمية وخطورة من الحقائق والوقائع بكثير.