‘الفاشية السرمدية: وصول ترامب إلى البيت الأبيض يرمي بظله الثقيل على أوروبا’
5 ديسمبر، 2016
تقدم المقالة طيفا واسعا من الأسماء الفكرية والأدبية والسياسية التي اشتهرت إبّان القرن العشرين، وكيف تحولت مساراتها إن في اتجاه الانتماء إلى الفاشية والمساهمة في بلورة حضورها في التاريخ الأوروبي، أو في اتجاه معارضتها، وبالتالي الصدام معها ودفع الأثمان الجسيمة، بما في ذلك العقاب قتلا واغتيالا. الفاشيون أنفسهم دفعوا الثمن، أكانوا ساسة أو منظرين، فقد سيقوا إلى الموت بطرائق لا تقل عنفا عن الطرائق التي قتلوا فيها خصومهم.
مقالة أمبرتو إيكو مليئة بالأمثلة والمعلومات عن نشأة الفكرة الفاشية ومكوناتها. إنها مقالة تنذرنا، خصوصا اليوم مع ظهور اليمين الفاشي في أوروبا ووصوله إلى أميركا، إيذانا ربما بتفاقم الظاهرة في الغرب، وظهورها على المسرح مرة أخرى على نحو قد يجرف مجتمعات بأكملها نحو عنف غير مسبوق، وربما حروب لن تبقى فكرية، ولكنها قد تتجاوز ساحات الكلام إلى ساحات الفعل.
في عام 1942 عندما كنت في العاشرة من عمري، حصلت على المركز الأول في مسابقة لودي الإقليمية لليافعين (وهي مسابقة اختيارية إلزامية للشباب الإيطالي الفاشي، أي لكل شاب إيطالي). وقد حشدت مهاراتي البلاغية في موضوع المسابقة الذي كان “هل علينا أن نموت لمجد موسوليني وخلود إيطاليا؟” وأجبت بنعم. كنت ولدًا ذكيًا.
أمضيت عامين من سنيّ الأولى بين “الفافن إس إس” والفاشيين والجمهوريين وقوات الأنصار وهم يتبادلون إطلاق النار، وكان ذلك تمرينًا جيدًا لي على تجنب الطلقات.
في شهر أبريل من عام 1945، استولت قوات الأنصار على ميلانو ووصلت بعد ذلك بيومين إلى القرية الصغيرة التي كنت أعيش فيها ذلك الوقت. كانت لحظات سعيدة، حيث احتشد الناس في الميدان الرئيسي يغنّون ويلوّحون بالأعلام ويهتفون بحياة ميمو -قائد قوّات الأنصار في تلك المنطقة- بأصواتهم العالية. وكان ميمو المارشال السابق في الشرطة العسكرية قد انضم إلى أنصار الجنرال بادوليو خليفة موسوليني، وفقد ساقه في إحدى الاشتباكات الأولى مع فلول قوى موسوليني. ظهر ميمو على شرفة قاعة المدينة شاحبًا متكئًا على عكازه محاولًا تهدئة الجموع بإشارة من إحدى يديه. كنت أنتظر خطابه لأنّ طفولتي كانت موسومة بخطابات موسوليني التاريخية الرائعة التي حفظنا أكثر مقاطعها روعة في المدرسة. خيّم صمت على الساحة، وتحدث ميمو بصوت أجشّ بالكاد يمكن سماعه، وقال “أيها المواطنون، الأصدقاء، ها نحن هنا بعد الكثير من التضحيات الأليمة.. طوبى للذين سقطوا من أجل الحرية”. وكان هذا كلّ ما قاله ثم عاد إلى الداخل. هتفت الحشود ورفع الأنصار أسلحتهم وأطلقوا الأعيرة النارية ابتهاجًا، وهرعنا نحن –الأطفال- إلى التقاط الخراطيش غنائمنا الثمينة، لكني حينها تعلمت أيضا أن حرية التعبير تعني التحرر من التكلف.
وبعد عدة أيام من ذلك شاهدت طلائع الجنود الأميركان، الذين كانوا من الأميركان من أصول افريقية. أي أن اليانكي الأول الذي أقابله كان رجلا أسود، جوزيف، الذي عرّفني على قصص ديك ترايسي وليل أبنر المصورة بألوانها الزاهية ورائحتها الزكية.
قابلت أحد الضباط (الميجور أو الكابتن مادي) في حديقة فيلا أهل زميلتيّ في المدرسة حيث حلّ ضيفًا عليهم، وكان محاطًا بالسيدات اللاتي يتحدثن فرنسية خجولة، كما كان هو يتحدث شيئًا من الفرنسية. ولذا كانت الصورة الأولى التي استقرت في ذهني عن المحررين الأميركان -بعد رؤية عدد من البيض يرتدون القمصان السوداء- رجلًا أسود مهذبًا يرتدي زيًا أصفر يميل إلى الاخضرار يقول بالفرنسية “نعم، شكرا جزيلا سيدتي، أنا أيضا أحب الشمبانيا”، ولسوء الحظ لم يكن هنالك شمبانيا، غير أن الكابتن مادي قدم لي علكة ريجلي سبيرمنت وأخذت أمضغها طوال اليوم، ووضعتها في الليل في كأس ماء لتكون طريّة في اليوم التالي.
معنى المقاومة
في مايو، سمعنا أن الحرب انتهت. وحرّض السلم لديّ حس الاسكتشاف، لأنّي تعلّمت أن الحرب الدائمة كانت هي الحالة الطبيعية لإيطالي شاب، واكتشفت في الأشهر اللاحقة أن المقاومة لم تكن ظاهرة محلية فحسب، بل كانت ظاهرة أوروبية أيضا. وتعلّمت كلمات جديدة مثيرة مثل “الشبكة”، و”العصابات” (المقاومة الفرنسية)، “الجيش السري”، “الفرقة الحمراء”، و”غيتو وارسو”، واطلعت على الصور الأولى للهولوكوست، الأمر الذي جعلني أفهم المعنى قبل معرفة المصطلح فأدركت ممّ تحررنا.
في بلادي اليوم، هنالك أناس يتساءلون فيما إذا كان للمقاومة تأثير عسكري فعلي في سير الحرب، ولكن ذلك السؤال بالنسبة إلى جيلي لم يكن مناسبًا. لأنّنا فهمنا مباشرة المعنى النفسي والأخلاقي للمقاومة، وكان محلّ فخر بالنسبة إلينا أن نعرف أننا –الأوروبيين- لم نقف مكتوفي الأيدي بانتظار التحرير، كما كان مهمًا أن نعرف أن الأوروبيين خلف خطوط النار كانوا يسددون الدّين مقدمًا للشباب الأميركان الذين يضحّون بأنفسهم لتحريرنا.
في بلدي اليوم، هناك من يقول إن أسطورة المقاومة كانت كذبة شيوعية. وصحيح أن الشيوعيين استغلوا المقاومة كما لو كانت امتيازًا شخصيًا لهم لدورهم الأساسي فيها، لكنّي أذكر أن عناصر قوات الأنصار كانوا يحملون مناديل من مختلف الألوان. أمضيت لياليّ ملتصقا بالمذياع، وكانت النوافذ مغلقة والعتمة تجعل المساحة الصغيرة حول الجهاز هالة للعزلة المضيئة. كنت أستمع إلى الرسائل المرسلة إلى قوات الأنصار عبر “صوت لندن”، وكانت تلك الرسائل مشفرة وشعرية في الآن نفسه (الشمس تشرق أيضا والأزهار تتفتح) ومعظمها كانت “رسائل إلى فرانكي”. همس لي أحدهم أن فرانكي كان قائدا لواحدة من أقوى الشبكات السرية في شمال غربي إيطاليا، رجل ذو شجاعة أسطورية وأصبح فرانكي بطلي (كان اسمه الحقيقي إدجاردو سوجنو) وكان مناصرا للملكية معاديا للشيوعية بشراسة لدرجة أنه انضم بعد الحرب إلى الجماعات اليمينية المتطرفة، واتهم بالتواطؤ في محاولة لانقلاب رجعي ضد النظام. ولكن من يهتم بذلك؟ يظل سوجنو بطل طفولتي. لقد كانت الحرية حقا مشتركا بين الناس من مختلف الألوان.
في بلدي اليوم، هنالك من يقول إن حرب التحرير كانت فترة انقساماتٍ فاجعة، وإنّ كل ما نحتاجه هو المصالحة الوطنية. ولذا يجب أن تمحى ذكرى هذه السنوات الفظيعة. لكن محاولة ذلك تسبب عصابًا، إن كانوا يرون أن المصالحة تعني الشفقة والاحترام لكلّ أولئك الذين قاتلوا في حروبهم الخاصة بكل إخلاص، لأننا إذ نسامح لا يعني أن ننسى، كما يمكنني أن أعترف أن إيخمان (الذي اسند له هتلر مهمة ابادة اليهود) آمن بمهمته بإخلاص. لكن لا أستطيع أن أقول له حسنا يمكنك العودة لتقوم بذلك مرة ثانية. نحن هنا لنتذكر ما حدث ولنقول جديا أن عليـ”هم” ألا يكرروا ذلك ثانية.
شبح الفاشية
ولكن من هؤلاء الـ “هم”؟ إذا تأمّلنا في الحكومات الشمولية التي حكمت أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، يمكن لنا القول ببساطة إنها سيصعب عليها أن تعود إلى الظهور في الشكل نفسه في ظروف تاريخية مختلفة. إن كانت فاشية موسوليني مبنية على فكرة الحاكم الساحر، وعلى المؤسساتية، وعلى قدر روما الإمبراطوري الطوباوي، وعلى الإرادة الإمبريالية لهزيمة الطغاة الجدد، وعلى الوطنية المتزايدة، وعلى مثالية الأمة كاملة التي تحكمها القمصان السوداء، وعلى رفض الديمقراطية البرلمانية، وعلى معاداة السامية. إذن فلن يكون الأمر صعبًا عليّ في إدراك أن الاتحاد الوطني الإيطالي -الذي ولد من رحم الحزب الفاشي ما بعد الحرب ومن الحركة الاشتراكية الإيطالية بالإضافة إلى حزب يميني- لن يكون قادرا على فعل الكثير بفاشيته القديمة. في السّياق نفسه، بالرغم من أنّني معنيّ أكثر بالحركات العديدة الشبيهة بالنازية التي ظهرت هنا وهناك في أوروبا بما فيها روسيا، لا أعتقد أن النازية بشكلها الأصلي يمكن أن تعود ثانية كحركة قومية النطاق.
ومع ذلك بالرغم من أنه يمكن أن يطاح بالأنظمة السياسية ويمكن انتقاد الأيديولوجيات ورفضها، فإن هناك أسلوبًا للتفكير والشعور خلف كل نظام وأيديولوجيته، ومجموعة من العادات الثقافية، وطبائع مبهمة ودوافع غامضة. هل ما يزال هناك شبح يطارد أوروبا ( إن لم نتحدث عن بقية أنحاء العالم)؟
قال يونيسكو مرة “إن الكلمات هي ما يهم فقط، أما الباقي فهو محض ثرثرة”. إن العادات اللغوية أعراض مهمة لتحديد المشاعر، ما يعني أنه يجدر السؤال لم اعتبرت حركة المقاومة والحرب العالمية الثانية عمومًا في العالم كله بأنهما حرب على الفاشية. إذا أعدت قراءة “لمن تقرع الأجراس″ لهمنغواي سترى أن روبرت جوردان يصف أعداءه بالفاشيين حتى عندما يفكر بالكتائبيين الأسبان. وهذا ما نراه أيضا لدى فرانكلين روزفلت الذي يقول “إن انتصار الشعب الأميركي وحلفائه سيكون انتصارًا على الفاشية وكبحًا للاستبداد الذي تمثله”.
تربية فاشية
خلال الحرب العالمية الثانية، أُطلق على الأميركيين الذين شاركوا في الحرب الأسبانية “معادون للفاشية قبل الأوان”، ما يعني أن القتال ضد هتلر في الأربعينات كان واجبًا أخلاقيا لكل أميركي صالح، ولكن القتال ضد فرانكو قبل ذلك بكثير، في الثلاثينات، بدا مرفوضًا لأن من قاد القتال غالبًا هم الشيوعيون واليساريون. لمَ كان الراديكاليون يستخدمون تعبيرًا مثل خنزير فاشي بعد ثلاثين سنة للإشارة إلى شرطي لم يسمح لهم بالتدخين، لمَ لم يقولوا خنزير”أخوي” أو خنزير “كتائبي” أو “أوستاشي” أو “كويلسي” (وكلها اسماء لحركات فاشية أوروبية هنا او هناك) أو حتى نازي؟
يعد كتاب “كفاحي” بيانًا لبرنامج سياسي كامل، فقد كان للنازية نظرية تتمحور حول العنصرية والشعب الآري المختار، والفكرة الدقيقة عن الفن المنحط، وفلسفة الرغبة في السيطرة والرجل الخارق “السوبرمان”. كانت النازية بلا ريب تنتهج الوثنية الجديدة لأنها معادية للمسيحية، بينما كانت المادية الدياليكتيكية لستالين (النسخة الرسمية للماركسية الشوفينية) مادية وإلحادية على نحو صريح، وإن كنا نعني بالشمولية نظاما يُخضع كل تصرفات الفرد للدولة وأيديولوجيتها، فإنّ كلاّ من النازية والستالينية كانتا أنظمة شمولية بامتياز.
فاشية أم دكتاتورية؟ لا. إنه خليط التناقضات
مما لا شك فيه أن الفاشية الإيطالية كانت دكتاتورية، لكنها لم تكن شمولية تماما، ولم يكن ذلك بسبب اعتدالها بل بالأحرى بسبب الضعف الفلسفي لأيديولوجيتها، وعلى النقيض من الرأي الشائع، لم يكن للفاشية في إيطاليا فلسفة خاصة. أما المقال الموقّع باسم موسوليني في موسوعة تريكاني، فقد كتبه جيوفاني جينيل أو استلهمه منه أساسًا، لكنها عكست هيجلية حديثة للدولة الأخلاقية المطلقة التي لم يدركها موسوليني تماما. لم يكن لموسوليني أيّ فلسفة، كلّ ما امتلكه هو الخطابة فقط. كان ملحدا محاربا في البداية ولكنه لاحقا وقّع الاتفاقية مع الكنيسة ورحّب بالأساقفة الذين باركوا رايات الفاشية. في سنواته الأولى لمقاومة الإكليروس، حسب ما تقوله الأسطورة، أنه سأل الله مرة -من أجل إثبات وجوده- أن يصعقه في مكانه، لكنه صار لاحقا يكثر من ذكر الله في خطاباته ولم يمانع بأن يطلق عليه “رجل الله”.
كانت الفاشية الإيطالية هي الدكتاتورية اليمينية الأولى التي تسيطر على دولة أوروبية، وكل الحركات المشابهة التي ظهرت لاحقا وجدت في نظام موسوليني نوعا من المثل الأعلى. كانت الفاشية الإيطالية أول من أسس طقوسا عسكرية، أي نوعًا من الفولكلور حتى في طريقة اللباس كانت مؤثرة بقمصانها السود أكثر مما يمكن لماركات أرماني، أو بينيتون أو فيرساتشي أن تفعل. لقد ظهرت الحركات الفاشية في الثلاثينات فقط على يد موسلي في بريطانيا، كما ظهرت في كل من لاتفيا وإستونيا وليتوانيا وبولندا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا واليونان ويوغسلافيا وإسبانيا والبرتغال والنرويج وفي أميركا الجنوبية حتما، وقد كانت الفاشية الإيطالية هي من أقنعت العديد من القادة الليبراليين الأوروبيين أن النظام الجديد كان يحمل نظاما إصلاحيا هاما وأنه كان يوفر بديلا ثوريا معتدلا للمدّ الشيوعي.
ومع ذلك لا يبدو السبق التاريخي بالنسبة إليّ سببا كافيا لشرح لماذا أصبحت كلمة الفاشية مجازا مرسلا، حيث أنها يمكن أن تستخدم لوصف العديد من الحركات الشمولية، ولا يعود هذا إلى أن الفاشية تتضمن في جوهرها كل العناصر التي تضمنتها الدكتاتوريات التي ظهرت بعدها. بالمقابل لم يكن للفاشية جوهر فقد كانت نظامًا شموليا مشوشا، مزيجا من مختلف الأفكار السياسية والفلسفية، وخلية من المتناقضات. هل يمكن للمرء أن يتخيل أن حركة شمولية قادرة فعلا على الجمع بين الثورة والملكية، الجيش الملكي والميليشيا التابعة لموسوليني، الاستفادة من امتيازات الكنيسة والسيطرة المطلقة للدولة على السوق الحرة؟ لقد تجسد ذلك في الحزب الفاشي الذي كان يتبجح بجلبه نظاما ثوريا جديدا لكنه في الوقت نفسه كان يحصل على تمويله من مالكي الأراضي المحافظين الذين توقّعوا منه معارضته للثورة. كانت الفاشية في بدايتها جمهورية ولكنها ظلت مع ذلك تعلن عن ولائها للعائلة المالكة طوال عشرين عاما، بينما الدوتشي (الزعيم) (القائد الأعلى الذي لا يقهر) كان يقف جنبا إلى جنب مع الملك الذي منحه أيضا لقب الإمبراطور، ولكن عندما عزل الملكُ موسوليني عام 1943 عاد الحزب الفاشي للظهور بعد شهرين بدعم ألماني تحت مسمى الجمهورية “الاشتراكية” معيدا خطه الثوري القديم ومدعما إياه بمسحة تكاد ان تكون يعقوبية.
كان لدى النازية نظام معماري واحد وفنّ واحد، وإن كان المهندس النازي هو ألبيرت شبير، فذلك يعني أنه لم يكن هنالك مكان لميس فان دير روهي، والأمر نفسه ينطبق على حكم ستالين، فإن كان لامارك موجودا لن يكون هناك متسع لداروين، أما في إيطاليا كان هناك مهندسون فاشيون حتما ولكنك تجد العديد من الأبنية التي استلهمت العقلية الحديثة لجروبيوس قرب مقر مؤتمراتهم.
لم يكن هناك جدانوف فاشي يضع خطا ثقافيا صارما. فقد كانت في إيطاليا جائزتان فنيتان هامتان؛ جائزة كريمانو التي يسيطر عليها الفاشي الوقح المتعصب روبرتو فاريناتشي الذي شجع الفن باعتباره دعاية، (يمكنني أن أتذكر الرسومات التي تحمل عناوين مثل “الاستماع إلى خطاب الزعيم في المذياع″ أو “التجليات الذهنية للفاشية”)، بينما كانت الأخرى جائزة بيرجامو التي يرعاها الفاشي المهذّب المعتدل جيسبو بوتاي، الذي دافع عن مفهوم الفن للفن والأنواع المختلفة من الفن الطليعي الذي حُـظـِر في ألمانيا باعتباره فسادا وشيوعية مقنـّعة.
كان الشاعر الوطني المتأنق دا أنونزيو -الذي لو كان في ألمانيا أو روسيا لأرسل إلى المحرقة- قد عيّن باعتباره شاعرا للنظام بسبب وطنيته وإعجابه بالبطولة التي كانت في الواقع ممزوجة بالمؤثرات الغزيرة لعصر الانحطاط الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر.
انظر إلى “المستقبلية” التي قد يظنها المرء أحد نماذج الفن المتدهور إلى جانب التعبيرية والتكعيبية والسريالية، ولكن المستقبليين الإيطاليين الأوائل كانوا قوميين، وأيّدوا مشاركة إيطاليا في الحرب العالمية الأولى لأسباب علمانية، واحتفوا بالسرعة والعنف والمغامرة التي بدت كلها مرتبطة نوعا ما بالإعجاب الفاشي بالشباب. وفي الوقت الذي أعلنت فيه الفاشية تأييدها للإمبراطورية الرومانية وأعادت التقاليد الريفية، عُين مارينيتي (الذي قال إن السيارة كانت أجمل من تمثال “النصر في ساموتراس” وأراد أن يقتل ضوء القمر) عضوا في الأكاديمية الإيطالية التي عاملت ضوء القمر بكثير من الاحترام.
كان العديد من الحزبيين المستقبليين ومثقفي المستقبل للحزب الشيوعي قد نالوا تعليمهم في الاتحاد الفاشي لطلاّب الجامعة الذي كان يفترض به أن يكون مهدا للثقافة الفاشية الجديدة، وأصبحت هذه النوادي نوعا من البوتقة الثقافية التي تدار فيها الأفكار الجديدة دون أيّ سيطرة أيديولوجية حقيقية، ولم يكن ذلك بسبب تساهل رجال الحزب في التفكير الراديكالي، بل لأن القليل منهم امتلك العدة الثقافية للسيطرة عليه.
خلال هذه السنوات العشرين كان شعر مونتالي وبعض الكتاب الآخرين المتعاونين مع جماعة تسمى إرميتيشي ردة فعل على الأسلوب الطنان للنظام، وقد سمح لهؤلاء الشعراء بالتعبير عن معارضتهم الأدبية من داخل برجهم العاجي. لقد كان نمط شعراء إرميتيشي بالضبط هو نكوص نحو الإعجاب الفاشي بالبطولة والتفاؤلية، وقد تساهل النظام مع معارضتهم الصريحة بالرغم من ضآلتها اجتماعيا لأن الفاشيين ببساطة لم يكترثوا للغة رمزية كهذه.
كل هذا لا يعني أن الفاشية الإيطالية كانت معتدلة، فقد سجن غرامشي حتى مات، واغتيل قادة المعارضة جياكومو مايتوتي والإخوة روسيلي، كما قضي على حرية الصحافة وفككت نقابات العمال ونفي المعارضون السياسيون إلى جزر بعيدة، وأصبحت السلطة التشريعية محض خيال، وأصدرت السلطة التنفيذية (التي سيطرت على القضاء والإعلام) مباشرة قوانين جديدة من بينها قوانين تدعو للحفاظ على العرق (الحركة الإيطالية الرسمية لدعم ما أصبح اسمه الهولوكوست).
لم تكن الصورة المتناقضة التي أصفها نتيجة التسامح، بل بسبب التشوش السياسي والأيديولوجي، ولكنه كان تشوشا صلبا واضطرابا منظما، فقد كانت الفاشية مفككة فلسفيا لكنها مرتبطة بشدة ببعض الأسس البدائية عاطفيا.
ماذا تعني لعبة الفاشية؟
أنتقل الآن إلى نقطتي الثانية، إذن فقد كانت هناك نازية واحدة ولا يمكننا أن نصم كتائبية فرانكو الكاثوليكية بالنازية، فالنازية وثنية في جوهرها ومشركة وضد المسيحية، لكن يمكن أن تُمارَس لعبة الفاشية في أكثر من شكل دون أن يتغير اسمها. لا تختلف فكرة الفاشية عن فكرة فيتجنشتاين عن اللعبة فهي يمكن أن تكون تنافسية أو لا تكون، ويمكن أن تتطلب مهارة خاصة أو لا، كما يمكن أن تشمل المال أو لا تشمله. فالألعاب أنشطة مختلفة تظهر بعضًا من صور العائلة فقط كما يصفها فيتجنشتاين، وانظر إلى هذه المتتالية:
(1) أ ب ت
(2) ب ت ث
(3) ت ث ج
(4) ث ج ح
لنفرض أن هناك سلسلة من الجماعات السياسية التي يمكن وسم أحدها بالأحرف “أ ب ت”، وجماعات أخرى بـ “ب ت ث” وهكذا.. تشبه المجموعة الأولى الثانية بما أنها تمتلك عنصرين مشتركين، وللسبب نفسه فإن المجموعة الثالثة ستكون مشابهة للمجموعة الثانية والرابعة مشابهة للثالثة. انتبه إلى أن المجموعة الثالثة تشبه الأولى (فهما تشتركان بالحرف “ت”) وتمثل الرّابعة الحالة الأكثر غرابة التي تشبه المجموعتين الثانية والثالثة بوضوح، لكنها لا تشترك في أيّ عنصر مع المجموعة الأولى. وعلى أيّ حال بسبب السلسلة غير المنقطعة للتشابهات المتناقضة بين الأولى والرابعة يبقى هنالك -بنوع من الانتقالية الوهمية- ارتباط عائلي بين الأولى والرابعة.
أصبحت الفاشية مصطلحا لكل الأغراض لأنه يمكن للمرء أن يستأصل من النظام الفاشي سمة أو اثنتين ويظل مع ذلك مميزًا بفاشيته، فإن اقتطعت الإمبريالية من الفاشية سيبقى لديك فرانكو وسالازار، وإن اقتطعت الاستعمارية (الكولونيالية) ستبقى لديك الفاشية البلقانية للأوستاش، وإن أضفت المناهضة الراديكالية للرأسمالية (التي لم تعجب موسوليني كثيرا) سيبقى لديك عيزرا باوند، كما سيبقى لديك الزعيم الفاشي الأكثر احتراما يوليوس إيفولا إن أنت اجتزأت عبودية الأساطير السلتية والكأس المقدسة (المغايرة تماما للفاشية الرسمية).
سمات فاشية
ويمكن تحديد قائمة من السمات النمطية لما قد أسميه الفاشية الدائمة (أو السرمدية) بالرغم من الضبابية المحيطة بها، ولا يمكن ترتيب هذه السمات في نظام معيّن فالعديد منها يناقض الآخر، كما أنها نموذجية لأنواع أخرى من الاستبداد أو التعصب لكن يكفي وجود واحدة منها لتسمح للفاشية بالتخثر حولها.
◄ 1- تتجلى السمة الأولى للفاشية الدائمة بـ “عبادة التقليد” التي هي بالطبع أقدم من الفاشية ولم تكن نموذجا للفكر الكاثوليكي المعادي للثورة بعد الثورة الفرنسية فحسب، لكنها ولدت في أواخر الحقبة الهلنستية كردة فعل على العقلانية الكلاسيكية الإغريقية. بدأت كثير من الشعوب من مختلف الأديان في حوض المتوسط (التي يقبل البانثيون الروماني أغلبها بتسامح) بدأت بالحلم بالوحي المستقبل في فجر التاريخ البشري، وقد ظلّ هذا الوحي بحسب الهالة المحيطة بالتقليدية مخبوءا لوقت طويل تحت ستار اللغات المنسية في الهيروجليفية المصرية وفي الحروف السلتية وفي الصحائف القليلة للأديان المعروفة في آسيا.
كان على هذه الثقافة الجديدة أن تكون توفيقية، وهي لا تعني فقط -كما يقول القاموس- الجمع بين مختلف أشكال المعتقدات أو الممارسات، فجمع كهذا يجب أن يتساهل مع المتناقضات، لأن كلّ واحدة من الرسائل الأصلية تحوي جوهر الحكمة، وكلما بدا أنها تقول أمورا مختلفة أو متضاربة فإن ذلك يعود إلى أن كلها تشير مجازا إلى الحقيقة القديمة ذاتها.
وكنتيجة قد لا يكون هناك ارتقاء للمعرفة، فالحقيقة قد اتضحت مسبقا على نحو حاسم، وما نستطيع فعله هو أن نواصل تأويل رسالتها الغامضة فقط.
على المرء فقط أن ينظر إلى منهج كل حركة فاشية ليجد أهم المفكرين التقليديين، فالغنوصية النازية غذتها العناصر التقليدية التوفيقية المستترة. وقد جمع يوليوس إيفولا وهو المنظّر الأكثر تأثيرا لنظريات اليمين الإيطالي الجديد، جمع الكأس المقدّسة مع بروتوكولات حكماء صهيون، وسحر الإمبراطورية الرومانية مع الجرمانية المقدسة، وقد تبدو حقيقة أن اليمين الإيطالي وسّع منهجه أخيرا ليظهر انفتاحه حين ضم أعمالا لدي ميستر وجينون وجرامشي كدليل صريح على التوفيقية.
إذا بحثت في رفوف العصر الحديث في مكتبة أميركية ستجد هناك القديس أوغسطين الذي لم يكن فاشيا على حدّ علمي، لكن الجمع بين أوغسطين وستونهينج هو عَرض من أعراض الفاشية الدائمة.
◄ 2- تعني التقليدية رفض الحداثة، وفي حين يعبد كلّ من النازيين والفاشيين التقنية، يرفضها المفكرون التقليديون عادة باعتبارها نقيضا للقيم الروحية التقليدية، وبالرغم من أن النازية كانت فخورة بإنجازاتها الصناعية فإن مدحها للحداثة كان ظاهريا فقط في أيديولوجيا مبنية على الدم والأرض. وكان رفضها الحداثة بحجة معارضة أسلوب الحياة الرأسمالي، ولكنها غالبا اهتمت برفض روح 1789 (و1776 بالطبع)، وكانت تعتبر التنوير وعصر المنطق بداية الفساد الحداثي، وفي ظل هذا المنطق يمكن اعتبار الفاشية الدائمة لاعقلانية.
◄ 3- تعتمد اللاعقلانية أيضا على تمجيد الفعل من أجل الفعل نفسه، فحتى يكون هذا الفعل جميلا في نفسه يجب أن يكون قد اتخذ من قبل أو دون أيّ تفكير مسبق. لأنّ التفكير هو شكل للإخصاء لذا فالثقافة يكون مشكوكا فيها بقدر ما تعرف باتجاهاتها الحاسمة. كان الارتياب بالعالم الثقافي دوما من أعراض الفاشية الدائمة، بدءا من عبارة وزير دعاية هتلر غورنغ “عندما أسمع حديثا عن الثقافة أمسك مسدسي” إلى الاستخدام المتكرر لتعابير من مثل انحطاط المثقفين، الرفيع الثقافة، نفاج عاجز، الجامعات شبكة من الحمر. لقد كان المثقفون الفاشيون الرسميون مرتبطين غالبا بمهاجمة الثقافة الحديثة والإنتلجنسيا الليبرالية لخيانتها للقيم التقليدية.
◄ 4- لا يمكن لعقيدة توفيقية أن تقاوم النقد التحليلي، لأن الروح النقدية تصنع الاختلافات والتميّز علامة للحداثة. وفي الوقت الذي يمدح المجتمع العلمي الاختلاف باعتباره طريقة لتنمية المعرفة في الثقافة الحديثة، يعني الاختلاف خيانة بنظر الفاشية الدائمة.
◄ 5- إلى جانب ذلك يعد الاختلاف علامة للتنوع. تنمو الفاشية الدائمة وتسعى للحصول على الإجماع من خلال استغلال الخوف الطبيعي وإثارته، ولهذا تقوم الفاشية أو الحركة الفاشية المبتسرة بالدعوة إلى الوقوف ضد المتطفلين وهو ما يجعلها عنصرية في تعريفها.
◄ 6- تنشأ الفاشية الدائمة من الإحباط الفردي أو الاجتماعي، ولذا كانت أكثر الملامح نمطية للفاشية التاريخية استمالة الطبقة المتوسطة المحبطة التي تعاني من أزمات اقتصادية أو شعور بالإهانة السياسية كما أنها واقعة تحت ضغط المجموعات الاجتماعية الأخرى الأدنى منها. عندما يصبح البروليتاريون القدامى برجوازيين صغارا في عصرنا هذا (ويقصى البرولياتريون الصغار من المشهد السياسي) ستجد فاشية الغد جمهورها في هذه الأغلبية الجديدة.
◄ 7- تقول الفاشية الدائمة للناس الذين يشعرون بأنهم محرومون من هوية اجتماعية واضحة إن امتيازهم الوحيد هو نفسه الأكثر شيوعا بينهم كونهم ولدوا في البلاد نفسها، وهذا هو أصل الوطنية. بالإضافة إلى أن الوحيدين الذين يمكن أن يقدّموا هوية للأمة هم أعداؤها، وهذا يعني أن استحواذ فكرة المؤامرة -وهي غالبا مؤامرة دولية- متجذر في الفاشية الدائمة إذ يجب أن يشعر الأتباع بالقلق، والطريقة الأسهل لحلّ هذه المعضلة تكمن في الكشف عن الخوف من الغرباء لكن المؤامرة أيضا يجب أن تأتي من الداخل، ويكون اليهود غالبا الهدف الأفضل لأنهم يمتازون بوجودهم في الداخل والخارج في الوقت نفسه (التحرير: التشبيه اليوم وبعد 20 عاما على كتابة المقال هو الأقرب لوضع المسلمين في الغرب). وقد ظهر مثال واضح على الهوس بنظرية المؤامرة في الولايات المتحدة وتجلّى في كتاب بات روبرتسون “النظام العالمي الجديد”، غير أن هناك أمثلة أخرى غيره كما شهدنا مؤخرًا.
◄ 8- يجب أن يشعر الأتباع بالذلّ من خلال تفاخر أعدائهم بالثروة والقوة. وأذكر أني حين كنت صغيرا كنت أظن أن الإنجليز شعب مرفّه، فهم يتناولون وجبات أكثر مما يفعل الإيطاليون الفقراء المقتصدون، كما أن اليهود أغنياء ويساعدون بعضهم بعضا من خلال شبكة سرية للمساعدة التعاونية. على أيّ حال يجب إقناع الأتباع أن بإمكانهم دحر الأعداء، ما يعني أنه من خلال تحول مستمر للتركيز الخطابي سيكون الأعداء أقوياء جدا وضعفاء جدًا في الوقت نفسه، وتتهم الأنظمة الفاشية بخسارتها للحروب بسبب عدم قدرتها على تقييم قدرات الأعداء بموضوعية.
◄ 9- بالنسبة إلى الفاشية الدائمة ليس هناك صراع من أجل الحياة بل بالأحرى الحياة تعاش من أجل الصراع، وبالتالي تتواطأ اللاعنفية مع الأعداء فهي سيئة؛ لأن الحياة نضال دائم وهذا على أيّ حال يخلق عقدة “أرمجدون – المعركة النهائية بين الخير والشر”. بما أن الأعداء يجب أن يهزموا يجب أن تكون هناك معركة أخيرة تسيطر بعدها الحركة على العالم. ولكن هذا الحل الأخير سيعني مجيء حقبة للسلام وعصر ذهبي يتناقض مع مبدأ الحرب الدائمة، وليس هناك من قائد فاشي نجح في حل هذا المأزق.
◄ 10 – إن النخبوية هي مظهر نمطي لأيّ أيديولوجيا رجعية بقدر ما هي أرستقراطية أساسا. وتعني النخبويةُ العدوانيةُ والأرستقراطيةُ ازدراءَ الضعيف بوحشية. يمكن للفاشية الدائمة أن تؤيد النخبوية الشعبية فقط، فكلّ مواطن ينتمي إلى أفضل الناس في العالم، وأعضاء الحزب هم الأفضل بين المواطنين، وكل مواطن يمكن (أو يجب أن) يصبح عضوا في الحزب، لكن لا يمكن أن يكون هناك أعضاء دون عوام. في الواقع يعرف القائد بأن سلطته لم تصل إليه ديمقراطيا لكنه انتزعها بالقوة، ويعرف أيضا أن قوته مبنية على ضعف الجماهير، فهي ضعيفة جدا إلى درجة أنها تحتاج وتستحق حاكما. وبما أن المجموعة منظمة تراتبيا (وفق نموذج عسكري) فإن كلّ قائد ثانوي يكره مرؤوسيه وكلّ واحد منهم يكره من هم أدنى منه وهذا يعزز حس النخبوية.
◄ 11- في منظور كهذا يتعلم الكل أن يصبح بطلا، وإن كان البطل في الأساطير كائنا استثنائيا، فالبطولة في أيديولوجيا الفاشية الدائمة هي القاعدة. هذه العبودية للبطولة مرتبطة بشدة بالعبودية للموت؛ فليس من قبيل المصادفة أن شعار الكتائبيين الإسبان كان “يحيا الموت”. ويتعلم العوام في المجتمعات غير الفاشية أن الموت هو حدث غير سارّ لكنه يجب أن يواجه بشجاعة، ويعرف المؤمنون أنه الطريقة المؤلمة للوصول إلى السعادة المطلقة. وعلى النقيض يتمنى بطل الفاشية الدائمة موتا بطوليا ويرى أنه المكافأة المثلى للحياة البطولية. وهذا يعني أن البطل في الفاشية الدائمة متلهّف للموت وفي لهفته هذه يرسل غالبا أناسا آخرين للموت.
◄ 12- بما أن كلا من الحرب الدائمة والبطولة هي ألعاب صعبة يحول الفاشي الدائم رغبته بالسلطة إلى الأمور الجنسية، وهذا هو أصل الفحولة (التي تعني ازدراء النساء والحساسية والإدانة للعادات الجنسية غير العادية من العفة إلى المثلية) ولكون الجنس لعبة صعبة أيضا، فإن البطل الفاشي يميل إلى اللعب بالأسلحة وبفعله ذلك يكون كمن يمارس المداعبة الجنسية الذاتية.
◄ 13 – إن الفاشية السرمدية مبنية على الشعبوية الانتقائية وهي شعبوية نوعية إذا جاز التعبير. في الديمقراطية يتمتع المواطن بحقوق فردية ولكن المواطنين في كليّتهم لهم تأثير سياسي فقط من وجهة نظر عددية، فأحدهم يتبع قرارات الأغلبية. بالنسبة إلى الفاشية السرمدية على أيّ حال لا يملك الأفراد حقوقا كأفراد، ويعتبر الشعب مجرد صفة أو كيانا متراصا يعبّر عن الإرادة المشتركة. وبما أنه لا يمكن لعدد كبير من البشر أن تكون لهم إرادة واحدة يتظاهر القائد بأنه مفسر إرادتهم، ولكونهم فقدوا سلطتهم في التعيين يفقد المواطنون قدرتهم على فعل شيء، فهم يستدعون فقط للعب دور الشعب. وهكذا فإن الشّعب هو مجرّد خيال مسرحي، ولن نحتاج ميدان فينيسيا في روما أو إستاد نورمبريغ لإظهار الشعبوية النوعية، ففي مستقبلنا شعبوية تلفزيونية أو إنترنتية يمكن أن تمثل عبرها ردة الفعل العاطفية لمجموعة منتقاة من المواطنين وتقبل باعتبارها صوت الشعب.
وبسبب شعبويتها النوعية يجب أن تكون الفاشية السرمدية ضد الحكومات البرلمانية “الفاسدة” وكان قول موسوليني “كان بإمكاني أن أحوّل هذا المكان الأصم والكئيب إلى مخيم لجنودي” – قطعة من الفيلق الروماني التقليدي- من أوائل الجمل التي قالها في البرلمان الإيطالي، وقد وجد مأوى أفضل لشرذمته، لكنه بعد ذلك بقليل حلّ البرلمان. وهذا يفضي بنا إلى القول إنه حينما يعبّر سياسي عن شكوكه حول شرعية البرلمان لأنه لم يعد يعبر عن صوت الشعب فيمكننا أن نشم رائحة الفاشية السرمدية.
◄ 14 – تتحدث الفاشية الدائمة لغة “الكلام الجديد” وهي اللغة المبهمة التي قد اخترعها أورويل في عمله 1984، إنها اللغة الرسمية “للإنجسوك” أي الاشتراكية الإنجليزية، ولكن عناصر الفاشية الدائمة مشتركة مع أنماط أخرى من الدكتاتوريات، فقد استخدمت كتب المدارس الفاشية أو النازية لغة فقيرة ونحوا بسيطا بهدف الحدّ من أدوات المنطق المعقد والنقدي، ولذا علينا أن نكون مستعدين لتحديد أنواع أخرى من اللغة المبهمة حتى لو كانت تظهر بمظهر البريء ظاهريا في برنامج حواري شعبي.
انهيار الفاشية
في صباح 27 يوليو/تموز 1943 علمت -وفقا لتقارير المذياع- بانهيار الفاشية واعتقال موسوليني، وعندما أرسلتني أمّي لشراء الصحيفة رأيت أن الصحف في الكشك القريب كانت تحمل عناوين مختلفة، وأدركت عندها أن كل صحيفة تقول أمورا مختلفة. اشتريت إحداها دون تفكير وقرأت رسالة في الصفحة الأولى وقعتها خمسة أو ستة أحزاب سياسية كان من بينها الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والحزب المسيحي الديمقراطي وحزب العمل والحزب الليبرالي.
حتى ذلك الوقت كنت مؤمنا بوجود حزب واحد في كل دولة والذي كان في إيطاليا هو الفاشي. الآن أجد في بلدي عددا من الأحزاب يمكن أن تظهر في الوقت نفسه، وبما أنّي كنت ولدا ذكيا فقد أدركت على الفور أن العديد من الأحزاب لم تظهر بين ليلة وضحاها، وأن من المؤكد أنها عملت لبعض الوقت كمنظمات سرية.
كانت الرسالة في الصفحة الأولى للجريدة تحتفل بنهاية الدكتاتورية وعودة الحرية، حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التنظيم والعمل السياسي. هذه الكلمات، حرية وليبرالية ودكتاتورية أقرأها الآن لأول مرة في حياتي.. فقد ولدت من جديد كرجل غربي حر بفضل هذه الكلمات الجديدة.
يجب أن نبقى متنبّهين بحيث لا ننسى الإحساس بهذه الكلمات مرة أخرى، فما تزال الفاشية السرمدية حولنا، أحيانا يكون ذلك بشكل خفيّ. وسيكون من السهل علينا أن نميّزها إن ظهر شخص ما في العالم ليقول: أريد فتح معسكر أوشفينيز من جديد، أو أريد للقمصان السوداء أن تؤدي عرضا في الميادين الإيطالية مرة أخرى. لكن الحياة ليست بهذه البساطة ويمكن للفاشية السرمدية أن تعود مقنعة بمظهر بريء، ومن واجبنا أن نكشفها ونشير بأصابعنا إلى أيّ شكل من أشكالها الحديثة كل يوم في كل جزء من العالم. وتبدو كلمات فرانكلين روزفلت في الرابع من نوفمبر 1938 جديرة بالاستدعاء هنا إذ يقول “إني أجرؤ على القول بتحدّ إنه إذا كفّت الديمقراطية الأميركية عن التقدم كقوى حيوية تسعى ليلا ونهارا بوسائل سلمية من أجل رخاء مواطنيها ستنمو الفاشية بقوة على أرضنا”.
الحرية والتحرر مهمتان لا نهائيتان وسأنهي حديثي هذا بقصيدة لفرانكو فورتيني:
“عَلَى حَاجِزِ الجِسْرِ
تتدلَّى رؤُوسُ المشنُوقين
وفي الجَدْولِ المُتَدَفِّق
يسيلُ لُعَابُهُم
عَلى رَصِيفِ السُّوق
أظافِرُ الذين اقْتِيدُوا في صفٍّ وأطْلقتْ عليْهم النَّار
علَى العُشْبِ الجَافِّ في الفَضَاءَات المَفْتُوحة
أسنانُهُم المكسُورةُ
تعضُّ الهواءَ وتعضُّ الأحْجَار
لم يعُدْ لحمُنا إنْسَانيّا
تعضُّ الهواءَ تعضُّ الأحْجَار
لم تعُدْ قُلُوبُنا إنسانيَّة
لكنَّنَا قرأنَا في عُيون المَوتَى
وسنَصْنعُ الحُريَّة على الأَرْض
في قَبَضَات المَوْتى المُطْبقَة بإحْكَام
تسْتَلْقِي الحُريَّةُ التِي عليْنَا أنْ ندافع عنها”.
المصدر