الثورة السورية بين النكوص والنقد

9 ديسمبر، 2016

مصطفى الولي

منذ وقت مبكر من عمر الثورة السورية، وتحديدًا مع بدء عمليات القتل التي مارسها نظام العصابة الطاغية على المتظاهرين العزَل في شوارع المدن والبلدات، برزت، وعند أكثر من شريحة في المجتمع السوري، عملية إعادة نظر إزاء ما يجري، وبفعل الرعب الذي جاء به بطش النظام، مفادها، على الرغم من تباين الخلفيات، وقف الاحتجاجات والتظاهرات؛ تجنبًا للموت الذي أصبح احتمالًا شبه مؤكد، لكل من يستمر في التعبير عن رفضه لاستمرار الواقع القائم، بصوت يدعو إلى الحرية والتغيير.

لكن مع كل تعثر أو تقهقر لقوى الثورة، سواء بسبب انتشار التيارات السلفية الإرهابية، وقيامها بتشويه المشهد العام، أو عندما كان النظام يحقق تقدمًا عسكريًا ميدانيًا ضد مواقع الثورة، تتكاثر التعبيرات عن حالة اليأس، وما تنطوي عليه من إرهاصات ارتدادية، تدعو مباشرة أو مداورة إلى “الخلاص” بأي ثمن من حالة التدهور، وبتأثير الويلات والخسائر الفادحة التي دفعها السوريون، دون أن يلحظوا بارقة أمل بالنصر وتحقيق الحرية.

انتشرت في وسط عدد من الناس البسطاء عبارة “لو بقينا ساكتين” مع كل حدث إجرامي يرتكبه النظام ضد المتظاهرين. وازدادت مخاوف الناس عندما شدد النظام من قبضته القمعية بنشر الحواجز، وتأزيم حياة الناس، زيادة على بدء ملامح التدهور الاقتصادي. غير أن هذه العبارة لم تكن واسعة الانتشار، بدليل أن احتجاجات المدن والبلدات استمرت وتصاعدت على الرغم من العدد المتزايد من القتلى بأسلحة جيش النظام وأجهزة أمنه وشبيحته. كما أنها “لو بقينا ساكتين”، لم تكن تُعبّر عن موقف نهائي لهؤلاء الناس البسطاء، فهم يقولونها بعفوية، بتأثير شدة القمع والإجرام الذي تمارسه قوى الطغيان، ويعودون إلى أقوال معاكسة، تشي عن رغبتهم بالتغيير، وباستمرار الكفاح في الرد على جرائم النظام.

هذا الوجه من الحقيقة لا يؤخذ عليه؛ لأنه لا ينطلق من خلفية أيديولوجية، فهو يأتي ردة فعل على فظاعة الجريمة وأهوالها. ومصدره الناس البسطاء، الذين لا حول لهم ولا قوة أمام وحشية منقطعة النظير في كل تاريخ العالم في القرنين السابق والجاري.

لكن ثمة وجه آخر، وهو ما أدعوه “النكوص”، أي إشاعة مناخات فكرية، بتنظيرات منفصلة عن الواقع، انبعثت من صفوف مثقفين، ومنهم “مناضلين” سابقين، أمعنوا في إنكار ضرورة الثورة، وصولًا إلى إدانتها، جملة وتفصيلًا. فهؤلاء كانت عبارتهم الأثيرة “ألم نقل لكم”! على ما تنطوي عليه العبارة من شماتة بالمأساة الدموية التي صنعها النظام بداية، وانخرطت فيها القوى الإرهابية السلفية. وفي التدقيق بأفكار وتنظيرات جماعة “ألم نقل لكم”، نقف على نموذج – نماذج، “المثقف الوصي” على الشعب، المتنكر لإرادته العفوية، التي فجرت خروجه بحثًا عن فضاء الحرية والتخلص من الاستبداد.

نعم جماعة “ألم نقل لكم”، يُقدّمون أنفسهم مصدرًا رئيسًا للمعرفة والحقيقة، فاتكؤوا على أفكار لا تطابق تجربة الشعب السوري التي بدأها في آذار/ مارس 2011. هم أرادوا للثورة برنامجًا وقيادة وتنظيمًا وخطة، أو أنَ لا داعي للقيام بثورة. ثم راحوا يدعِمون أفكارهم استنادًا إلى ظهور التشوهات في مسار الصراع ضد الطغيان. وكان بطش النظام وعصاباته متنفسًا لهم؛ لنشر مقولاتهم. وهي في جوهرها مقولات تدعو للعودة بسورية إلى ما قبل آذار/ مارس 2011. ذلك هو النكوص والارتداد التام. وعلى مقربة من فكرة “ألم نقل لكم”، كانت فكرة أخرى مفادها “أنه كان تأجيل الثورة أفضل”، وهو ما يفصح عن الارتداد والنكوص الكاملين؛ لأن ذلك يعني إدانة للثورة بذريعة توقيتها، حتى تنضج الشروط “الذاتية والموضوعية”!

يتسلح هؤلاء المثقفون بالدمار والجرائم التي حصلت في سورية، ويدعمون رأيهم أكثر بما يجري في ليبيا، لرفع شعار “الانتظار لنضج أوضاع أفضل”. فأي انتظار هذا والدكتاتورية تحول البلاد -أولًا بأول إلى ما يعادل الموت، موت من فساد وقمع وتخريب واستلاب وكم للأفواه، وكأن سورية، أو ليبيا، كانتا ستتقدمان نحو أوضاع أكثر ملاءمة لثورة “ناصعة ونظيفة وواعدة” في السنوات التي تأتي “لو” انفجار الثورتين تأخَر. فهم يتجاهلون أن أفكارهم الكسيحة والارتدادية، ما كان لهم أن يتفوهوا بها، على عقمها، لولا تفجر الثورة. ويتناسون أن استمرار حالة البلاد على ما هي عليه ما كان ممكنًا أولًا، وما كانت الشروط الموضوعية ستسير نحو تراكم المعطيات التي تجعل الزمن عامل نهوض لأي عامل ذاتي “حزب أو قيادة أو تنظيم”، ثم إن التاريخ ودروسه يقولان: إن الثورات تتفجر عندما لا تعود هناك فرصة متاحة لاستمرار التعايش بين الحاكمين والمحكومين. ولا يصح في واقع الثورات الشعبية، فعل الندم “لو أننا نعرف ما سيحصل” ما قمنا بالثورة. هذا المنطق يصح عند حسن نصر الله حين أقدم على اختطاف جنديين إسرائيليين، نتج عنه تدمير الجنوب وهدر دماء الآلاف، وصولًا إلى الإذعان لإرادة إسرائيل، لكن ثورة الملايين العفوية لا يصح معها فعل الندم، كما لا ينطبق عليها قانون تأجيل المواعيد.

ليس اكتشافًا “للبارود”، أن الثورة السورية عانت من خلل كبير في سيرورتها، إلى حدود خطِرة، وأصوات النقد رافقتها منذ أيامها الأولى، ومحاولات تصحيح مساراتها، وتقديم نماذج أفضل في ميدان المواجهة، كانت مرافقة لتطوراتها. والإصرار على بقائها ثورة من أجل الحرية ضد الاستبداد والقوى السلفية الظلامية، كان بارزًا ولا يزال، على الرغم من قسوة الأوضاع، ودفع عدد كبير من كوادرها العسكرية وناشطيها المدنيين حياتهم لإصرارهم على منع سقوط الثورة في مهاوي الظلام أو الهزيمة المطلقة. ويومًا إثر يوم، تتسع مساحة النقد؛ مقترنة بالعمل على التغيير لحماية الثورة، وتقدمها نحو انتصارها بإنجاز الحرية، وبناء سورية الديمقراطية. وهذا الاتجاه النقدي هو ما يفترض تعزيزه لإنقاذ الثورة وإبقائها تحت راياتها الأولى، وتخليصها من الأورام السرطانية، لا العكس.

وعليه؛ فالبون شاسع بين منطق “مثقفي النكوص”؛ أصحاب عبارة “ألم نقل لكم”، ومنطق النقد الجذري للأخطاء والانحرافات، لضمان انتصار ثورة الحرية. المنطق الأول، وحتى يجد له ما يبرره يحتاج إلى إلحاق الهزيمة بالثورة، وإعادة الشعب إلى حظيرة الاستبداد الفاشي، أما النقد، وهو ما يجب اعتماده دون تردد، وبلا مخاوف، فهو ما يشكل الدعامة الضرورية لحماية ثورة السوريين، وعدم تبديد تضحياتهم.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]