هيبة الدولة ضدّ حرية التعبير

10 ديسمبر، 2016

وائل السواح

اعتُقِل باسل الأمين في لبنان، وقُدِّم للقضاء بتهمة إهانة الجمهورية، بسبب نشره تعليقًا على “فيسبوك” قال فيه: إن حذاء اللاجئ “يساوي لبنانكم”.

باسل شاب لبناني يدرس الصحافة في الجامعة، ولعل أحد أساتذته علّمه أشياء عن الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي، فصدّق الشاب أن ما في الكتب ينطبق على الواقع.

شاهد باسل برنامج الـ (OTV) العنصري والفج الذي سخِر من عامل سوري بتفاهة مهنية وانحطاط أخلاقي؛ فغضب باسل وكتب ما كتب، ثم حذف كتابته، ولكن السيف سبق العذل، استُدعي إلى مكتب مكافحة الجريمة الإلكترونية، وسيمثل أمام النيابة العامة، لمجرّد أنّه تفاعل -كما غيره- الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي الذي استفزهم المشهد العنصري المقيت.

قبل أيام، أقدم مواطنون أميركيون على حرق العلم الأميركي؛ احتجاجًا على فوز عنصري، سوقي، وكاره للمرأة –دونالد ترامب– بانتخابات الرئاسة الأميركية، على الرغم من أن منافسته كلينتون فازت بأغلبية الناخبين، وبفارق أكثر من مليونين ومئتي ألف صوت، وحدثت في الولايات المتحدة ضجة في الإعلام وفي الطبقة السياسية. ردة فعل الرئيس المنتخب كانت أن طالب بتجريد من يحرق العلم من الجنسية، أو بالحكم عليه بالسجن، ولكن ترامب لا يعرف الدستور الأميركي، ولا يعترف بفصل السلطات.

رد فعل رجال القانون والسياسيين الأميركيين ووسائل الإعلام الكبرى أنّ حرق العلم، على الرغم من كونه فعلًا غير مقبول، ولكنه ليس جريمة يُعاقب عليها القانون، بل هو شكل من أشكال حرية التعبير التي ضمنها التعديل الأول للدستور الأميركي.

باسل الأمين كان حظّه أقل في لبنان، لقد لقي تضامنًا من بعض الناشطين المدنيين والديمقراطيين الذين اعترفوا أن تعليقه لم يكن لائقًا، ولكنه لا يستحق السجن، إلا أنه -في المقابل- تعرّض، وما يزال، لحملة شعواء من عدد كبير من المسؤولين والمواطنين، وانهالت عليه تعليقات غير لائقة.

كثير ممن انتقدوا باسل لإهانته الدولة، يهينون الدولة يوميًا إهانة عملية، بعضهم يمتنع عن تسديد فواتير الكهرباء، وآخرون يحتلون مساحات ومرافق عامة بغير حق، والأخطر من هذا وذاك من يمتشق السلاح وينتظم في ميليشيا مسلحة تهين الجمهورية يوميًا، بخلق دولة داخل دولة، ومؤسسات فوق مؤسسات، وتعطل الدستور والعمليات الانتخابية والحوار السياسي.

من عطّل انتخاب رئيس للجمهورية لثلاثين شهرًا يهين الجمهورية أكثر من باسل الأمين، ومن ينشر ميليشياته في العاصمة بيروت، والمدن الأخرى كافة؛ لإرهاب اللبنانيين يهين الجمهورية أكثر من باسل الأمين، ومن يفرض الثلث المُعطّل في كل حكومة لبنانية، يهين الجمهورية أكثر من باسل الأمين، ومن يُرسل شبابه ليَقتلوا ويُقتلوا من يفترض أن يكونوا أشقاءهم في سورية، يهين الجمهورية أكثر من باسل الأمين، ومن يمنع صوت فيروز من الغناء في الجامعة اللبنانية والأماكن العامة، يهين الجمهورية والتعايش اللبناني والثقافة والفن اللبنانيّين أكثر بكثير من تعليق كتبه طالب صحافة شاب على صفحته في الـ “فيسبوك”.

ومع ذلك؛ فإن باسل الأمين لم يخرق القانون اللبناني، كما أكد حقوقيون لبنانيون كبار، هنالك في القانون اللبناني –كما في القانون السوري– موادَّ تُدين المس بهيبة الدولة، وتحقير العلم والمس بالشعور القومي، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والقدح والذم، ولكن أيٌّ منها لا ينطبق على ما فعله باسل، ومع ذلك؛ لا عزاء لمن ليس له سند في بلادنا.

يُذكِّر اعتقال باسل الأمين بتهمة إهانة الجمهورية، واعتقال عشرات ألوف المعارضين السوريين في السابق بتهمة النيل من هيبة الدولة، حيث نصت المادة 285 من قانون العقوبات السوري على أن “من قام في سورية في زمن الحرب، أو عند توقع نشوبها، بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية، عوقب بالاعتقال المؤقت”، ونصت المادة 286 على أنه “يستحق العقوبة نفسها من نقل في سورية في الأحوال عينها (زمن الحرب أو توقع نشوبها) أنباء يعرف أنها كاذبة، أو مُبالغ فيها، من شأنها أن توهن نفسية الأمة”. ونصت المادة 287 على أن كل سوري “يُذيع في الخارج، وهو على بيّنة من الأمر، أنباءً كاذبة أو مبالغًا فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة، أو مكانتها المالية، يعاقب بالحبس”، وكم حُكِم بالسجن على مناضلين ومعارضين سوريين بهذه المواد!

تُذكِّر الحادثة -أيضًا- بصفّ من قادة الدين التكفيريين الذين يُهيّجون الشارع الإسلامي على امتداد العالم بأسره، كلما رسم فنان رسمًا كاريكاتيريًا مسيئًا لرمز ديني، ويتغافلون –في الوقت نفسه– عن مقتلة شعب بأكمله في حلب وحمص وإدلب وريف دمشق.

لا يحتاج الإسلام، أو أي دين عظيم، إلى مظاهرات عنيفة لتأييده، كما لا تحتاج أي دولة قوية لمعاقبة شاب صحافي من أجل تعليق على فيسبوك؛ لتحافظ على هيبتها. هيبة الدين ورموزه من قوة أفكاره ومعتقداته، وهيبة الدولة تأتي من قوة اقتصادها ومتانة مؤسساتها وسيادة القانون فيها، والمحافظة على كرامة مواطنيها وأمنهم وكرامتهم، لذلك؛ لا بدّ من أن ينتهي الزمن الذي تخاف فيه الدولة من مواطنيها، فينقلب خوفها قمعًا وجورًا وتعذيبًا وتدميرًا شاملًا، كما يحدث في جارة لبنان الكبرى: سورية.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]