بان كي مون وخطاب الوداع

15 ديسمبر، 2016

حافظ قرقوط

من الواضح أن بان كي مون، الذي يودّع منصبه أمينًا عامًا لهيئة “الأمم المتحدة”، تعّمد الحضور في الجلسة المخصصة لبحث الوضع المتردي في مدينة حلب، التي عُقدت أمس (الثلاثاء)، بدعوة من بريطانيا وفرنسا، حيث أدّى أنطونيو غوتيريس اليمين خلفاً له، على أن يستلم مهماته، بوصفه أمينًا عامًا جديدًا للمنظمة الدولية مطلع كانون الثاني/ يناير 2017، وكان خطاب بان كي مون داخل جلسة “مجلس الأمن ذي نبرة عاطفية تبريرية، قال فيه: “لقد خذلنا جميعنا شعب سورية، لم يقم مجلس الأمن بمسؤوليته الرئيسة في ما يتعلق بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين، إن التاريخ لن يغفر لنا بسهولة، ولكن هذا الفشل يجب أن يدفعنا إلى فعل مزيد، لنقدم لسكان حلب تضامننا في هذا الوقت”.

كما أكد بان كي مون، وصول “تقارير موثوقة إلى (الأمم المتحدة) عن مقتل العشرات في حلب، سواء بسبب القصف الكثيف، أم الإعدامات خارج نطاق القضاء من القوات الموالية للحكومة”.

وأضاف: “إن قتل وإصابة المدنيين بوحشية لايزال مستمرًا”، وأوضح أن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان “تلقى تقارير حول اعتقال وإعدام مدنيين، من بينهم نساء وأطفال، في أربعة أحياء، وفيما تتغير الخطوط الأمامية، يفرّ المدنيون عبر طرق خطرة، تاركين متعلقاتهم وراءهم، كما أن كثيرًا من الأسر فقدت الاتصال مع أقاربها داخل شرقي حلب، بعد أن شُرّدوا أو اضطروا لحرق الهواتف النقالة وبطاقاتها؛ خوفًا من تعرضهم للعواقب أو الاعتقال”.

وناشد أن “المهمة الفورية الآن هي فعل كل ما يمكننا لوقف المذبحة، وبينما تنتهي المعركة في حلب، أدعو السلطات السورية، وحلفاءها روسيا وإيران، إلى الوفاء بالتزاماتهم وفق القانون الإنساني الدولي، وفعل ما يلي: السماح عاجلًا للسكان المتبقين بمغادرة المنطقة، وتيسير الوصول إلى جميع العاملين في المجال الإنساني، وتوصيل المساعدة المهمة، ويتعين احترام قوانين الحرب وحقوق الإنسان”.

يمكن الاسترشاد بما سبق، والاستدلال بأن “الأمم المتحدة” بطاقمها المهني، لها دراية بكل شاردة وواردة، وذلك منذ أول رصاصة أطلقتها عناصر النظام السوري على المتظاهرين أمام الجامع العمري في درعا، في 18 آذار/ مارس 2011، كما يمكن القول إن بان كي مون يُدرك أن أعضاء مجلس الأمن الدائمين، لديهم من المعلومات ما يفوق حتى ما يُرسله السوريون، من الأخبار والصور والتسجيلات من قلب الحدث المتنقل على الجغرافيا السورية، وما رغب أن يُعلنه بان كي مون للملأ، أنه على الصعيد الشخصي عاش تلك الآلام، ويعرفها تمامًا، ويدينها، وهو لا يُعلن توصيفًا للحالة فحسب، بل إنه، كموظفي “الأمم المتحدة”، لا قرار له، وهم كالسوريون، يُطالبون ويتمنون ويقدّمون معلومات فحسب.

من المرجّح أن بان كي مون رغب، من خلال سياق الكلمات والنبرة، في الإشارة إلى أن أولئك المجتمعين معه في مجلس الأمن هم المدانون، فهم أصحاب القرار والمال والسياسة والعسكر و(الفيتو)، ولديهم وثائق القتل والقاتل والمقتول، ويُنفقون المال الوفير؛ للتخابر في ما بينهم، بل إن أسماء المواليد على هذه الكرة الأرضية بجري تبادلها وتعميمها بين أجهزة أمنهم ومطاراتهم ووكلائهم في أنحاء العالم، وهم يكذبون ويخدعون الشعوب المغلوبة على أمرها، وليسوا رعاة الحضارة وحماتها، فالحضارة ليست ميّزة امتلاك حق (الفيتو)، وليست صواريخ عابرة للقارات، ولا القدرة على إنتاج رؤوس نووية، وأسلحة بيولوجية وكيماوية وحارقة ومزلزلة، ولا بصناعة حاملات طائرات، بل الحضارة بصناعة السلام وحاملات الأخلاق والقيم، والحضارة بعدم الكذب والخداع والابتزاز، والحضارة بألا تتوحش طباع البشر.

في جلسة مجلس الأمن الأخيرة، كان واضحًا أن فيتالي تشوركين، مندوب روسيا، بوصفها دولة تمارس التوحش والإرهاب في سورية، يعرف بدوره أن من طالبهم بألا يأخذوا دور الواعظ في مجلس الأمن، فهم يستأنسون حتى اللحظة، بمرجعية بشار الجعفري ممثلًا للنظام، ويقبلون الاجتماع معه، على الرغم من أنهم يعرفون أن نظامه غارق حتى أذنيه في الدماء، ولا يحق لهم أن يقدّموا النقد والملاحظات واتهام روسيا ومن تحميه وتغطي على أفعاله بجرائم حرب، فكلهم في مطبخ هذه الحرب طهاة.

يمكن للسوريين أيضًا -بعد خطاب بان كي مون وجلسة مجلس الأمن الأخيرة- القول إن الجريمة المُستمرة في سورية، على الرغم من أن واجهتها معروفة، لكنها مُركّبة ومتسلسلة ولها ترابطها، وبان كي مون الذي لم ترجف يداه عندما قلّد الجعفري وسام الشرف، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ومعه السفير الروسي تشوركين، لن تستطيع الكلمات تغيير حالة عاشها ونفذّها بملء إرادته، فحين سلّم للجعفري وسامه، نقلت بعض وكالات الأنباء عن هيلين نوير، المدير التنفيذي لـ “مرصد الأمم المتحدة”، قوله: “كيف يمكن أن تُؤخذ تنديدات الأمين العام للأمم المتحدة بجرائم النظام في حلب، عندما يُعلّق الجوائز على صدر بشار الجعفري، الذي يدعم ويساند المجرم سيئ السمعة”.

ربما يكون خطاب بان كي مون هذا آخر خطاباته داخل هذا المجلس، بصفته أمينًا عامًا للأمم المتحدة، ليُقدّم “براءة ذمة” على طريقته لجريمة العصر، لكن تكريمه للجعفري أصبح جزءًا من المشهد التراجيدي الذي أحاط هذه السنوات من تاريخ الإنسانية، وهو تمامًا يشبه طاولة مجلس الأمن التي ما زالت تجمع الجعفري بسفراء دول كبرى، استطاعت سياساتهم بكفاءة منقطعة النظير، أن تُعيد البشرية إلى عصور الظلام، مهما حاولت منابر الخطابة تنظيف ملفاتهم ببعض العبارات الترويجية.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]