مشكلة الشرخ في الثورة السورية

15 ديسمبر، 2016

بدر الدين عرودكي

لا بدَّ لما نشهده اليوم من نكوص خطر في مدينة حلب، والذي يطرح كثيرًا من الأسئلة حول مختلف المشكلات التي واجهتها الثورة السورية منذ آذار/ مارس 2011 أن يحملنا، من أجل استمرارها، على استعادة نقدية لمسيرتها وخطواتها وخياراتها وتنظيماتها. لن تستطيع عجالة مثل هذا المقال بالطبع أن تقوم بذلك. لكن بوسعها -على الأقل- أن تتناول جانبًا يبدو أساسًا قبل الخوض في التفاصيل الذي يحتاج على كل حال إلى ما يمكن أن نسميه طرح المشكلة.

* * *

لم تكن حجة “خروج المتظاهرين من الجوامع” التي أطلقها -عام 2011- شاعر حداثي، كان ممن اعترفوا بشرعية النظام الأسدي جهارًا؛ ليبرر بها عدم تأييده لثورة السوريين في آذار/ مارس 2011، مجرد جملة عابرة تقول لا معنى لأي ثورة تتخذ منطلقًا لها مكانًا دينيًا. بل كانت تعكس في الحقيقة كثيرًا من مشكلات التفكير السياسي العربي لدى اليسار عمومًا، وكذلك لدى معظم مفكري الحداثة والعقلانية طوال النصف الثاني من القرن الماضي. لم ينتبه العديد منا إلى أن هذه “الحجة” التي خرج بها على الملأ مثقف “تنويري”، سبق له أن اعتبر الإمام محمد بن عبد الوهاب من رجال النهضة وهلل لثورة الخميني (لا لثورة الشعب الإيراني) وصفق لثوار تونس ومصر لكنه أحجم عن ذلك عند انطلاق الثورة في سورية، كانت تقول بلغة أخرى ما قاله النظام الأسدي نفسه عن الثورة والثوار حين وجَّهَ لهم تهمة “السلفية” والانتماء إلى “القاعدة”.  لكن الأهم من ذلك كله يتجلى -خصوصًا- في ما تقوله هذه الجملة عن القطيعة التي قامت منذ البداية بين تياريْن رئيسيْن في الفكر والعمل السياسي العربي: التيار الديني الذي نادى جملة، بأن “الإسلام هو الحل” والتيار المدني (اليساريون والليبراليون) الذي اعتمد في برامجه أو في أدبياته صيغًا مختلفة للعلمانية التي تعني في جوهرها فصل الدين عن الدولة. وطوال عقود طويلة بقي هذان التياران خطيْن متوازييْن لا يلتقيان. وما كان ممكنًا لهما في الحقيقة أن يلتقيا في غياب أي إرادة لدى كلٍّ منهما في لقاء الآخر ولو ضمن الحدود الدنيا.

كان وجود هذين التيارين على هذا النحو شديد الملاءمة للنظم العسكرية والاستبدادية التي استقرت في المنطقة العربية مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي. فبينما كان التيار الديني بمعرفة السلطات السياسية أو بالتواطؤ معها يتغلغل في عمق المجتمع، مدينة وريفًا، عبر جمعياته الخيرية ومدارسه الشرعية الخاصة وحلقات التدريس في المساجد تحت إشراف الأئمة المُكرَّسين لهذا الغرض فضلًا عن الحلقات الخاصة في بيوت هؤلاء الأخيرين بعيدًا عن الأنظار، أنظار السلطة وأنظار الخصوم معًا، بهدف تربية جيل من الدعاة الشباب، كانت الجماعات اليسارية على اختلافها ومنذ استقلال سورية تتلقى عنت وضربات النظم المتتالية، العسكرية منها خصوصًا، وتحاول المحافظة على وجودها بصورة أو بأخرى عاجزة عن تجاوز حدود المدن إلى الريف إلا فيما ندر، وغير قادرة على أن تجذب حاضنة شعبية حقيقية تحميها وترعاها. ذلك أنها بقيت حبيسة خطاب لم يتم تعريبه محليًا ومن ثم ترسيخه وجعله معتمدًا في المفردات اليومية لمختلف الطبقات الشعبية المستهدفة به.

وفي الوقت الذي كان الخطاب الإسلامي راسخًا بحكم طبيعة الجذور الثقافية لهذه الأخيرة سواء في حياتها أو في سلوكها اليوميين، كان الخطاب الآخر غريبًا بمفرداته وبمضامينه. كان الشيوعيون على سبيل المثال يضربون الأمثال وهم يستعرضون معارفهم الدقيقة عن الإنتاج الزراعي بـ “الكولخوزات” السوفياتية في الوقت الذي كانوا فيه يجهلون تمام الجهل الإنتاج الزراعي أو حتى العادات المتبعة في المعاملات والعقود الزراعية في واحدة من القرى المحيطة بدمشق أو حمص أو حماه! وما كان بوسع أيٍّ من الجماعات اليسارية على كل حال أن تدعو إلى علمانية الدولة صراحة وجهارًا في بيئة لم تكن مؤهلة للإصغاء إلى خطاب ذي مفردات لم تألفها أو لا يمكن لها بما وصلت إليه من مستوى في التعليم أن تفقه مراميها. وربما كانت مشكلة الخطاب هذه بما تعكسه من قصور جليّ في فهم المجتمع الذي تعيش فيه هذه الجماعات والذي تحاول أن تتصدى لقيادته من أجل السير به في طرق التقدم والتحرر هي التي حالت دون أن تكون جماهيرها كثيرة العدد، شديدة التنوع. وربما كان هذا الوضع هو الذي أدى في العديد من البلدان العربية وليس في سورية وحدها إلى أن تتقدم الأحزاب الإسلامية على سواها من الأحزاب الأخرى ولا سيما اليسارية منها في كل مرة أجريت فيها انتخابات حرة نسبيًا. رأينا ذلك في الجزائر مثلما رأيناه في مصر وفي الأردن وفي فلسطين. وعلى أن سورية لم تعرف الانتخابات الحرة منذ أكثر من خمسين عامًا، فإن سنوات الثورة قدمت أمثلة ساطعة في هذا المجال. فقد كانت التربة التي استطاعت القوى الثورية أن تحرث فيها وأن تستنبتها حواضن اجتماعية في كل الأراضي السورية شبه مهيأة تاريخيًا لاستقبال مختلف ضروب الجماعات ذات الطابع الإسلامي أو تلك التي تبنته مؤخرًا لامتلاكه جاذبية مستمرة للتمويل، أكثر من تلك التي كانت ذات نزعة يسارية أو ليبرالية ومن ثمَّ أقرب إلى نزوع وشعارات الثوار الأوائل في تطلعها إلى إسقاط الاستبداد والسير نحو حكم مدني ديمقراطي؛ وهي هذه الجماعات نفسها التي تكاثرت وباتت تعد بالمئات فشقت وحدة الثوار، وأعلنت محاربتها لشعاراتهم باسم ما سمته “حكم الشريعة” ضاربة عرض الحائط بمفاهيم المواطنة والديمقراطية، واستطاعت التحكم بمعظم الأراضي التي تم تحريرها من براثن النظام كي تحل محلها براثنها.

لم يكن العلم العميق ولا البراعة الاستثنائية من صفات هذه الجماعات الإسلامية. بل يبدو معظم مسؤوليها في الصفوف الأولى ومنهم المهندس والطبيب والأكاديمي حين يتحدثون في السياسة نظرية وممارسة وكأن الزمن في نظرهم قد توقف عند القرن الثامن أو التاسع الميلادي، أو القرنين الأول والثاني الهجريين. كما تتجلى خلاصة قدراتها وبراعتها في تطويع عقول بسطاء الناس ولاسيما الشباب منهم وهم في مقتبل أعمارهم. كل ذلك ظهر واضحًا خلال السنوات الخمس الأخيرة من عمر الثورة السورية في الصحف وفي الوسائل السمعية البصرية وفي الممارسات على صعيد المنظمات والكيانات التي تصدت للحديث باسم الثورة أو لتمثيلها.

وعلى أن الخطاب المقابل يبدو في ظاهره متماسكًا في صياغته وفي مضامينه وفي مراميه إلا أنه كان يشكو من ضربين من القصور على الأقل: أولاهما عدم إحاطته بكل عناصر الواقع الاجتماعي الذي يخاطبه وأخذ أهمها على الأقل بعين الاعتبار في أي مشروع يقترحه لمستقبل سورية؛ وثانيهما قصوره في عرض المفاهيم الحديثة التي ينادي بها ولاسيما منها العلمانية التي فهمت بين الأوساط الشعبية دعوة إلى الإلحاد أو التخلي عن الدين على سبيل المثال، أو الديمقراطية التي فهمت هي الأخرى كما لو كانت مجرد عملية انتخابية تتم كل أربع أو خمس سنوات لتجديد الطاقم الحاكم.

هكذا كان الشرخ يبدو عميقًا وواسعًا بين خطابين. وكذلك الأمر على صعيد القبول الشعبي لكل منهما. وبقدر ما كانت الجماعات الإسلامية تبدو عاجزة عن تجديد خطابها وحبيسة مفردات لا تمت إلى العصر بصلة بقدر ما كانت الجماعات اليسارية والليبرالية تبدو عاجزة عن فهم الواقع الاجتماعي في أبعاده المتعددة اجتماعيًا وتاريخيًا وحبيسة تفكير نخبوي  لم يتمكن من تجاوز حلقاته الضيقة كي يمس جماهير الجماعات الإسلامية ذاتها والتي تطلع دومًا إلى كسبها.

وليس ذلك إلا جانبًا جزئيًا من جوانب المشكلة التي عانتها ولا تزال تعانيها الثورة السورية.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]